خيارات صعبة: المشهد العراقي وسيناريوهاته المعقدة

تكشف الاحداث والتطورات المتصاعدة في العراق على ما يزيد عن عام عن حقيقتين أساسيتين: أولهما أن النظام السياسي الذي تأسس في العراق بعد اسقاط الرئيس الاسبق صدام حسين عام 2003 وعلى هدى دستور عام 2005 الذي فرضه الامريكيون على العراق، فقد الكثير من بريقه، وأن السعي من اجل التأسيس لنظام أخر بديل ولعملية سياسية بديلة أضحى أمراً لا تراجع عنه على نحو ما كشفته انتفاضة اكتوبر عام 2019 التي طالبت باسقاط الطبقة السياسية الحاكمة كما طالبت بالغاء المحاصصة السياسية كأساس للحكم وتأسيس نظام يعتمد على قاعدة المواطنة المتساوية وليس على "الطائفية السياسية".

ثانيها أن أي تفاهمات مأمولة وأي مصالحة بين الطرفين الشيعيين المتصارعين على قمة النظام: التيار الصدري والاطار التنسيقي لن تحظى بثقة أحد، على ضوء تباين المشروعات بين الطرفين. ففي الوقت الذي تزعم فيه السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري دعوى اقامة حكومة لا تعتمد المحاصصة وتحارب الفساد وتغير الطبقة الحاكمة، تمسك الاطار التنسيقي بالصيغة التقليدية للحكم، ودافع عنها باستماتة. والان وفي ظل التطورات الأخيرة التي هددت العراق، ووضعته أمام خطر الحرب الاهلية أو على الاقل الصدام الدموي، لم يعد ممكناً التعويل على تفاهمات للحل بين الطرفين، ولم يعد المأمول الان أكثر من التفاهم على اطار لحل الأزمة وتجاوزها، أو بالتحديد آلية لحل معضلة الافتراق بين الطرفين حول كيفية حل البرلمان واجراء انتخابات عامة مبكرة تحتكم إليها كل الأطراف في الخروج من الأزمة.

بعد "الإنفراجة المؤقتة" التي أحدثها بيان السيد مقتدى الصدر (الثلاثاء 31/8/2022)، بدعوة انصاره للانسحاب من محيط مجلس النواب داخل المنطقة الخضراء بعد يوم دام شديد الخطورة، تلى اعلانه انسحاب من الحياة السياسية (الاثنين 30/8/2022) ، وما ترتب على هذه الاستجابة وتلك الدعوة من استحسان ودعم من كل الأطراف بما فيها الاطار التنسيقي الذي بادر هو الآخر بدعوة انصاره بالانسحاب من مداخل المنطقة الخضراء، يبقى السؤال عن الخطوة التالية التي ستلي هذه الانفراجة المؤقتة .سؤالاً مهما في ظل العديد من الاعتبارات:

أول هذه الاعتبارات ما احدثته "صدفة" تلك الاحداث الدامية التي وقعت داخل المنطقة الخضراء في بغداد وفي العديد من المحافظات كرد فعل من انصار التيار الصدري عقب اعلان زعيمهم الانسحاب  من الحياة السياسية. ردود فعل كافة الأطراف الرافضة لهذه الصدامات وما كان يمكن ان يترتب عليها من تداعيات جعلت منها خطاً احمر يرغب الجميع في تجنبه، ومن هنا كان تفهم بعض قادة الاطار التنسيقي مثل هادي العامري رئيس تحالف الفتح لخطوة مقتدي الصدر الأخيرة (الخاصة بدعوة انصاره للانسحاب من الميادين)، والذي أثنى على تلك الخطوة ووصفها بانها شجاعة وتستحق التقدير والثناء، وانها جاءت في لحظة حرجة يراهن فيها الأعداء على توسيع الاقتتال بين الأخوة، مثل هذا التفهم يجئ في جانب ترجيح "التفاهم" على التصعيد، على نحو ما ورد في رد فعل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في "تغريدة" قال فيها ان كلمة سماحته (يقصد مقتدى الصدر) تحمل الجميع مسئولية أخلاقية ووطنية بحماية مقدرات العراق، والتوقف عن لغة التصعيد السياسي والأمني، والشروع في الحوار السريع الممتد لحل الأزمات.

ثاني هذه الاعتبارات الآثار العكسية التي أحدثتها ردود الفعل التي ترتب على اعلان مقتدى الصدر الانسحاب من الحياة السياسية، فإذا كان الخوف من أن ينحدر العراق نحو حرب أهلية أو على الأقل مواجهات دامية بين أنصار التيار الصدري وانصار الاطار التنسيقي  قد رجح كفة التوجه نحو خيار التفاهمات، فإن إعلان الصدر الانسحاب من الحياة السياسية أو على الأقل اعتزال العمل السياسي في 30 أغسطس  2022- الذي كان بمثابة الشرارة للاقتتال الذي تفجر عقب ذلك داخل المنطقة الخضراء واقتحام أنصار الصدر للقصر الرئاسي والعبث بمحتوياته - يعمل في الاتجاه المعاكس أي تعقيد فرص التفاهمات.

السؤال المهم الآن بهذا الخصوص هو: هل قرار الصدر اعتزال العمل السياسي قرار نهائي أم أنه مجرد قرار تكتيكي أراد به "حرق مراحل التصعيد" في الأزمة والوصول بها إلى ذروتها على نحو ما حدث فعلًا. ما يتردد بهذا الخصوص أو خاصة ما ورد في بيان الصدر في 31 أغسطس 2022 الذي طالب فيه أنصاره بالتوقف عن الاقتتال والعنف والانسحاب من محيط مجلس النواب، يرجح أنه قد يكون قرارًا أو اعتزالًا تكتيكيًّا. وإذا كان الأمر كذلك فإن فرص التفاهمات قد تتغلب على فرص التصعيد.

ثالث هذه الاعتبارات هي آلية الحوار التي سيتم اعتمادها للبدء في التفاهمات. فهذه الآلية ما زالت التوافقات حولها بعيدة المنال في ظل الفجوة الواسعة بين مواقف الطرفين. مقتدى الصدر يرى أن الآلية هي "حل البرلمان" ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وأن آلية ذلك هي "القضاء"، لكن مجلس القضاء يرفض هذا الطلب استنادًا على قاعدة أن القضاء لا يملك صلاحية حل مجلس النواب، وأن مجلس القضاء الأعلى ليس من مهامه أي صلاحية تجيز له التدخل في أمور السلطتين التشريعية أو التنفيذية تطبيقًا لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث المنصوص عليه في المادة (47) من دستور عام 2005.

هذا الرد دفع مقتدى الصدر للجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا التي منحها في 27 أغسطس 2022 مدة 72 ساعة للبت في الطلب، لكن عندما أرجأت المحكمة قرارها من 30 أغسطس إلى 31 أغسطس اتخذ الصدر قراره باعتزال الحياة السياسية الذي تفجرت الأحداث على أثره. واذا كانت المحكمة الاتحادية العليا قد اعتذرت عن البت في الطلب المعروض عليها يوم الثلاثاء بسبب ما استندت إليه وهو قرار الحكومة حظر التجوال، فإن التفاؤل ما زال محدودا بالنسبة لموافقة المحكمة الاتحادية على أمر لم يوافق عليه مجلس القضاء الأعلى.

اذا كانت الفرص ضعيفه أمام الآلية التى يعوّل عليها التيار الصدري فإن الإطار التنسيقي ما زال متمسكا بموقفه الرافض لأي آلية لحل البرلمان غير البرلمان نفسه. هذا الموقف أكده نورى المالكي، رئيس ائتلاف دولة القانون الذي وان كان قد توافق مع آلية حل البرلمان واجراء انتخابات مبكرة لتحريك الأزمةـ إلا أنه أكد إنه لا حل للبرلمان العراقي ولا تغيير للنظام السياسي في البلاد، ولا انتخابات الا بعودة البرلمان الى الانعقاد.

رابع هذه الاعتبارات يتعلق بالأهداف السياسية  العليا للتيار الصدري التى من أجلها أعلنت قيادته ما أسمته ب "ثورة إصلاحية"، وهى الأهداف التى تكشف عمق الفجوة بين الطرفين المتنازعين وتهدد أي فرص للتفاهم. فقد طرح التيار الصدري يوم الأحد 29 أغسطس رؤية جديدة ل"عراق مختلف تسوده المحبة والعدالة" بعد أن كان قد دعا إلى عدم مشاركة كل القوى والأحزاب السياسية بما فيها التيار الصدري التى شاركت في حكومات ما بعد  2003 في الحكم. ففى تغريدة لمن يعرف بوزير القائد دعا صالح محمد العراقي (مقرب من الصدر) الجميع إلى عراق جديد لا تبعية فيه، ولا ميليشيات.. ولا محاصصة فيه.

وزاد على ذلك بأن العراق الذي يريده الصدريون هو عراق فيه قانون يعمل به، وفيه إخوة تسود، وفيه المواطن مكرم، وفيه الأقليات تكرم، وفيه قضاء نزيه، وفيه علاقات مع الخارج متوازنة، وفيه سلام يسود، وفيه جيش يحمي، وفيه شعب يُخدم، وفيه حكومة تخدم، وفيه ولاء للوطن، وفيه العشائر تتآخى ..، وفيه الولاء للوطن مطلوب.

الأفكار الواردة في هذه الرؤية الصدرية قد تجد لها أرضية شعبية قوية خاصة في أوساط أنصار ما يعرف بانتفاضة تشرين عام 2019، لكنها لا تجد قبولًا صريحًا لدى الإطار التنسيقي وأحزابه وتياراته في ظل انحيازاته للطائفية السياسية وارتباطاته الإيرانية، لذلك فإن هذه الرؤية كفيلة بإنهاء أي فرصة للتفاهم. ومن ثم، لا يبقى إلا حصر التفاهمات حول الآلية الممكنة للخروج من الأزمة، إذا تم حصر الخروج من الأزمة بالأخذ بخيار الانتخابات.

إذا كانت التوافقات حول الآلية هي الحل فإنها تبقى محصورة في خيارين: الأول: التعويل على قرار تصره المحكمة العليا بحل البرلمان، لكنه يبقى تعويلاً ضعيفاً. الثاني: أن يصدر قراراً من رئيس الجمهورية بناء على توصية من رئيس الحكومة بحل البرلمان، لكن صعوبة هذا الخيار تكمن في أن الحكومة الحالية هي مجرد حكومة تصريف اعمال لا يحق لها ذلك حسب تأكيدات قادة الاطار التنسيقي، وأن رئيس الجمهورية قد تجاوز مدته الدستورية، لكن الحل لهذه المعضلة يكمن في الاستناد إلى القرار الذي منحت به المحكمة الاتحادية العليا استثناء للرئيس العراقي "برهم صالح" للبقاء في منصبه بعد أن تعذر انتخاب رئيس للجمهورية منذ شهر يناير الماضي. لو أصدرت المحكمة العليا قرارا بذلك المعنى لرئيس الحكومة "مصطفى الكاظمي" سيكون له الحق مع الرئيس في الدفع بهذا الخيار وتجاوز الأزمة، خاصةً وأن احداث الاثنين والثلاثاء الماضيين ( 30-31 أغسطس 2022) أكدت أن لا بديل لخيار الحوار غير خيار الصراع الدامي الذي يهدد مستقبل العراق.

تعليقات القراء