يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معركة شاقة خلال رحلته التي تهدف إلى إعادة تموضع بلاده في القارة الأفريقية التي بدت شعوبها تقاوم بشكل متزايد تدخل القوى الاستعمارية السابقة في شؤونها الداخلية .لقد تغير العالم حقًا وظهرت أجيال أفريقية شابة لم تترعرع في كنف الرابطة الأفريقية الفرنسية.
تبدأ جولة ماكرون الأفريقية في الأول من مارس 2023، ومن المقرر أن يزور الجابون وأنغولا والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية. ولعل ما يثير التأمل هو أن هذه رحلته الثامنة عشرة إلى القارة الأفريقية منذ توليه منصبه في عام 2017. لقد قطع ماكرون على نفسه وعدًا – هذه المرة - بتنفيذ نهج جديد لـ "شراكة بين أنداد" فيما يتعلق ببلدان إفريقيا.ومع ذلك ، فإن الوصول إلى هذا الهدف يبدو صعب المنال، حيث تواجه الخطط الفرنسية عدد من التحديات، فالنفوذ الروسي في القارة آخذ في الازدياد ، وباريس في موقف دفاعي بعد انتهاء عملية "برخان" لمحاربة الجماعات التكفيرية العنيفة في الساحل . وفي نفس الوقت تخسر الشركات الفرنسية السوق الأفريقية. سوف يحاول هذا المقال استكشاف دوافع تغير النهج الفرنسي في أفريقيا وتبيان ما يبدو أنه تدافع دولي جديد على النفوذ في أفريقيا.
النموذج الفرنسي الجديد
لعل الهدف الأبرز لرحلة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثامنة عشرة لأفريقيا هو الاعلان عن شراكة أمنية وسياسات اقتصادية جديدة في إفريقيا. لقد تعهد الرئيس ماكرون بخفض عدد القوات الفرنسية في إفريقيا في إطار "شراكة أمنية جديدة" مع الدول الأفريقية، جاء ذلك خلال كلمة ألقاها في قصر الإليزيه الرئاسي ، داعيًا إلى "حقبة جديدة" في العلاقات الفرنسية الأفريقية ، ووعد بسياسات اقتصادية أكثر طموحًا لتعزيز نفوذ فرنسا المتضائل في القارة. ووفقا للنهج الجديد يتعين على فرنسا الابتعاد عن التدخل في أجزاء من مستعمراتها الأفريقية السابقة ، إذ لم تعد القارة "الفناء الخلفي" لفرنسا. بدلاً من ذلك ، سوف تصبح الدول الأفريقية شريكًا لفرنسا في المصالح ومسؤوليات متوازنة ومتبادلة وخاضعة للمساءلة.
وعلى الرغم من تعهد الرئيس الفرنسي بـ "شراكة أمنية جديدة" مع تخفيض أعداد القوات الفرنسية في القارة ، فإن القواعد العسكرية الفرنسية لن تُغلق تمامًا . بل سيتم تحويلها بناءً على الاحتياجات التي يعبر عنها الشركاء الأفارقة. يبدو أن شكل الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا سيتغير ليصبح عبر قواعد ومدارس وأكاديميات ، والتي ستدار بشكل مشترك من قبل موظفين فرنسيين وأفارقة. ومن اللافت في هذا السياق تأكيد ماكرون على أن دور فرنسا في إفريقيا لا يتمثل في حل جميع المشكلات في القارة. بدلاً من ذلك ، فإن فرنسا سوف تتبنى نهجًا أكثر شمولاً يأخذ في الاعتبار التنمية الاجتماعية والاقتصادية للقارة الأفريقية.
لا يخفى أن إعلان الرئيس الفرنسي يمثل تحولًا مهمًا في سياسة فرنسا تجاه إفريقيا، فعلى مدى عقود ، حافظت فرنسا على وجود عسكري كبير في العديد من البلدان الأفريقية. يشير إعلان ماكرون إلى أن فرنسا تتطلع الآن إلى بناء شراكات أكثر إنصافًا مع الدول الأفريقية ، مع التركيز على التنمية الاقتصادية والاستقرار وهو ما يثير تساؤلات مهمة حول تغيرات النظام الدولي وتبعات الحرب الأوكرانية.
أسباب ودوافع الشراكة الجديدة
يمكن القول أن نموذج النفوذ الفرنسي التقليدي في إفريقيا ، والمعروف باسم فرانس-أفريك أو أفريقيا الفرنسية، واجه تحديات في السنوات الأخيرة وأن مكانة فرنسا في إفريقيا قد تراجعت بشكل ملحوظ. كان نموذج أفريقيا الفرنسية عبارة عن شبكة معقدة من العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي حافظت عليها فرنسا مع مستعمراتها الأفريقية السابقة منذ إنهاء الاستعمار. ومع ذلك ، فقد واجه النموذج انتقادات واسعة لاتهامه بإدامة نمط الاستعمار الجديد ودعم الأنظمة الاستبدادية في إفريقيا. في نهاية القرن العشرين، بدأ نموذج فرانس-أفريك يواجه مشاكل في التكيف مع المشهد العالمي المتغير، وذلك لعدة عوامل أهمها ما يلي:
أولاً، لم يعد النمط القديم للعلاقات بين فرنسا وأفريقيا مفهومًا من قبل الأجيال الجديدة من الشعوب الأفريقية أو من قبل الرأي العام في فرنسا. إذ يفتقر جيل الشباب إلى المعرفة والخبرة بمضامين أفريقيا الفرنسية وفلسفتها وهو يميل بشكل عكسي لرؤية العلاقات من خلال منظور مختلف. ثانيًا ، أصبحت تكلفة الحفاظ على العلاقات القائمة على فلسفة فرانس-أفريك لا تتناسب مع العوائد المتحققة منها ، وذلك في ضوء الظروف السياسية والاقتصادية المتغيرة. تحولت فرنسا إلى القيام بدور عسكري كامل في عام 2001 ، مما أدى على الفور إلى زيادة تكلفة الحفاظ على الوجود العسكري العالمي. ونتيجة لذلك ، انتقلت من استراتيجية التدخل المباشر إلى استراتيجية تفضيل العمليات التي يقوم بها الأفارقة وتوفر هي المساعدات غير المباشرة بدلاً من ذلك ، متجنبة التدخل الأحادي في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية مع الاحتفاظ بالاتفاقيات التي سبق إبرامها للدفاع عنها من العدوان الخارجي.
ثالثًا: علاوة على ذلك ، فإن متطلبات الاتحاد الأوروبي التي تحد من الإنفاق بالعجز( وهو الحد الذي تزيد فيه نسبة الإنفاق على إجمالي الدخل العام) ، وتكاليف شبكة الأمان الفرنسية السخية تقليديًا ، وشيخوخة السكان التي ترهق الموارد المالية ، كلها تضع ضغوطًا على فرنسا لخفض التكاليف في الداخل والخارج. ونتيجة لذلك ، تحولت فرنسا من استراتيجية التدخل المباشر إلى استراتيجية تدعم العمليات التي يقوم بها الأفارقة أنفسهم كما ذكرنا.
رابعًا :بالإضافة إلى ذلك ، أدى تاريخ فرنسا في التدخل في الشؤون الأفريقية إلى فقدان الثقة والمصداقية. على سبيل المثال أدى تورط البلاد في الإبادة الجماعية في رواندا ودعمها للأنظمة الاستبدادية إلى اتهامات بالتواطؤ في انتهاكات حقوق الإنسان وعدم الالتزام بالقيم الديمقراطية. في السنوات الأخيرة ، واجهت فرنسا أيضًا انتقادات بسبب تعاملها مع الأزمة في منطقة الساحل ، حيث تعرض تدخلها العسكري لانتقادات لتسببه في تفاقم حالة عدم الاستقرار. لقد ظهر ذلك بجلاء في الخطاب الشعبوي والجماهيري المناهض لفرنسا في دول مثل مالي وبوركينا فاسو.
بشكل عام ، بينما لا تزال فرنسا تحتفظ بعلاقات اقتصادية وعسكرية مهمة مع العديد من البلدان الأفريقية ، فإن وضع البلاد في أفريقيا يواجه تحديات جمة. إن المشهد العالمي المتغير ، والأولويات المتغيرة والضغوط الاقتصادية ، وفقدان المصداقية بسبب تاريخها في التدخل ودعم الأنظمة الاستبدادية ، كلها عوامل تساهم في تضاؤل نفوذ فرنسا في إفريقيا.
عصر جديد من التدافع الدولي على أفريقيا:
ليس بخاف أن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجابون وأنغولا وجمهورية الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية لحضور قمة بيئية تسلط الضوء على القلق المتزايد في باريس بشأن النفوذ الروسي المتزايد في إفريقيا الفرنكوفونية. اتهمت فرنسا وحلفاؤها الغربيون روسيا باستخدام شركة "فاجنر" الامنية للتدخل في شؤون الدول الأفريقية، بما في ذلك مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى ، وبنشر معلومات مضللة لتقويض المصالح الفرنسية في مستعمراتها السابقة.
لطالما كانت البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية تشكل مصلحة استراتيجية لفرنسا ، التي حافظت على وجود عسكري واقتصادي قوي في المنطقة منذ الحقبة الاستعمارية. ومع ذلك ، في السنوات الأخيرة ،كما بينا ، واجهت فرنسا منافسة متزايدة من قوى عالمية أخرى ، وخاصة روسيا والصين ، اللتين تسعيان إلى توسيع نفوذهما في المنطقة.
أثارت أنشطة روسيا في إفريقيا الفرنكوفونية مخاوف القوى الغربية ، بما في ذلك فرنسا ، بشأن نواياها في المنطقة. اتُهمت مجموعة فاجنر ، وهي شركة عسكرية خاصة يعتقد أنها قريبة من الحكومة الروسية ، بالضلوع في أنشطة مرتزقة في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى ، مع تقارير عن نشر معدات عسكرية وأفراد روس في هذين البلدين. لقد كانت فرنسا قلقة بشكل خاص من تأثير الأنشطة الروسية في منطقة الساحل ، حيث كانت تقود حملة دولية لمحاربة الجماعات الجهادية الإرهابية . ويبدو أن الوجود الروسي أدى إلى تعقيد جهود فرنسا ، مع ورود تقارير عن قيام عملاء روس بتقديم الدعم للجماعات المسلحة المعارضة للمصالح الفرنسية.
بالإضافة إلى أنشطتها العسكرية ، اتُهمت روسيا أيضًا بنشر معلومات مضللة في إفريقيا الفرنكوفونية لتقويض المصالح الفرنسية. وشمل ذلك نشر الأخبار المزيفة والدعاية المصممة لتصوير فرنسا على أنها قوة استعمارية جديدة تسعى إلى الحفاظ على سيطرتها على مستعمراتها السابقة.
ويعد الوجود الروسي المتزايد في إفريقيا الفرنكوفونية – من وجهة النظر الفرنسية - جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تحدي النفوذ الغربي في المنطقة. تسعى روسيا إلى توسيع وجودها في إفريقيا في السنوات الأخيرة، مع التركيز بشكل خاص على الطاقة والموارد المعدنية. ووقعت عددا من الاتفاقيات الاقتصادية مع دول أفريقية ، بما في ذلك أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ، وتعمل على زيادة وجودها العسكري والدبلوماسي في المنطقة.
كما أن الصين ، أيضًا ، حققت نجاحًا في إفريقيا الفرنكوفونية ، مع استثمارات كبيرة في البنية التحتية والتعدين وقطاعات أخرى. أثار ذلك كله مخاوف بين القوى الغربية بشأن نفوذ الصين المتنامي في المنطقة وتأثيرها المحتمل على ميزان القوى. في ظل هذه الخلفية ، تكتسب زيارة ماكرون لأفريقيا الفرنكوفونية أهمية إضافية. فإلى جانب حضوره قمة بيئية ، سيسعى إلى إعادة تأكيد التزام فرنسا بالمنطقة ومواجهة النفوذ المتزايد لروسيا والصين. ومن المرجح أن يسعى ماكرون إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الفرنسية مع هذه البلدان وتعزيز رؤية لمستقبل أكثر استدامة وإنصافًا لأفريقيا.
في الختام، ربما تعد زيارة ماكرون فرصة لفرنسا لإعادة تأكيد التزامها تجاه إفريقيا الفرنكوفونية ومواجهة التأثير المتزايد لمنافسيها في المنطقة. ورغم ذلك كله فإن معضلة ماكرون الأفريقية تشير إلى أن أفريقيا تشهد موجة جديدة من التدافع الدولي عليها، ولكن هذه المرة في ظل نظام دولي يتغير وبشكل مختلف عن مرحلة الحرب الباردة.