جاءت جولة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأفريقية التي بدأت يوم السابع من يونيو 2023 - وتشمل كل من أنجولا وزاميا وموزمبيق - في إطار توجه جيواستراتيجي جديد للسياسة الخارجية المصرية منذ عام 2014. انعكس ذلك بشكل واضح على زيارات الرئيس السيسي الأفريقية التي تجاوزت ثلاثين زيارة وشملت دولا لم يسبق لرئيس مصري أن قام بزيارتها من قبل. ولعل التساؤل المطروح هنا يتمثل في مدى أهمية هذه الجولة الرئاسية في منطقة الجنوب الأفريقي وارتباط ذلك بالعلاقات الاقتصادية والتجارية لمصر مع دول المنطقة. من المقرر أن يشارك الرئيس السيسي خلال زيارته إلى العاصمة الزامبية "لوساكا"، في أعمال القمة الثانية والعشرين للسوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي "كوميسا"، والتي ستشهد تسليم الرئاسة الدورية للتجمع من مصر إلى زامبيا. إذًا ماهي دلالات وأبعاد هذه الجولة الجنوب أفريقية التي قام بها الرئيس؟
إعادة الاعتبار للدائرة الأفريقية
لقد حددت الحكومة المصرية منذ عام 2014 اتجاهًا رئيسيًا جديدًا في سياستها الجيواستراتيجية ، حيث لم تعد منطقة الشرق الأوسط محل التركيز الاستراتيجي الرئيسي ، بل امتد نطاق الحركة المصرية ليشمل دوائر جديدة على رأسها الدائرة الإفريقية. وذلك لأول مرة منذ عقود التي تعيد فيها مصر التوازن لدوائر سياستها الخارجية كما سبق وتم التعبير عنها في فلسفة ثورة 23 يوليو 1952. على أن ذلك لا ينفي محاولات سابقة خلال الفترة الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك حيث قام الحزب الوطني الحاكم آنذاك بإصدار ورقة بعنوان "مصر وأفريقيا" ، والتي تم الانتهاء منها على ما يبدو في مايو 2005 ، والتي أشارت إلى ضرورة وضع إفريقيا على رأس أولويات السياسة المصرية. ومع ذلك فإن حالة الاحتقان السياسي والأزمات المتعددة في أواخر عصر مبارك وحتى نهاية حكم الاخوان المسلمين جعلت مصر تنكفا على الذات، وهو ما أدى إلى تراجع أولوياتها الإقليمية والدولية.
مع تولي الرئيس السيسي فترة رئاسته الأولى، كثفت مصر من جهودها الدبلوماسية في إفريقيا ، سعيًا لبناء وتقوية التحالفات السياسية. قام الرئيس السيسي بزيارات متكررة إلى الدول الأفريقية، وشارك في اجتماعات رفيعة المستوى وأقام علاقات شخصية مع القادة الأفارقة. كما سعت مصر إلى تعزيز مشاركتها في المنظمات الإقليمية الأفريقية وعلى رأسها الاتحاد الأفريقي، ودعمت بنشاط المبادرات التي تعزز السلام والأمن والاستقرار في القارة. في الوقت نفسه ، تدرك مصر أنه يمكنها أن تستعيد مكانتها البارزة التي كانت دومًا في قلب حركة "البان أفريكانزم" قولًا وعملًا. ومن المرجح أن يساعد هذا التوجه الجديد في إمكانية حصولها على أحد المقعدين الدائمين لتمثيل أفريقيا في مجلس الأمن في حالة تم توسيع العضوية فيه. ولا يخفى أن فوز مصر بمقعد دائم في مجلس الأمن على أساس تمثيل إفريقيا سوف يؤدي إلى استعادة مكانتها الإقليمية ليس في أفريقيا فحسب، ولكن إلى حد كبير ، أيضًا ، في الشرق الأوسط ومحيطها العربي.
تعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية
تتماشى زيارة دول الجنوب الأفريقي مع أهداف مصر لتعزيز العلاقات التجارية مع إفريقيا والتغلب على أي عقبات قد تعيق التجارة بين الدول بسبب تداعيات الصراع الأوكراني. ومن المعروف أن مصر من الدول الموقعة على العديد من الاتفاقيات التجارية بين الدول الأفريقية ، بما في ذلك منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا.
وطبقا لبيانات وزارة التجارة والصناعة المصرية فإن حجم التبادل التجاري بين مصر والدول الأفريقية بلغ 2.117 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2022 ، وبلغت الصادرات المصرية إلى دول أفريقيا 1.611 مليار دولار ، فيما استقرت الواردات عند 506 ملايين دولار. ولا يخفى ان هذه الأرقام لا تحقق الطموحات المرجوة إذا ما قورنت بدول أخرى مثل الصين التي تمثل الشريك التجاري الأول لأفريقيا منذ عام 2009. وثمة ملاحظة أخرى هي أن أكبر خمس أسواق للصادرات المصرية إلى إفريقيا هي ليبيا والسودان والجزائر والمغرب وتونس ، بقيمة 317 مليون دولار و 226 مليون دولار و 217 مليون دولار و 191 مليون دولار و 86 مليون دولار على التوالي ، بحسب البيانات الرسمية المصرية . وعليه فإن التوجه الرئاسي نحو الجنوب الأفريقي يعني في أبرز دلالاته البحث عن أسواق جديدة وتعزيز الروابط المصرية مع هذه الدول. وتجدر الإشارة إلى أن مصر لا تزال تبرز كواحدة من مناطق الاستثمار الرئيسية في إفريقيا ، على الرغم من التحديات الاقتصادية المتزايدة في البلاد.
مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني
كثفت مصر تعاونها الأمني مع الدول الأفريقية لمواجهة التحديات المشتركة، لا سيما في مكافحة الإرهاب والتطرف. دعا الرئيس السيسي إلى زيادة تبادل المعلومات الاستخباراتية، والتدريبات العسكرية المشتركة ، ومبادرات بناء القدرات لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين. كما شاركت مصر بنشاط في الجهود متعددة الجنسيات ، مثل قوة الساحل المشتركة G5 ومبادرات مكافحة الإرهاب التابعة للاتحاد الأفريقي . وقد تولت مصر رئاسة الاتحاد الأفريقي في عام 2019 ، وكانت مكافحة الإرهاب والتطرف إحدى الأولويات القصوى على جدول أعمالها. وفي هذا الصدد، أعلن رئيس الجمهورية عن إطلاق منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامة يومي 11 و 12 ديسمبر 2019 كمنصة دائمة ، على مستوى المنطقة والقارة ، للحوار والتفاعل بين السياسيين وقادة الرأي وصناع السلام وشركاء التنمية والخبراء من جميع دول القارة وخارجها ، ومنصة يمكن للجميع من خلالها مناقشة الصلة بين السلام والتنمية المستدامة. وتتماشى هذه الأهداف مع رؤية مصر الشاملة لمكافحة الإرهاب وستساعد الدول الأفريقية على تنفيذ أجندة 2030 للتنمية المستدامة وأجندة 2063 للاتحاد الأفريقي. وبالفعل نظمت مصر العديد من الأنشطة والفعاليات أبرزها ملتقى الشباب العربي والإفريقي الذي استضافته مدينة أسوان عاصمة الشباب الأفريقي لعام 2019 في الفترة من 16 إلى 18 مارس 2019 تحت رعاية رئيس الجمهورية. وفي ختام المنتدى، تبنى المشاركون مجموعة من التوصيات دعوا في إحداها إدارة منتدى شباب العالم إلى إنشاء مجموعة عمل عربية أفريقية لتطوير رؤية الشباب لآليات معالجة الاستقطاب الفكري والتطرف. كما تم اقتراح إنشاء آلية عربية أفريقية لمكافحة الإرهاب.
ومن المعروف أن موزمبيق التي تشملها جولة الرئيس السيسي لا تزال تعاني من تداعيات أنشطة الجماعات الإرهابية التي تبحث عن طرق جديدة للتجنيد و كسب عقول السكان ، وخاصة الشباب. وقد أودى التمرد الإرهابي في موزمبيق بحياة الآلاف منذ اندلاعه في عام 2017 وتعطيل مشروعات الغاز الطبيعي بمليارات الدولارات. وعليه فإن الاستفادة من الخبرة المصرية في محاربة الإرهاب سوف تكون عاملًا محفزًا على تنمية العلاقات الثنائية بين البلدين في كافة المجالات.
الأمن المائي وحوض النيل
ليس بخاف أن قضية الأمن المائي، خاصة فيما يتعلق بنهر النيل ، أسهمت بدور مهم في تحول مصر الاستراتيجي نحو إفريقيا. نظرًا لأن مصر بحسبانها دولة المصب تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مياه النيل ، فقد سعت إلى تعزيز علاقات التعاون مع دول المنبع في حوض النيل. وقد واصل الرئيس السيسي الحوار والمفاوضات لمعالجة إدارة الموارد المائية ، مؤكدًا على أهمية الاستخدام العادل والمستدام لمياه النيل. ومع استمرار التعنت الأثيوبي في رفض التوقيع على اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة كان على مصر أن تشرح قضيتها العادلة في كافة المحافل الأفريقية ولاسيما في ظل الروايات الأثيوبية غير الصحيحة.
التبادل الثقافي والتعليمي
ركزت مصر بشدة على التبادل الثقافي والتعليمي مع الدول الأفريقية. فقد دعم الرئيس السيسي مبادرات لتعزيز التفاهم الثقافي والتعاون الأكاديمي والتفاعل بين الشعوب. كما تم تقديم المنح الدراسية وبرامج التدريب للطلاب الأفارقة ، ونظمت الأحداث والمعارض الثقافية لعرض تراث مصر الغني. ولا يخفى أن هذا الجانب الثقافي يمثل ردًا موضوعيًا على بعض دعايات "الأفروسنتريزم" القائمة على الاقصاء والاستبعاد الثقافي للآخر استنادًا إلى مفاهيم العرق واللون.
وفي الختام يمكن القول أن زيارة دول الجنوب الأفريقي الثلاثة تعكس التحول الجيوستراتيجي لمصر نحو إفريقيا في عهد الرئيس السيسي ، وهو ما يشكل بدوره اعترافًا أوسع بأهمية القارة والفوائد المحتملة لتوسيع الدور المصري في العمق الأفريقي. ويسعى هذا النهج إلى تعزيز العلاقات ذات المنفعة المتبادلة، وتقوية نفوذ مصر الإقليمي ، والتصدي للتحديات المشتركة ، والمساهمة في تنمية إفريقيا واستقرارها. ومن الواضح أن السياسة المصرية الجديدة أضحت بشكل واضح أوسع بكثير من أن تكون أسيرة النظرة الضيقة القاصرة على قضايا النيل والقرن الأفريقي. ومع ذلك نحتاج إلى رؤية علمية واضحة وأكثر شمولًا ( كتاب أبيض عن مصر وأفريقيا) بشأن التحرك المصري في أفريقيا بما في ذلك صياغة خطة وطنية للاستثمار المصري في إفريقيا. كما ان هناك حاجة إلى توسيع روابط الشحن المصرية إلى جميع الموانئ الأفريقية الرئيسية ، وخلق قدرة تأمينية داخل مصر لسندات التجار المصريين ضد الخسائر التي قد يتعرضون لها في تطوير الأسواق الجديدة. ويمكن أن يكون للاستراتيجية المصرية الجديدة آثارًا عميقة وإيجابية على مصر والكثير من دول أفريقيا ولاسيما جنوب الصحراء ، حتى لو ركزت بشكل أساسي - في البداية - على بعض الأسواق المحتملة الرئيسية مثل أنجولا. علاوة على ذلك، عند بناء العلاقات الاستراتيجية في سياق الاتحاد الأفريقي، من الممكن تعزيز الزخم الأفريقي المتنامي بشأن قضايا حفظ السلام والاستقرار السياسي.