ثلاثة مشاهد فى انتظار العراق

فى خطوة مفاجئة يوم الثلاثاء الفائت (2/8/2022) أصدر مقتدى الصدر زعيم التيار الصدرى أوامره، على لسان رجله الموثوق المتحدث باسمه صالح محمد العراقى، بانسحاب أنصاره المعتصمين داخل مبنى مجلس النواب العراقى، وقال العراقى فى تغريدة له أنه "بعد تحرير مجلس النواب وتحوله إلى مجلس للشعب بفضل الله تعالى وجهود الثوار الأبطال، يجب إخلاء مبنى البرلمان وتحول الاعتصام أمام وحول البرلمان ومقترباته (الأماكن القريبة منه) خلال مدة أقصاها 72 ساعة من تاريخ هذا المنشور" مضيفاً "إن كانت هناك أماكن أخرى ينبغى الاعتصام أمامها فستأتيكم التعليمات تباعاً"، المهم أنه أنهى بيانه بتأكيده على أن "ديمومة الاعتصام مهمة جداً لتحقيق المطالب" مشيراً إلى أنه "يجب تنظيم الاعتصام على شكل وجبات مع بقاء زخم الأعداد فى أوقات محددة".

من بين هذه الأشكال المبتكرة للاعتصامات تحدث العراقى عن تنظيم "صلاة جمعة موحدة" يوم الجمعة المقبل (5/8/2022) فى ساحة الاحتفالات ببغداد، كما تحدث عن "تشكيل لجنة من قبل المحتجين لإدارة الاحتجاجات وتنظيمها والاهتمام بكل ما يلزم".

بهذا المعنى نستطيع أن نقول أن مقتدى الصدر أراد توصيل رسالتين للطرف الآخر فى الصراع أى "إطار التنسيق" الذى يضم كافة القوى والأطراف الشيعية الأخرى باستثناء التيار الصدرى بالطبع، وكذلك للوسطاء الذين يحاولون احتواء الأزمة المتفجرة والعودة مجدداً إلى اعتماد "الحوار" كوسيلة لإدارة الصراع تجنباً لمسارات أخرى تهدد أمن واستقرار العراق.

الرسالة الأولى تقول أنه، أى مقتدى الصدر وتياره لديه استعداد للإنصات إلى الوسطاء وإلى دعاوى الحوار، أما الرسالة الثانية فتقول أنه ليس عنده أى استعداد للتراجع عن خيار الاعتصامات ، بل إنه يتجه نحو تصعيد الموقف بتفجير وقيادة حركة احتجاجات جماهيرية تعم محافظات العراق للتأكيد على أنه مع الاحتكام للشعب وليس للطبقة الحاكمة الذى يسعى إلى إسقاطها ويتهمها بالفساد .

هاتان الرسالتان تعودان بالأزمة إلى أصولها التى دفعت بالصدريين إلى التجمهر أمام الجسور التى تربط قلب العاصمة العراقية بغداد بالمنطقة الخضراء حيث مقر مؤسسات الحكم وبعض السفارات، خاصة السفارة الأمريكية، يوم الأربعاء (27/7/2022) ، ثم الدفع بها مجدداً إلى ذات المنطقة يوم السبت (30/7/2022) ثم إصدار أوامر احتلال مقر البرلمان حيث كان من المقرر انعقاد جلسة مجلس النواب فى ذلك اليوم لانتخاب رئيس الجمهورية الذى تعثر انتخابه على مدى الشهور الماضية منذ انتخابات أكتوبر 2021، ليقوم بدوره بتكليف رئيس الحكومة الجديدة المختار من الكتلة البرلمانية الكبرى حالياً وهى "الإطار التنسيقى" بعد انسحاب النواب الصدريين من البرلمان بأوامر من زعيمهم مقتدى الصدر.

أراد مقتدى الصدر أن يرد بهذه الخطوة على تجاهل "الإطار التنسيقى" لرفضه لترشيح محمد شياع السودانى القيادى السابق فى حزب الدعوة والمقرب لنورى المالكى لتولى رئاسة الحكومة الجديدة ، كما أراد أن يرد على تجاهل "الإطار التنسيقى" لرسالة التحذير الأولى التى وجهها مقتدى الصدر عبر "صلاة الجمعة الموحدة (15/7/2022)" التى جاءت رداً صارخاً على "التسريبات الصوتية" المنسوبة لنورى المالكى التى تضمنت "تعدياً على المرجعية، وسباً للشعب العراقى، والإساءة للقوات الأمنية، وتعدياً على الحشد الشعبى، وإثارة الفتنة، واتهامات لقيادات وطنية بلا دليل (مقتدى الصدر) ، وتعامل مع الخارج بدون غطاء قانونى"، كما تضمنت تلك التسريبات "تشكيل فصائل وشراء أسلحة ثقيلة وتحريض على القتل ونبرة طائفية تتعدى على القانون، وزعزعة الأمن، والاعتراف بقتل عراقيين بدم بارد، تحت مسمى القانون فى البصرة وكربلاء".

هذه التسريبات ، وكما وردت على لسان صالح محمد العراقى المتحدث باسم مقتدى الصدر، دفعته لتوجيه اللوم للقضاء فى حال صمته على مثل هذه التسريبات، لكن مقتدى الصدر أخذ المبادرة بنفسه وسعى لاستثمار هذه التسريبات للعصف بالمشروع السياسى للمالكى، عندما طالبه بـ "اعتزال العمل السياسى أو تسليم نفسه للقضاء"، ودعا حلفاءه فى "الإطار التنسيقى إلى البراءة منه".

وبعد ما جدد "الإطار التنسيقى" تمسكه بمرشحه محمد شياع السودانى مرشحاً لرئاسة الحكومة، ودعوة الإطار لجميع القوى السياسية إلى التوافق قبيل انعقاد جلسة البرلمان فى موعدها المقرر (السبت 30/7/2022) ، وشكل وفداً تفاوضياً، وبدأ التواصل مع القوى السياسية العراقية بهدف تشكيل الحكومة رغماً عن اعتراضات وشروط مقتدى الصدر، جاء قرار الصدر لأنصاره باقتحام مبنى مجلس النواب والاعتصام داخله، ليس فقط لمنع انعقاد جلسة البرلمان وتمرير مخطط "الإطار التنسيقى" فى فرض المرشح رئيساً للحكومة من جانبه، ولكن طموحاً لفرض معادلة سياسية جديدة هدفها "تصفير العملية السياسية" وإنهاء المعادلة السياسية التى فرضت على العراق منذ غزوه واحتلاله عام 2003 لصالح معادلة سياسية جديدة .

فى ظل هذا المشهد الصراعى الذى يتهدد العراق نستطيع أن نتلمس معالم ثلاثة مشاهد مستقبلية يمكن أن تؤول إليها الأحداث .

المشهد الأول: فرض معادلة سياسية جديدة

عاش العراق منذ احتلاله أمريكياً رهينة لعملية سياسية ودستور جرى تصنيعهما أمريكياً هدفهما الحيلولة دون إعادة تمكين العراق من النهوض مرة أخرى كى لا يعاود دوره الإقليمى التاريخى وأن يبقى رهينة لصراعاته الداخلية بين مكوناته الاجتماعية التى جرى تحفيزها للصراع بدلاً من التعايش الوطنى، فى معادلة تغلب "الهوية الطائفية" على "الهوية الوطنية" من خلال قاعدة "المحاصصة السياسية" فى الحكم .

هكذا خطط للعراق أن تذرع فى أحشائه بذور صراعاته وانقساماته، وأن تتأسس مصالح وقوى سياسية صاحبة حقوق تدافع عنها فى تلك العملية السياسية، التى نجحت فى إبقاء العراق على مدى كل تلك السنوات على سطح "صفيح ساخن" من الصراعات والانقسامات والولاءات.

والآن، فى ظل الحراك الشعبى الجديد الذى يقوده مقتدى الصدر وتياره الشعبى الواسع الذى احتل قاعة مجلس النواب العراقى يوم السبت الفائت (30/7/2022)، فى ذات اليوم الذى كان مقرراً أن يجتمع فيه البرلمان لانتخاب رئيس جديد يتولى بعدها تسمية رئيس الحكومة الجديدة الذى اختاره "الإطار التنسيقى"، وأنهى بذلك هذا الطموح، هل بات ممكناً الطموح فى أن يتمكن مقتدى الصدر من إلغاء العملية السياسية المفروضة على العراق برمتها منذ عام 2003، وأن يؤسس لعملية سياسية جديدة تحقق طموحات العراق فى مستقبل مازال يحلم به، أم لن يستطيع مقتدى القيام بهذه المهمة، وأن الأرجح أن يضطر إلى القبول "بتسوية ما" تحقق بعض المطالب وترجئ بعضها الآخر، أى الوقوع فى أسر "عملية إصلاح" على حساب طموحات عملية التغيير الكبرى، أو ما يسمى بـ "تصفير العملية السياسية"؟

حتى الآن يمكن القول أن "الغموض" هو سيد الموقف فى ظل كثافة الوساطات ومقترحات التسوية من ناحية، وفى ظل حالة الاحتقان المتزايدة فى مواقف الصدريين وزعيمهم مقتدى الصدر الذين باتوا على قناعة بأن "الفرصة أضحت مواتية للتغيير" فى ظل الاختلال الشديد فى توازن القوى بين الصدريين فى الشارع العراقى وبين قوى "الإطار التنسيقى" الذى تتفاقم المنافسات بينهم.

فقد وصف مقتدى الصدر (الأحد 31/7/2022) ما يحدث فى البلاد بـ "الفرصة العظيمة لتغيير النظام السياسى والدستور"، وأضاف "كلى أمل أن لا تتكرر مأساة تفويت الفرصة الذهبية الأولى عام 2016.. نعم هذه فرصة عظيمة لتغيير جذرى للنظام السياسى والدستور والانتخابات"، وخاطب الصدر أنصاره "إنكم جميعاً مسؤولون ، وكلكم على المحك: إما عراق شامخ بين الأمم أو عراق تبعى يتحكم به الفاسدون والتبعيون وذوو الأطماع الدنيوية تحركه أيادى الخارج شرقاً وغرباً". لم يكتف الصدر بذلك بل أنه دعا العشائر والقوات الأمنية والحشد الشعبى وكل فئات المجتمع إلى مناصرة الثائرين للإصلاح "لإنقاذ وطنكم وكرامتكم وهيبتكم". 

وسط هذا التسخين يتوقع البعض أن يسير مقتدى الصدر فى مشروعه التغييرى، وأن يكون "يوم عاشوراء" المقبل موعداً لإصدار "البيان الأول" فى "مشروع التغيير"، لكن أغلب التوقعات لا تعتقد ذلك لأسباب كثيرة؛ منها أولاً وجود قناعة تقول أن مقتدى الصدر ليس رجل مشروع سياسى بقدر ما هو ساع للهيمنة والسيطرة السياسية باسم تيار طائفى وليس باسم "حركة وطنية" وأنه يتحرك بـ "مزاجية شخصية انفعالية" أكثر من كونه محكوماً بعقلية ملتزمة بمشروع سياسى وطنى. ومنها عزوف من يسمون بـ "قوى تيار تشرين" ويقصد بهم القوى السياسية التى قادت الشارع السياسى العراقى فى أكتوبر/ تشرين أول عام 2019 مطالبة بالإصلاح السياسى والاقتصادى، وإقصاء الطبقة السياسية الحاكمة برمتها عن المشهد السياسى لصالح مشروع وطنى ديمقراطى، عن دعم حركة مقتدى الصدر الراهنة، بسبب خلفيات سلبية للصدريين إزاء هؤلاء فى أوقات حاسمة من حركتهم. هؤلاء يعتقدون أن "الصراع الحالى بين قوى طائفية شيعية على السلطة ومواردها، ومن غير المناسب زج الاحتجاج الوطنى فى أتون هذا الصراع"، وتتوجس معظم هذه القوى من "التقلبات الشديدة لزعيم التيار الصدرى مقتدى الصدر، وإمكانية انسحابه والانقلاب عليهم، فى أى لحظة، على غرار ما حدث فى السابق".

إذا أضفنا إلى ذلك الرفض المطلق لقوى "الإطار التنسيقى" المنافس لدعوة التغيير، واعتبارها "دعوة للانقلاب على الشعب والدولة ومؤسساتها وعلى العملية السياسية والدستور والانتخابات، وتعمدهم الزج بأنصارهم بعشرات الآلاف على أبواب المنطقة الخضراء لموازنة احتجاجات الصدريين فإن هذا الرفض الحاسم لخيار "التغيير" من جانب قوى "الإطار التنسيقى" إلى جانب عزوف قوى "تيار تشرين" يدعمه وجود أطراف قوية صاحبة مصلحة فى الإبقاء على النظام والحيلولة دون إسقاطه سواء من داخل العراق أو من خارجه.

فالمكونان الكردى والسنى أصحاب مصلحة فى معادلة التوازن التى فرضها نظام المحاصصة السياسية الذى أمّن "شراكة شبه متوازنة" للمكونين فى العملية السياسية القائمة بتخصيص رئاسة الجمهورية للمكون الكردى ورئاسة البرلمان للمكون السنى، لكن الأهم من ذلك أنه أعطى للكرد بالذات "حق الفيتو" على أى تعديل للدستور دون موافقتهم عندما اشترط موافقة ثلاثة محافظات على أى تعديل، ما يعنى تمكين الكرد من قول "لا" على أى تعديل دستورى لا يقبلون به، لذلك سارع هوشيار زيبارى وزير الخارجية والمالية الأسبق، والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية بإعلان ضرورة التمسك بالضوابط الدستورية عند أى دعوة للتغيير.

أما خارجياً فإن معظم القوى الإقليمية المحيطة بالعراق باتت صاحبة مصالح فى استمرار المعادلة السياسية التى تبقى العراق خاضعاً للاحتواء الذى فرض عليه بعد عام 2003، ناهيك عن الموقف الأمريكى، لكن يبرز الموقف الإيرانى فى مقدمة المتحفظين على أى تغيير فى المعادلة السياسية العراقية، لسببين؛ أولهما أن إيران تعد فى مقدمة القوى الداعمة لبقاء العراق خاضعاً للاحتواء وضعيفاً كى لا تتكرر "حرب الثمانى سنوات" مرة أخرى. ثانيهما، أن المعادلة الحالية تضع أنصار طهران على رأس الحكم فى بغداد، عكس تطلعات التيار الصدرى التى تطالب بالتخلص من "الهيمنات الخارجية" وعلى الأخص الهيمنة الإيرانية على مقاليد القرار السياسى فى العراق.

وإذا كان الكرد والسنة قد حاولوا عرقلة مسعى "الإطار التنسيقى" لفرض مرشحهم لرئاسة الحكومة من خلال التلويح بامتلاكهما معاً لـ "الثلث المعطل" داخل البرلمان القادر على منع انتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم وضع قوى "الإطار التنسيقى" أمام "خيار العجز" على نحو ما سبق أن حدث للتيار الصدرى بسبب امتلاك "الإطار التنسيقى" للثلث المعطل، فإن إيران هى الأخرى ما كان لها أن تقف صامتة وهى ترى تساقط العملية السياسية العراقية التى استطاعت من خلالها الحفاظ على  مصالحها، رغم ما صدر عن المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية الإيرانية من تأكيدات تقول أن التطورات الراهنة فى العراق "شأن داخلى، وأن الأحزاب والتيارات العراقية قادرة على تخطى هذه المرحلة".

لكل هذه الأسباب تبدو فرص هذا المشهد التغييرى الذى يريده مقتدى الصدر محدودة، الأمر الذى يتيح الفرص لمشاهد أخرى محتملة .

المشهد الثانى: الصدام الدموى والحرب الأهلية

هذا المشهد يمكن أن يفرض نفسه فى أى من حالتين أو فى وجودهما معاً؛ الأولى أن يصل التيار الصدرى إلى قناعة بأن التظاهر السلمى لم يعد كافياً لفرض التغيير المأمول على الطرف الآخر، وانسداد فرص البدائل الأخرى، والثانية وجود قناعة لدى قوى "الإطار التنسيقى" باستحالة عدول التيار الصدرى عن خيار "التغيير القسرى" من خارج الأطر الدستورية، وغياب الوساطات الكافية لتغليب خيار "الحوار".

فالتيار الصدرى اضطر للنزول بحشوده إلى الشارع والاعتصام فى البرلمان عندما تأكد من عجز الأطر الدستورية فى منع "الإطار التنسيقى" من إصراره على فرض مرشحه لرئاسة الحكومة مستفيداً بامتلاك الأغلبية لتحريك العملية السياسية بعد استقالة نواب التيار الصدرى الـ 73 وإحلال نواب بدلاً منهم ينتمون إلى "الإطار التنسيقى" . وعندما يجد التيار الصدرى أن هناك استحالة فى نجاح التظاهر السلمى عن تحقيق ما يهدف إليه من "ثورة تغييرية" وطموحات لجعل "شهر المُحرم" ملهماً للمزيد من الطموحات الثورية، قد يجد نفسه مدفوعاً لخيار الصدام الدموى الذى قد يدفع بخيار "الحرب الأهلية" .

فى ذات الوقت يدرك "الإطار التنسيقى" حجم طموحات التيار الصدرى، ويعى تماماً خصائص شخصية مقتدى الصدر ونوازعه لزعامة المكون الشيعى فى العراق، لذلك كان اللجوء إلى الدفع بالمتظاهرين التابعين له نحو المنطقة الخضراء فى مواجهة متظاهرى التيار الصدرى وقال فى بيان "إننا إذ نوصى بضبط النفس وأقصى درجات الصبر والاستعداد، فإننا ندعو جماهير الشعب العراقى المؤمنة بالقانون والدستور والشرعية الدستورية إلى التظاهر السلمى دفاعاً عن الدولة وشرعيتها ومؤسساتها، وفى مقدمتها السلطة القضائية والتشريعية والوقوف فى وجه هذا التجاوز الخطير (الاعتصام داخل البرلمان) والخروج عن القانون والأعراف " . لم يكتف بيان "الإطار التنسيقى" بذلك ، لكنه حمّل التيار الصدرى، ومن أسماهم بـ "الجهات السياسية التى تقف خلف هذا التصعيد والتجاوز على الدولة ومؤسساتها، كامل المسئولية عما قد يتعرض له السلم الأهلى نتيجة هذه الأفعال المخالفة للقانون".

كانت هذه هى المرة الأولى التى يجرى فيها الحديث عن تعريض "السلم الأهلى" للخطر، فى إشارة إلى خطر الدفع بخيار الصدامات الدموية التى قد تؤدى إلى الحرب الأهلية، خصوصاً وأن البيان الصادر عن "الإطار التنسيقى" قد وصف مشروع التيار الصدرى لتغيير العملية السياسية بأنه "دعوة إلى الانقلاب على الشعب والدولة ومؤسساتها، وعلى العملية السياسية والدستور والانتخابات، وهى دعوة للانقلاب على الشرعية الدستورية"، وأشار إلى أن ما يحدث "أمر خطير يعيد إلى الذاكرة الانقلابات الدموية التى عاشها العراق طيلة عقود الديكتاتورية ما قبل التغيير"، مؤكداً "أن الشعب العراقى الأصيل وعشائره الكريمة وقواه الحيّة لن تسمح بأى مساس بهذه الثوابت الدستورية من قبل جمهور كتلة سياسية واحدة لا تمثل كل الشعب العراقى".

فرص هذا المشهد تتدعم فى ظل وجود حالة احتقان عالية فى صفوف الصدريين المعتصمين حول البرلمان وفى المنطقة الخضراء وإعلانهم أنهم "خرجوا لثورة من أجل الإصلاح ولنصرة السيد القائد مقتدى الصدر" وتأكيداتهم "لن نبقى على الفاسد، والمجرب لا يجرب.. هؤلاء (الإطار التنسيقى) لا ينفعون بشئ.. لقد تسببوا لنا فى الأذى منذ عام 2003 ولم نر منهم نتيجة.. سرقونا".

المشهد الثالث: تفكيك الأزمة وتغليب الحوار

هذا المشهد يفرض نفسه كنتيجة لإدراك معظم القوى السياسية داخل العراق وخارجه للمخاطر التى يمكن أن تترتب على أى من المشهدين السابقين: مشهد إسقاط النظام ومشهد الحرب الأهلية. هناك من يخشون حدوث تطورات أكثر جذرية من جانب مقتدى الصدر وخشية من أن تكون الأيام القادمة مؤهلة لمزيد من التصعيد فى المواقف من جانب الطرفين المتصارعين: التيار الصدرى والإطار التنسيقى، خشية أن تكون محصلة ذلك هى الحرب الأهلية كخيار يرفضه الجميع.

هناك أيضاً من يتلمسون تراجعاً فى موقف التشدد من جانب التيار الصدرى بعد الانسحاب من مبنى البرلمان والاكتفاء بالاعتصام فى المناطق المحيطة به، باعتبار ذلك مؤشراً لوجود استعداد للقبول بوساطات لاحتواء الأزمة وتفكيكها، الأمر الذى بادرت به أطراف كثيرة من داخل العراق. مع وجود مؤشرات أخرى مشجعة لتهدئة التيار الصدرى منها وجود استعداد لدى "الإطار التنسيقى" لسحب مرشحهم لرئاسة الحكومة، وبدء القضاء العراقى التحقيق فى التسجيلات الصوتية التى جرى تسريبها والمنسوبة إلى نورى المالكى، حيث قال بيان للسلطة القضائية أن محكمة الكرخ تلقت طلباً إلى الإدعاء العام لاتخاذ الإجراءات القانونية بخصوص التسريبات الصوتية المنسوبة للمالكى، مبيناً أن المحكمة بدأت التحقيق الأصولى بشأنها. ويعد هذا سابقة فى العراق بعد عام 2003 حيث يباشر القضاء تحقيقاً بحق أحد زعامات الصف الأول فى النظام.  ومما دعم من فرص هذا المشهد وجود مطالب من جانب التيار الصدرى يمكن التفاوض والحوار حولها من أبرزها الدعوة إلى حل البرلمان والدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة، وإعادة تشكيل المحكمة الاتحادية على أسس جديدة أكثر شفافية (المحكمة متهمة بأنها صاحبة فتوى شرط الثلثين لانتخاب رئيس الجمهورية وهو الشرط الذى عجز مقتدى الصدر عن توفيره طيلة الأشهر الثمانى الماضية لانتخاب رئيس للجمهورية واختيار مرشح لرئاسة الحكومة)، إلى جانب مطلب محاربة الفساد والفاسدين.

من بين الأفكار التى طرحت لتشجيع خيار الحوار والتفاهم الدعوة إلى تشكيل حكومة طوارئ مؤقتة من التكنوقراط والمستقلين لمدة عامين لإخراج البلاد من الأزمة، وتهيئة الأوضاع لانتخابات برلمانية جديدة على أسس صحيحة، لكن دعوة "ائتلاف الوطنية" العراقى جذبت الأنظار بقوة نحو أرجحية خيار ما أسماه بـ "تفكيك الأزمة ونزع أسباب الاحتقان السياسى من خلال خيارات مقبولة" حيث دعا هذا الائتلاف الذى يتزعمه السياسى العراقى البارز إياد علاّوى إلى عقد "مؤتمر للحوار الوطنى" بين كافة الأطراف للاتفاق على خيارات مشتركة مقبولة، واقترح استضافة هذا الحوار، وعرض مجموعة من المقترحات لهذا الحوار من أبرزها التوافق على قانون انتخابى جديد، ومفوضية مستقلة للانتخابات مع تحول الحكومة الحالية إلى حكومة انتقالية تملك صلاحيات تشريعية بشكل مؤقت للبدء فى انتخابات جديدة.

ومع تزايد مقترحات الحوار والوساطة بدأت مبادرة رئيس الحكومة مصطفى الكاظمى لجمع أطراف الأزمة للحوار حول الحلول المناسبة التى أطلقها يوم الأحد (31/7/2022) تكتسب زخماً قوياً ودعماً متزايداً من داخل العراق وخارجه، حيث بدأت فعلاً استعدادات لتهيئة الأرضية الخاصة بالحوار وكيفية ترتيب الإجراءات الخاصة بذلك.

وكان الكاظمى قد دعا فى بيان له القوى السياسية إلى "عدم الانسياق نحو الاتهامات ولغة التخوين فى الوطن الواحد، والجلوس إلى طاولة حوار وطنى للوصول إلى حل سلمى للأزمة الحالية تحت سقف التآزر العراقى وآليات الحوار الوطنى". وأكد الكاظمى أنه "حان الوقت الآن للبحث فى آليات إطلاق مشروع وطنى إصلاحى يتفق عليه مختلف الأطراف الوطنية".

هل سيضيع مقتدى الصدر ما يراه فرصة سانحة لفرض التغيير المأمول والتأسيس لعملية سياسية جديدة على أساس مشروع وطنى مقابل إصلاح العملية السياسية القائمة خشية من التورط فى خيار الحرب الأهلية الذى يراه الجميع خطاً أحمر يجب عدم تجاوزه؟

سؤال تكشف إجابته أى مشهد سوف يفرض نفسه على العراق من المشاهد الثلاثة .

تعليقات القراء