كليوباترا والحملة على مصر

لم أستغرب كثيرا قيام منصة نتفلكس بإنتاج فيلم وثائقي يصور الملكة الفرعونية الأشهر كليوباترا على أنها ذات بشرة داكنة، وهو ما أثار موجة من الانتقادات والغضب داخل مصر وخارجها. يكرر الفيلم الذي تجسد فيه ممثلة بريطانية دور الملكة التي حكمت مصر بين عامي 51 و 30 قبل الميلاد نفس الأخطاء التي تقوم على نفي الآخر والإقصاء التاريخي. إن الأمر لا يتعلق أبدا بلون البشرة حيث إن مصر بحسب عبقرية المكان تعد ملتقى الثقافات والحضارات. إن هذا التصوير والمشابهة لصورة الملكة المصرية غير دقيق من الناحية التاريخية لأنها ببساطة من أصول مقدونية. وطبقا لعلماء المصريات فإن تماثيل وصور الملكة ووالدها وشقيقها تؤكد بالدليل الأرجح على أنها لم تكن ذات بشرة داكنة. أصل الحكاية أننا أمام محاولات عنصرية تقوم على مفاهيم المركزية العرقية التي تؤمن بالتفوق العنصري وتعمل على نفي الآخر سواء كان أفريقيًا أو غربيًا أو عربيًا. على أن مكمن الخطورة لا يرتبط بلون بشرة كليوباترا أو زعم المغني "كيفين هارت" بأن أجداده هم بناة الأهرامات، وإنما يرتبط بمحاولات عزل المصريين اليوم عن تراثهم القديم وتصويرهم على أنهم "غزاة عرب". وربما يُخفي ذلك أغراضا خبيثة من أصحاب نظرية المركزية الأوروبية وهي استخدام هذه السردية الشريرة كمبرر لإنكار مطالبات المصريين بشأن إعادة جزء كبير من تراثهم الثقافي المسروق في المتاحف الأوروبية.

المركزية الأفريقية والإقصاء الثقافي

تذكرني هذه الموجة الجديدة من الحملة على التاريخ المصري التي تخمد حينًا وتشتعل أحايين أخرى بالحروب الثقافية في تسعينيات القرن الماضي وجسدتها تقاليد هارلم في قلب الحركة السوداء التي قادها أمريكيون من أصول أفريقية. كتبنا في موضع آخر عن شطط حركة الاستشراق الأسود حيث ظهرت نظريات الغزوات الآسيوية لأفريقيا بما يعنيه ذلك من إقصاء الدور العربي والإسلامي في تشكيل الهوية الأفريقية ثقافيًا وحضاريًا. وعلى سبيل المثال ، يتبنى موليفي أسانتي من رواد المركزية الأفريقية  مقولة أن الغزو الإسلامي لأفريقيا  أدى إلى زعزعة استقرار القارة بأكملها ، ليس هذا فحسب ، حيث ادعى أن كلا من الماركسية والإسلام أسهما بشكل بارز في إخراج  "الحركة السوداء" عن مسارها. على أن الذي يعنينا في هذا المقام هو أن موليفي أسانتي في أوائل التسعينيات أثار انتقادات واسعة كالتي نشهدها اليوم بزعمه أن كليوباترا ملكة مصر كانت سوداء ، وليست من أصول يونانية مقدونية ، وأن اليونانيين سرقوا تراث مصر.

دفعت تلك الحرب الثقافية التي كانت تتركز في حرم الجامعات وتتصدر عناوين الصحف البروفسور "ماري ليفكوويتز" في عام 1996 إلى إصدار كتابها بعنوان: "كيف أصبحت المركزية الأفريقية عذرًا لتدريس الأسطورة" لتدحض فيه ادعاءات الحركة المركزية الأفريقية. وتتمثل الحجة الأساسية في هذا الكتاب المهم في أن العديد من الادعاءات التي تطلقها حركة المركزية الأفريقية  هي تاريخيًا غير دقيقة وتفتقر إلى الأدلة ، وأن الحركة تستند إلى الأيديولوجية أكثر من  طرائق البحث العلمي. ومن المحتمل أن تكون الحركة قد استُخدمت للترويج لأجندة سياسية معينة ولمهاجمة شرعية الثقافة الغربية وبالطبع الثقافات الأخرى ، وأن هذا أدى إلى تدريس الأسطورة بدلاً من التاريخ في العديد من المدارس والجامعات. وتؤكد الأستاذة ليفكوويتز أنه من المهم التمييز بين الأيديولوجيا والحقيقة التاريخية، وأن الفهم الأكثر دقة للماضي ضروري لمستقبل أكثر عدلاً وإنصافًا.

محاولة للفهم

يكمن جانب كبير من محاولتنا لفهم الجذور الفكرية للحركة السوداء في محاولات الأوروبيين تخيل وتصور أفريقيا. يمكننا تتبع هذه التصورات المتخيلة في أدب الرحلات خلال فترة العصور الوسطى، والكتابات الحديثة المبكرة التي جاءت نتاجا للبعثات التجارية الأوروبية، وفي تقارير مسئولي الإدارة الاستعمارية والعديد من الدراسات الإثنوغرافية والتاريخية التي التحفت بثياب أكاديمية. المعرفة الغربية عن القارة جاءت في نهاية المطاف لملء المكتبات الاستعمارية التي كانت تعمل على خدمة الأهداف الإمبراطورية. كانت هذه المكتبات عنصرية الطابع والفكر. لا عجب في أن يتم تصنيف إفريقيا السوداء على عكس شمال إفريقيا، وذلك في سياق نظريات التفوق الأبيض. لقد تم تقسيم أفريقيا وفقا لسياسة هيجل الاستعمارية منذ قرون إلى ثلاثة أجزاء هي (1) "إفريقيا الأوروبية" الواقعة شمال الصحراء ؛ (2) مصر ، وهي الأراضي المتصلة بآسيا ؛ و(3) "أفريقيا الحقة" ، أي الأراضي الواقعة جنوب الصحراء ، والتي أطلق عليها الفيلسوف الألماني هيجل "أرض الطفولة  المختفية وراء نهار التاريخ الواعي لذاته وتتدثر بعباءة الليل البهيم". خلال الحقبة الاستعمارية ، تضاعف أثر هذا التقسيم لأفريقيا من خلال "الأطروحة الحامية" ، التي تنص على أن أي شيء ذو قيمة  حضارية في "أفريقيا جنوب الصحراء" ، يجب أن  يكون قد جاء نتيجة النفوذ السامي أو الشرق أوسطي أو الأمازيغي أو الأوروبي.  

ومن جهة أخرى تأثر العديد من كتاب المركزية الأفريقية بأطروحة الشيخ أنتا ديوب حول سكان مصر القديمة ، والتي قدمها في قمة اليونسكو التاريخية لعام 1974 في القاهرة.تتحدى أطروحة ديوب ، التي جادلت بأن المصريين القدماء كانوا أفارقة سود ، الرؤية  الهيجلية الأوروبية السائدة للحضارة المصرية القديمة وأكدت على أهمية التاريخ والثقافة الأفريقية. وبالفعل لاقت هذه الفكرة صدى لدى العديد من المنحدرين من أصل أفريقي ، الذين سعوا لاستعادة والاحتفاء بإسهامات الحضارات الأفريقية في تاريخ العالم.

وعلى أي الأحوال فإن رد الفعل الشوفيني الذي يقع في شرك جدلية لون بشرة كليوباترا أو القول  بأن  الحضارة المصرية القديمة  لم تحدث في إفريقيا" ، يعيد إلى الأذهان مرة أخرى أفريقيا المتخيلة بالمعنى الهيجلي الغربي. أي أن القول  بأن المصريين القدماء كانوا "مصريين وكفى" ولا علاقة لهم بجنوب الصحراء تستحضر نفس لغة هيجل المناهضة للسود .ولعل ذلك يستوجب التوكيد على اللحظات البطولية والملحمية في تاريخ الالتقاء العربي الأفريقي بل والأوربي كذلك والذي عبر عنه المفكر الكيني الأشهر على مزروعي باسم (أفرابيا). يعبرمفهوم أفرابيا  - على عكس الاقصاء التاريخي لمفاهيم المركزية المرتكزة على الجنس،  عما أسماه مزروعي  "الميراث الثلاثي" لإفريقيا -  كنموذج وحدوي بديل من جهة وكوحدة تحليل تتجاوز التصنيف الجغرافي العنصري البحت من جهة اخرى. يجادل مزروعي بأنه على مدى فترة طويلة كان هناك تباينًا بين الشعوب السامية ، مما ترك اليهود يتعاطفون مع أوروبا والأوروبيين وينتمون إليها بسهولة أكبر ، وفي المقابل حدث تقابل والتقاء بين العرب و الأفارقة. وهذا ليس بالأمر المستغرب حيث أن غالبية "العالم العربي"، من حيث عدد السكان والمساحة الجغرافية موجودة في قارة إفريقيا.

في الستينيات من القرن الماضي قدمت مصر الناصرية وعلى عكس مفاهيم الأثيوبيانية التي تؤمن بالتفوق الأمهري، رؤية وحدوية جامعة حيث تقع مصر في مركز ثلاثة دوائر متشابكة: عربية ، ومسلمة ، وأفريقية. هذا الشعور متعدد الدوائر والانتماء السياسي يعبر عن الرابطة  الأفروعربية . إنه  يفسر كذلك المشاعر التي يصل إليها عبد الناصر عندما أعلن بكل وضوح  انحيازه لأفريقيا قائلا: " لا نستطيع بحال من الأحوال ـ حتى لو أردنا ـ أن نقف بمعزل عن الصراع الدامي المخيف الذي يدور اليوم في أعماق إفريقيا بين خمسة ملايين من البيض ومائتي مليون من الأفارقة. لا يمكننا القيام بذلك لسبب رئيسي واحد واضح - نحن أنفسنا جزء من القارة الأفريقية"  ولعل ذلك هو الذي دفع  وليام دو بوي لأن يرى نفسه ومصر جزءا لا يتجزأ من أفريقيا وعالم الجنوب بشكل عام .

في عام 1964 ، قام "مالكوم إكس" برحلة إلى القاهرة ، حيث التقى بالعديد من القادة السياسيين والدينيين. كانت هذه الرحلة مهمة لمالكوم إكس لأنها تحدت معتقداته السابقة حول العلاقات بين الأعراق والإسلام ، كما أدت إلى  إعادة النظر في فهمه لأفريقيا والقومية السوداء . لقد تأثر بالضيافة والصداقة الحميمة التي عايشها في البلدان الإسلامية وأصبح ينتقد بشكل متزايد تعاليم أمة الإسلام.وقد صرح مالكوم إكس خلال زيارته للقاهرة ، "قلبي في القاهرة" ، معربًا عن إعجابه بالمدينة وسكانها. تأثر الحاج مالك كما كان يكنى بشكل خاص بمظاهر الوحدة التي رآها بين المسلمين من مختلف الأعراق والجنسيات واعتقد أن هذا النوع من التضامن يمكن تطبيقه على النضال من أجل تحرير السود في أمريكا.

 وفي الختام فإن الجدل الذي يطرحه بعض العلماء والنشطاء حول تصوير كليوباترا في الفن والأدب الغربي ، بما في ذلك الأفلام والبرامج التلفزيونية ، قد أدى إلى استمرار التحيز الأوروبي والأفريقي سواء بسواء والذي يشوه ويهمش الهوية المصرية. لقد كانت حضارة  قدماء المصريين متنوعة ومعقدة لا يمكن اختزالها في تسمية عرقية أو إثنية مبسطة. وعليه فإن سردية المركزية الأفريقية عن كليوباترا تتحدى الافتراضات التقليدية حول هويتها وإرثها ، وتسلط الضوء على أهمية وجود فهم أكثر شمولاً ودقة للتاريخ والثقافة المصرية. إن ردود الفعل الغاضبة تجاه بعض النداءات العنصرية المطالبة بتجريدنا من تاريخنا وتراثنا الحضاري المصري قد تذهب في شططها إلى العودة بنا مرة أخرى إلى تبني المفهوم الهيجلي المشوه عن أفريقيا وهو ما يعني عزل مصر عن جذورها الأفريقية. إننا بحاجة إلى حوار هادئ يستوحي خبرة لحظات النضال والتاريخ المشترك للشعوب العربية والأفريقية حينما كانت قلوب الأفارقة في بلاد المهجر تهفو إلى القاهرة التي قادت النضال مع كعبة الثوار في الجزائر لتحقيق حلم الوحدة الأفريقية وتأسيس مفاهيم الهوية الأفريقية الجامعة. 

تعليقات القراء