شهدت أفريقيا رحلات سفاري سياسية بالغة الدلالة من قبل وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وثمة زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الأمريكي انطوني بلينكن إلى جنوب أفريقيا في أغسطس 2022. كما تم الإعلان عن القمة الأمريكية الأفريقية القادمة في ديسمبر المقبل، في نفس الوقت الذي أكدت فيه روسيا أن القمة الروسية الأفريقية القادمة سوف تعقد في العام القادم. ولعل هذا التوقيت وسط الصدام الغربي الروسي بسبب الحرب الأوكرانية، علاوة على سياسة الاحتواء الأمريكية للدور الصيني المتصاعد في النظام الدولي يُعيدنا إلى أجواء الحرب الباردة الأولي عندما وجدت إفريقيا نفسها تقع في فخ الحروب بالوكالة لصالح أي من القوتين الأعظم آنذاك، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
أذكر أن الرئيس عبد الفتاح السيسي استشهد ذات مرة في إحدى جلسات مؤتمر شباب العالم في مدينة شرم الشيخ عام 2019 بمثل أفريقي له مغزى ودلالة عميقة عن صراع الدول الكبرى على أفريقيا. كنت وأنا على مقاعد الدراسة بجامعة القاهرة أواخر سبعينيات القرن الماضي، أتوقف كثيرا عند هذا المثل أثناء دراسة واقع أفريقيا في فترة الحرب الباردة. يقول المثل: " عندما تتصارع الأفيال فإن العشب هو الذي يعاني". هذا المثل القديم لشعب الكيكيويو في كينيا لا يزال يحمل مصداقية في عالم اليوم رغم أن كلماته ترجع ربما لآلاف السنين. جوهر المثل ومعناه بسيط للغاية، عند صراع الأقوياء، فإن الضعفاء يتضررون أكثر من غيرهم. فهل تعي أفريقيا مغزى حكمة الأجداد هذه المرة فيما يبدو أنه صراع جديد من جانب القوى الكبرى على مواردها ومكانتها الجيوسياسية بالغة الأهمية؟
ماذا تريد روسيا من أفريقيا؟
في 24 يوليو 2022، قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأول جولة له في الدول الأفريقية منذ بداية الحرب في أوكرانيا: في غضون خمسة أيام، زار كلا من مصر وإثيوبيا وأوغندا وجمهورية الكونغو. وصفت وسائل الإعلام هذه الرحلة المختارة بعناية بالفعل بأنها "جولة حبوب": بسبب الحرب الأوكرانية والعقوبات، قد تفقد القارة ما يصل إلى 40٪ من واردات الحبوب، وزيارة لافروف لإفريقيا هي محاولة لإقناع "شركائه" بأن موسكو ليست هي المسئولة، بل أوكرانيا والغرب. في هذه الجولة لم يُصبح تعزيز التعاون العسكري بين روسيا والدول الأفريقية هو الموضوع الرئيسي لمفاوضات سيرجي لافروف. تم استبداله بمحاولات جادة لإقناع الأفارقة بأن موسكو لا تقف وراء أزمة الغذاء في أفريقيا، ومناقشة الخيارات الممكنة لحل مشكلة الغذاء. الحقيقة أن المجاعة الناجمة عن نقص الغذاء المستورد وارتفاع أسعاره يهدد عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في عدد من الدول الأفريقية. ومن المرجح أن تؤدي الأزمة الإنسانية إلى انفجار اجتماعي.
في الوقت نفسه، أعرب لافروف عن أمله في حث الدول الأفريقية على المطالبة برفع العقوبات ضد روسيا، كما ناقش في المحادثات تعزيز العلاقات التجارية لروسيا مع القارة، حيث يفقد اللاعبون التقليديون مواقعهم. وعليه سوف تسعى روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية التي اتخذت موقفًا محايدًا تجاه غزوها لأوكرانيا. يمكن لموسكو أن تكافئ تلك الدول بصادرات حبوب إضافية أو صفقات أسلحة أو استثمارات روسية إضافية - خاصة في مجال التعدين والهيدروكربونات والمعدات الزراعية والنووية. ولاشك أن تعزيز علاقات روسيا مع الدول الأفريقية سيمكن روسيا من إظهار أنها ليست معزولة دوليًا على الرغم من العقوبات الغربية، مع ضمان حياد الأفارقة المستمر، إن لم يكن دعمهم لروسيا خلال عمليات التصويت الرئيسية في الأمم المتحدة. ويلاحظ أنه منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لم تقم العديد من الدول الأفريقية بإدانة العدوان العسكري الروسي علانية. ففي اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة في أوائل شهر مارس 2022، لم تؤيد 25 دولة في القارة القرار التاريخي الذي يدين الغزو الروسي بعد ثلاثة أشهر تقريبًا ، في مايو2022 ، أثناء الاحتفال بيوم إفريقيا في موسكو، شكر لافروف "الشركاء" الأفارقة على موقفهم "المتوازن والموضوعي" من "العملية الخاصة". وقال لافروف "أنا متأكد من أن الأصدقاء الأفارقة لن يخضعوا لضغوط واشنطن التمييزية". بعد ذلك بقليل، في مقال نشره في الصحف الإفريقية المحلية، أكد لافروف أن الكرملين يدعم نضال القارة من أجل التحرر من "نير الاستعمار". ولعل ذلك يعيدنا مرة أخرى إلى نفس لغة وخطاب الحرب الباردة.
إن التوجه الأفريقي قد بدأ في الصعود في أولويات السياسة الخارجية لروسيا بعد عام 2015 على خلفية العقوبات الغربية والحاجة إلى تنويع الصادرات والواردات. وإذا كانت جولة لافروف لم تحقق إنجازات مهمة فإنها حافظت على ما هو قائم من العلاقات السياسية والاقتصادية مع أفريقيا. وربما تصبح أفريقيا محورية في السياسة الروسية بشكل يتجاوز منطقة الشرق الأوسط. ثمة مشاريع روسية جديدة في أفريقيا وهي تشمل تعدين البوكسيت والنفط البحري (روسال ، غرب إفريقيا ولاسيما نيجيريا) والتي تؤثر على أوبك وأوبك بلس ، بالإضافة إلى إنتاج اليورانيوم (شرق إفريقيا) ، والمعادن الأرضية النادرة (جنوب إفريقيا ) ، والنحاس اللازم للصناعة الروسية (زامبيا ، زيمبابوي - "حزام النحاس في إفريقيا") .
ماذا تريد فرنسا من أفريقيا؟
إن جولة إيمانويل ماكرون المصغرة في وسط إفريقيا التي شملت الكاميرون وبنين وغينيا بيساو، والتي بدأت يوم 25 يوليو 2022، هي قبل كل شيء محاولة لإصلاح ما أفسدته السياسة الفرنسية في أفريقيا. كما أنها تمثل "خطوة لتجديد علاقة فرنسا مع القارة الأفريقية" بحسب الإليزيه. كانت المحطة الأولى في الكاميرون تهدف إلى إعادة بناء العلاقات السياسية التي أضيرت بعد التوترات بين باريس والسلطات في ياوندي حول تزايد حدة العنف بين القوات الانفصالية والشرطة التي تكاد تمزق البلاد، بالإضافة إلى تهديد بوكو حرام وتهديدات الجماعات الجهادية العنيفة في الشمال. يبدو أن إيمانويل ماكرون أدرك أنه في هذا المجال الأمني وفي مجالات أخرى مثل الاقتصاد، أضحى الدور الذي كان يومًا ما محوريًا لفرنسا في إفريقيا الناطقة بالفرنسية محل نزاع وتنافس مع قوى أخرى. اليوم تمثل الشركات الفرنسية 10٪ فقط من الاقتصاد الكاميروني مقارنة بـ 40٪ في التسعينيات. ربما يُعزى ذلك - من بين أمور أخرى - إلى الوجود المتزايد لروسيا والصين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا الفرنكوفونية.
يبدو أن فرنسا تفقد نفوذها في أفريقيا. ففي جمهورية إفريقيا الوسطى، تدخلت فرنسا خلال الفترة من 2013 إلى 2016 في مواجهة حالة حرب أهلية بين ميليشيات خارجة تمامًا عن سيطرة حكومة بانغي. ورغم ذلك، يعتمد رئيس الجمهورية فاوستن أرشانج تواديرا منذ عام 2020 على شركة فاغنر الروسية لتعزيز قواته العسكرية وضمان أمن نظامه. وقد تكرر السيناريو نفسه في مالي. أعقب التدخلات العسكرية الفرنسية من 2014 إلى 2022 حضورا جديدا لقوات فاغنر شبه العسكرية التي استدعاها المجلس العسكري الحاكم في مالي. ولا تزال البلاد تعاني من مشاكل أمنية خطيرة، بسبب الوجود الجهادي وهشاشة الدولة والجيش. في المقابل، يتم الدفع لفاغنر بفضل العقود المثيرة لاستغلال الموارد المعدنية في مالي.
من جهة أخرى تستعد فرنسا لمواجهة الخطاب الروسي من خلال مساعدة دول المنطقة على التعامل مع أزمة الغذاء العالمية، فضلاً عن تنويع شراكاتها الثنائية لتشمل مجالات جديدة بما في ذلك التعليم والرقمنة. وستتطلع باريس أيضًا إلى تعزيز وجودها في دول وسط إفريقيا لضمان أن الشركات الفرنسية تعمل على أساس تكافؤ الفرص مع نظيراتها الروسية والصينية.
تميزت الفترة الرئاسية الأولى لماكرون بالتركيز على منطقة الساحل ومحاولات الوصول إلى الدول الأفريقية الناطقة باللغة الإنجليزية. ومع ذلك، فإن اختياره للسفر أولاً إلى الكاميرون بعد إعادة انتخابه مؤخرًا يشير إلى أن فترة ولايته الثانية ستشهد على الأرجح إعادة تركيز جهود فرنسا الدبلوماسية في مستعمراتها السابقة، حيث لا تزال باريس تحتفظ بنفوذ كبير. سيكون هذا صحيحًا بشكل خاص في وسط إفريقيا، حيث تتنافس روسيا بشكل متزايد مع النفوذ الفرنسي، كما يتضح من وجود مجموعة فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى وتوقيع موسكو على اتفاقية دفاع مع الكاميرون في أبريل الماضي.
الصراع الروسي الفرنسي
تتباين مصالح فرنسا وروسيا في وسط إفريقيا حول مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك الحوكمة والتعدين. لكن هذا لا يعني أن هذه المصالح غير متقاطعة - لا سيما فيما يتعلق بمبادرات مكافحة الإرهاب ضد جماعات مثل بوكو حرام وتنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا ، والتي تعتبرها كل من باريس وموسكو تهديدات أمنية خطيرة.شهدت رحلة ماكرون إلى الكاميرون ترويجًا قويًا لمبادرة المرونة الغذائية والزراعية (فارم) ، التي دشنتها فرنسا في مارس 2022 وتسعى إلى التخفيف من أزمة الأمن الغذائي المتزايد في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا ، وذلك عن طريق زيادة الإنتاج الزراعي في إفريقيا والشرق الأوسط من خلال زيادة غلات المحاصيل و تكثيف الإنتاج المحلي من الأسمدة. ولزيادة جاذبيتها في المنطقة، من المقرر أن تعزز فرنسا مبادرات سياسة مثل المبادرة الفرنسية لتسريع نمو المشاريع الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال في أفريقيا. ومبادرة ديجيتال أفريقيا، وهي مبادرات تهدف على التوالي إلى دعم الشركات الصغيرة والابتكار الرقمي في القارة.
وفي المقابل، من المرجح أن تتطلع دول وسط إفريقيا إلى الاستفادة من هجوم روسيا الناعم لتعظيم الاستثمارات والالتزامات الأمنية التي تحصل عليها من كل من موسكو والغرب. ليس لدى دول المنطقة مصلحة واضحة في أن تلتزم بشراكات تعاونية مع روسيا، لأن هذا من شأنه أن يقلل من قدرتها على انتزاع المزيد من الالتزامات من فرنسا وتعقيد علاقاتها مع المانحين الغربيين، الذين لا يزالون أساسيين للاقتصادات الوطنية الأفريقية.
من جهة أخرى سيؤدي غياب المصالح الروسية الملحة في إفريقيا والحرب المستمرة في أوكرانيا إلى تقليل شهية موسكو للقيام باستثمارات كبيرة جديدة وصفقات أسلحة في المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يدفع بروسيا إلى استخدام تكتيكات منخفضة التكلفة من خلال حرب المعلومات. ولكن على الرغم من قدرة موسكو المقيدة على المضي قدمًا في استثمارات كبيرة في إفريقيا، فإن استمرارها في إثارة النعرات الوطنية المناهضة للاستعمار سيظل مشكلة خطيرة لفرنسا، والتي ستحاول باريس مواجهة هذا الضرر الذي يلحق بسمعتها من خلال زيادة مشاركتها الأمنية والاقتصادية في وسط إفريقيا. ومع ذلك، يمكن أن تصبح الموازنة بين الغرب وروسيا تحديًا للقادة الأفارقة في حالة تنامي المشاعر الشعبوية المناهضة لفرنسا وتشكل مخاطر أمنية واقتصادية إضافية تنال من سمعة الشركات الفرنسية، وبدرجة أقل، الشركات الغربية العاملة في المنطقة.
وأخيرا، فإن الحرب الدعائية التي انخرط فيها كل من وزير الخارجية الروسي لافروف والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان أيضًا في نفس التوقيت في رحلة سفاري أفريقية تشير إلى أننا أمام حرب هجينة جديدة. وصف ماكرون روسيا بأنها "واحدة من آخر القوى الاستعمارية الإمبريالية المتبقية." كما اتهم الرئيس الفرنسي بعد ذلك روسيا باستخدام الطعام" كسلاح حرب “. ولعل هذا التدافع الدولي الجديد على أفريقيا يشير إلى أن الحرب الأوكرانية قد أعادت العالم إلى مواقف الحرب الباردة والمخاطرة بجعل إفريقيا ساحة معركة بالوكالة مرة أخرى. ومن المتوقع أن يصل وزير الخارجية الأمريكي بلينكين إلى جنوب إفريقيا في 7 أغسطس، حيث سيطلق استراتيجية الولايات المتحدة لأفريقيا جنوب الصحراء. ولعل ذلك يعزز وجهة النظر بأن البلدان الأفريقية أضحت ذات أهمية جيوستراتيجية بالغة ولاسيما في القضايا الأكثر إلحاحًا في عصرنا، مثل استقرار النظام الدولي ومعالجة آثار تغير المناخ وانعدام الأمن الغذائي والأوبئة العالمية وتشكيل المستقبل التكنولوجي والاقتصادي. كما يعقد رئيس الولايات المتحدة جو بايدن قمته التي طال انتظارها للزعماء الأفارقة في ديسمبر القادم. وطبقا لتحليل معهد الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا فإن هذه الديناميكيات والمعضلات تمثل صدى لتلك التي شهدتها الحرب الباردة "الأولى" - على الرغم من أن عالم 2022 ليس مشابهًا تماما لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا هو التحدي الأكبر.