تشكل الجماعات الإسلامية الجهادية في ليبيا، أحد أبرز معضلات المسار الانتقالي في ليبيا بعد إسقاط نظام القذافي، لاسيما أنها تعد بمثابة مرآة عاكسة ليس فقط لمأزق بناء الدولة في هذا البلد، بل لما يمثل تنامي وجودها من تأثيرات ذات طبيعة تهديدية على الأمن القومي لدول الجوار الإقليمي، وخاصة مصر، لاسيما في ضوء الارتباطات العابرة للحدود بين الإسلاميين بأطيافهم المختلفة (المعتدلون، السلفيون المتشددون، الجهاديون المسلحون) الذين استثمروا ما أحدثته ثورات الربيع العربي من نفاذية إقليمية للأفكار والقضايا، وضعف لسلطة الدولة في تعضيد نفوذهم السياسي.
وإذا كان الأمن القومي المصري في مفهومه الواسع يستند على تأمين وجود الدولة وسلامة أركانها وتلبية احتياجاتها، وضمان مصالحها الحيوية، وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة سواء داخلياً أو خارجياً، فإن ليبيا تشكل في هذا الخصوص نقطة ارتباط استراتيجي لمصر، بحكم مرتكزات الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك والتواصلات الاجتماعية، بما يرتب تبعات ومصالح أمنية واقتصادية وسياسية مشتركة، حتى إنه يمكن القول إن البلدين يشكلان "عمقاً استراتيجياً متبادلاً"، بما يعني أن عدم استقرار أي منهما يشكل تأثيراً ممتداً، ومباشراً على الأخرى.
وما يعمق من التأثيرات المتبادلة مرور كلا البلدين، بثورات أسقطت الأنظمة الاستبدادية في الدولتين ( نظامي مبارك والقذافي) ، وخلقت في الوقت نفسه مسارات انتقالية قد تبدو متباينة للوهلة الأولى، لكنها متشابكة التأثيرات بحكم الارتباطات المتعددة بينهما، فبينما بدا المسار الانتقالي متردداً في مصر بعد الثورة ما بين مجلس عسكري، ثم اعتلاء للإخوان لسدة الحكم في انتخابات برلمانية ورئاسية، ثم سقوطهم في الـ30 من يونيو إثر موجة ثورية، إلا أنه ظلت هنالك مركزية للدولة تقودها المؤسسة العسكرية تجلت في عزل مرسي ومواجهة تنظيم الإخوان، في المقابل، فإن ليبيا خرجت من مركزية القوة التي كرّسها القذافي لـ42 عاماً إلى لامركزية القوة أو بتعبير أدق تفكك السلطة، سواء أمنياً (المليشيات المسلحة)، أو مناطقياً (النزعة للفيدرالية تارة والانفصال تارة أخرى في الشرق)، أو سياسياً حيث أفرزت الانتخابات عدم هيمنة حزب معين على الساحة السياسية، أو أيديولوجياً (تنامي تيارات إسلامية منخرطة في السياسة، وأخرى جهادية تتمرس عبر تنظيمات مسلحة).
ومن هنا، فإن تفكك السلطة، وليس الدولة في ليبيا أحدث أثراً انتشارياً للمكونات الداخلية الليبية المتصارعة، ومنها الجماعات الجهادية المسلحة على الأمن القومي المصري، حيث بدا أن الشرق الليبي يمثل مصدراً للسلاح، وتدريب الجهاديين المصريين، علاوة على أنه يمثل ملاذاً آمناً لإسلاميين فارين من الحملات الأمنية المصرية بعد 30 يونيو، ومن هنا، تستهدف تلك الورقة، تشريح مكونات الجماعات الإسلامية الجهادية الليبية، وعوامل نشأتها، وتطورها بعد الثورة، علاوة على تأثيراتها سواء القائمة أو المحتملة على الأمن القومي المصري.
أولاً: الجماعات الجهادية في ليبيا .. النشأة وعوامل التطور
لا يمكن فصل نشأة الجماعات الإسلامية الجهادية في ليبيا بمعزل عن السياق العام لنشأة تيار الإسلام السياسي، والذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين في العام 1949، كامتداد فكري للجماعة الأم التي أطلقها الشيخ حسن البنا في مصر في العام 1928، بعد قدوم عدد من المعلمين لإخوان مصر للتدريس في ليبيا، إذ مثلت الجماعة، سواء عبر أفكارها أو تقلبات مواجهتها مع نظام القذافي الوعاء الحاضن لنشأة التيارات الجهادية في ليبيا، وخصوصاً في الشرق الذي يملك "بنية تدينية متجذرة" عمّقتها الحركة الصوفية السنوسية.
لقد واجه نظام العقيد الليبي في سبعينيات القرن العشرين جماعة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، واستطاع تحجيم نفوذهما، سواء عبر حملات الاعتقال المستمرة أو تصفية قادتهم، مما شكل بيئة ملائمة لنشأة جماعات إسلامية مسلحة خاصة في الثمانينيات والتسعينيات ترى أن القوة المسلحة هي السبيل الوحيد لمواجهة نظام القذافي، خاصة مع تصاعد مساحة التأييد للتيار السلفي، خاصة في منطقة الشرق الليبي على حساب الإخوان الذين عانوا من ضعف انتشارهم نتاج الضربات الأمنية، كما أسهمت حرب أفغانستان التي مثلت بؤرة جهادية ضد السوفييت آنذاك في تشجيع ثقافة الجهاد المسلح ضد الأنظمة في المنطقة.
وفي هذا السياق، برزت تنظيمات مسلحة مناهضة للنظام الليبي، ومنها الجماعة الليبية المقاتلة، وحركة شهداء الإسلام، بيد أن المواجهات الأعنف كانت بين النظام والجماعة الليبية المقاتلة، لاسيما أن تلك الجماعة أنشأها مجموعة من الشباب الذين شاركوا في الحرب الأفغانية – السوفيتية، وقاموا بعمليات مسلحة في ليبيا في التسعينيات، بهدف إسقاط النظام بقوة السلاح، وفي 18 أكتوبر 1995، صدر أول بيان بشأن الإعلان عن قيام الجماعة الليبية المقاتلة لإقامة الدولة الإسلامية، مستندين إلى قوة السلاح.
وفي مواجهة تلك الجماعة الجهادية المسلحة، لجأ نظام القذافي إلى عدة استراتيجيات لتقليص المد الجهادي، أولها: تشجيع " التيار السلفي المدخلي" ( نسبة إلى شيخ سعودي يدعى ربيع المدخلي) غير المنخرط سياسياً والمتنامي في الشرق، عبر فك القيود عنه، خاصة أنه لعب دوراً في مهاجمة الجماعات الإسلامية الأخرى، على غرار استراتيجية اتبعت في مصر إبان حقبة مبارك، خصوصاً لمواجهة الإخوان بسلفيين غير مسيسين، بهدف تقليص مساحة التأييد الاجتماعي للإخوان من جهة، ومن جهة أخرى مواجهة التيار الجهادي المتصادم مع الدولة (الجماعة الليبية المقاتلة)، خاصة في شرق ليبيا، وثانيها، سعى نظام العقيد القذافي خاصة مع التوجه الإصلاحي لابنه سيف الإسلام القذافي، خاصة في عامي 2005 و2006 إلى محاورة قيادات من الإخوان وعدد أخر من الجماعات الجهادية في العام 2007، ضمن محاولات احتواء المعارضة آنذاك وقيام بعض الجهاديين بمراجعات لنبذ العنف لتخفيف الضغوط المتنامية ضد القذافي في الداخل والخارج، أما الاستراتيجية الثالثة، فقد ذهب نظام القذافي بعيداً لتأمين نظامه من هجمات الجهاديين، بالتعاون مع الولايات المتحدة لمواجهة العناصر الجهادية الليبية المنتمية لتنظيم القاعدة، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حتى أن القذافي نفسه أماط اللثام عن ذلك التعاون في العام 2003، عندما تحدث بأنه يقدم معلومات إلى واشنطن لمواجهة الإرهابيين الليبيين.
وبشكل عام، فإن نظام القذافي أسهم أن يصبح المزاج العام للتيار الإسلامي في ليبيا أقرب إلى الشكل الجهادي المسلح منه إلى المعتدل، بسبب السياسات الأمنية العنيفة والاستئصالية، حتى تحوّل الشرق من موطن للإخوان والسنوسية الصوفية المعتدلة إلى حاضنة للجماعات الجهادية، خاصة في ظل تقارب تلك المنطقة مع الثقافة العربية، بينما مالت جماعة الإخوان إلى إقليم الغرب، وخصوصاً طرابلس الأكثر انفتاحاً بفعل تماسها مع الدول الأوروبية، برغم عدم تخليها عن أنشطتها الاجتماعية في الشرق.
بيد أن مرحلة إسقاط القذافي شهدت إحياءً للتيارات الإسلامية بشقيها المعتدل والمتشدد، لاسيما إثر مشاركتهم بفاعلية في محاربة قواته، خاصة في الشرق التي انطلقت منه ثورة الـ17 من فبراير احتجاجاً على التهميش السياسي والتنموي، ومع سقوط النظام، وانفتاح المجال السياسي في المرحلة الانتقالية، ورخاوة السلطة الانتقالية، وطغيان حالة توزان الضعف على البلاد، حيث لا توجد قوة مركزية تدير الساحة السياسية، بدأت تحدث تغيرات على خريطة التيارات الإسلامية بشكل عام والجهادية خصوصاً، فقد سعت جماعة "الإخوان المسلمون" إلى تكريس دورها السياسي، عبر إعادة ترتيب قواعدها الشعبية مع مؤتمرها الشعبي الأول في نوفمبر 2011، حيث تم اختيار بشير الكبتي مراقباً عاماً جديداً لها، كما أسست الجماعة حزب البناء والعدالة كذراع لها في الحياة السياسية، مستغلة حالة الصعود السياسي للإسلاميين في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، حيث كان لها حضور في المجلس الوطني الانتقالي الذي تأسس في أعقاب الثورة، كما استطاع الحزب أن يحل ثانياً في انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو 2012 بعد تحالف القوى الوطنية ذي التوجهات الليبرالية والذي يتزعمه محمود جبريل.
في الوقت نفسه، تشرذمت الجماعات الجهادية الليبية، وخرج من عباءتها اتجاهان بعد سقوط نظام العقيد الليبي، وهما:
الاتجاه الأول: الجهاديون المنخرطون في العمل السياسي الذين قاموا بمراجعات لنبذ العنف قبل الثورة داخل سجون القذافي، وهم غالباً من الجيل الأول الذي مر بمرحلة الصدام مع النظام الليبي، وشارك بعضهم في الحرب الأفغانية – السوفيتية، وتعرض للاعتقال من قبل الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر في جوانتانامو، وتمت إعادة بعضهم إلى ليبيا قبل وبعد الثورة، ومن أبرز نماذج الاتجاه الأول "الجماعة الليبية المقاتلة" التي غيرت اسمها بعد الثورة إلى "الحركة الإسلامية للتغيير" بعد مراجعات لنبذ العنف، حيث تنهج تلك الحركة نهجاً سلمياً يعترف باللعبة الديمقراطية، ورغم أن تصريحات عبد الحكيم بلحاج –أكثر الشخصيات النافذة من الجماعة الليبية المقاتلة بعد الثورة –تشير إلى أنه لا يحمل أجندة مضادة للغرب، وأنه يؤيد دولة مدنية ديمقراطية، فإن القوى الغربية عبرت عن قلقها، خاصة أنه تم اعتقاله علي يد المخابرات الأمريكية، على خلفية ارتباط مفترض بتنظيم القاعدة، وتم تسليمه إلى ليبيا، وفر مع بداية الثورة، غير أن بلحاج قال إن الجماعة الليبية المقاتلة تم حلّها، وليس لها وجود حالياً على الأرض، على أساس أن أعضاءها انضووا تحت لواء "الحركة الإسلامية للتغيير" التي تنبذ العنف، وهم الآن تخلوا عن السلاح ويمارسون أنشطتهم في شرق وغرب ليبيا.
وانخرط أعضاء "الحركة الإسلامية للتغيير" في العمل السياسي، عبر عدة أحزاب سياسية في الانتخابات التشريعية في يوليو 2012، من أبرزهم: حزب الأصالة السلفي، وحزب الوطن المعتدل ذي القاعدة الواسعة الذي انضم إليه بلحاج، وحزب الأمة الوسط الأكثر تشدداً في رؤاه الدينية، تحت قيادة سامي الساعدي الذي يعد المنظر الرئيسي للجماعة المقاتلة، لاسيما أنه ألّف من قبل دراسة حول مناهضة الديمقراطية في الإسلام، وانضم مع الساعدي شخصية محورية أخرى في الجماعة المقاتلة، هو عبدالوهاب قايد (شقيق الراحل أبو يحيى الليبي، الذي كان يعتبر على نطاق واسع الرجل الثاني في تنظيم القاعدة)، الذي ترشح ونجح في انتخابات المؤتمر الوطني العام في مدينة مرزق الجنوبية.
الاتجاه الثاني: جماعات جهادية مسلحة رافضة للانخراط السياسي، وهي جماعات ترفض المنظور الوطني للدولة الليبية وتكفر المجتمع، وتسعى لفرض تطبيق الشريعة بقوة السلاح، مستفيدة من بيئة إقليمية تصاعد فيها دور التيارات الجهادية لاسيما في مصر، وتونس، فضلاً عن ضعف الدولة الليبية وعدم قدرتها على نزع أسلحة المليشيات، بسبب بطء بناء أجهزة الأمن، ورفض بعض الثوار المسلحين الانضمام لها خوفاً من تهميشهم في معادلة الثورة والسلطة المتنازع عليها بعد ثورة الـ17 من فبراير، وتمثل تلك الجماعات الجيل الثاني من الجهاديين الذين عادوا إلى الظهور كقادة ألوية ثورية في بنغازي ودرنة ومدن شرقية أخرى، ومن أبرزهم هو عبد الحكيم الحصادي، الذي شكّل لواء درنة في المراحل الأولى للثورة، والذي تم تغيير اسمه في وقت لاحق إلى كتيبة شهداء أبو سليم، ويمكن الإشارة إلى أن الجماعات الجهادية المسلحة في ليبيا تشكل في مضمونها مستنسخات من تنظيم القاعدة، خاصة على صعيد التقارب الأيديولوجي، وإن لم تتوافر أدلة على ترابطها عضوياً مع القاعدة الأم، ومن أبرز هذه الجماعات الجهادية المسلحة:
- جماعة أنصار الشريعة: وقد تشكلت إبان الثورة من انفصال عناصر من تشكيلات جهادية مثل كتيبة 17 فبراير، وكتيبة عبيدة بن الجراح في بنغازي، وكتيبة شهداء أبو سليم في درنة بسبب خلافات حول الموقف الشرعي من المجلس الوطني الانتقالي، وتهدف جماعة أنصار الشريعة إلى تطبيق الشريعة، ورفض الممارسات الديمقراطية، ومقاومة البدع المتعارضة مع الإسلام وتطبيق الشريعة بقوة السلاح، ويقود الجماعة في بنغازي محمد زهاوي، وهي تملك روابط عديدة بالعديد من الجماعات الجهادية الأصغر عدداً التي تحمل ذات الاسم مثل أنصار الشريعة في درنة، والتي يقودها مسجون سابق بجوانتانامو، ويدعى أبو سفيان بن قمو، وقد حارب إلى جانب بن لادن طالبان وأعادته المخابرات الأمريكية إلى ليبيا بعد القبض عليه من قبل السلطات الباكستانية.
وتعد أنصار الشريعة من أقوى الجماعات الجهادية تسليحاً في ليبيا، إذ تشير تقارير غربية إلى أن عدد أفرادها تجاوز 5000، واكتسبت الجماعة شرعية عند الكثير من المدنيين، خصوصاً بعد تحملها مسؤولية حراسة مستشفى بنغازي في العام 2011، كما تنسب الجماعة لنفسها الفضل في مقاومة القذافي، لأنها قاومت كتائب هذا الأخير، قبل تدخل حلف شمال الأطلسي ليفرض منطقة حظر جوي، وبدا أول ظهور لتلك الجماعة في يونيو 2012، عندما نظمت تظاهرة في بنغازي ارتدى فيها المنتمون لها الزي الأفغاني وطالبوا بتطبيق الشريعة، غير أن العرض قُوبِل بمعارضة شديدة من القوى المدنية والقبلية التي رفضت أفغنة ليبيا، كما أثارت الجماعة ضجة شعبية بعد اتهامها بتدمير الأضرحة الصوفية، خاصة أنهم أثنوا على مرتكبيها، رغم رفضهم إعلان المسئولية عنها، كما تم اتهام الجماعة بأنها وراء محاولة اغتيال السفير البريطاني في ليبيا، وكذلك الهجمات على القنصلية الأميركية في بنغازي، والتي قُتِل فيها السفير الأمريكي وعدد من الدبلوماسيين.
- كتيبة شهداء بوسليم: وهي تتمركز في درنة، وعلى الرغم من أوجه الشبه الكثيرة التي تجمع بين تلك الكتيبة مع أنصار الشريعة لاسيما أن غالبية أعضائهما كانوا مسجونين أيام القذافى في سجن بوسليم، كما أن أيديولوجيتها تكاد تكون انعكاساً لأفكار تنظيم القاعدة سواء في تكفير المجتمع أو تطبيق الشريعة بالقوة، إلا أن كتيبة بوسليم محدودة التأثير، حيث يقدر أعضائها بالعشرات، بيد أن بعض التقارير أشارت إلى تورطها في عمليات اغتيال وتصفية رموز عهد القذافي، علاوة على تدريب متطوعين للجهاد إلى سوريا، كما أنها سعت لفرض الشريعة في درنة منذ منتصف العام 2012، إذ بدأت بإغلاق صالونات التجميل وفرض الأعراف الاجتماعية الصارمة في المدينة، إلا أن القبائل واجهت مشروعهم.
- ألوية الشيخ السجين عمر عبد الرحمن: والتي سُميت باسم زعيم الجماعة الإسلامية المصرية الذي يقضي حالياً عقوبة السجن المؤبد في الولايات المتحدة لتورطه في الهجوم على مركز التجارة العالمي عام 1993، ولا يعرف الكثير عن قيادة الجماعة أو حجمها، لكن تقارير محلية ليبية نسبت لها سلسلة الهجمات التي وقعت في بنغازي في مايو ويونيو 2012 ضد المصالح الغربية، ومن أبرزها الهجوم على اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
- جماعة التوحيد والجهاد: وهي تنشط في المناطق الشرقية وخاصة درنة وما حولها، وغالبية أعضائها صغار السن، ولتلك لجماعة اتصالات ببعض الجماعات الجهادية، خاصة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي.
ثانياً: تفاعلات الجماعات الجهادية في الداخل الليبي
يمكن القول إن ثمة تأثيرات وتفاعلات في الداخل الليبي، حول بروز الجهاديين الليبيين سواء المنخرطين في السياسة أو الذين يرفعون السلاح، وينتظمون في مليشيات مسلحة ومن أبرزها:
- أن الطبيعة النفطية والقبلية لدولة مثل ليبيا لعبتا دوراً في تحجيم قدرة التيارات الإسلامية عموماً على اجتذاب شرائح واسعة من السكان، لاسيما إنه لا توجد فرص لاستقطاب فقراء، على غرار الحالة المصرية، حيث يلعب الفقر دوراً في تفعيل الشبكات الاجتماعية للإخوان المسلمين، وبالتالي لم يستطع الإخوان أو الجماعات الجهادية سواء المسيسة أو المسلحة أن يكونوا قوة مركزية في الساحة الليبية بعد الثورة على غرار الحالة المصرية قبل 30 يونيو.
- رفض المزاج المجتمعي والسياسي الليبي للتيارات الدينية المتشددة، فعلى سبيل المثال بينما شغل تحالف القوى الوطنية والإخوان حيزاً من التفاعلات السياسية، إثر فوزهما بالمركزين الأول والثاني في انتخابات المؤتمر الوطني، خرجت الأحزاب ذات الخلفية الجهادية كالوطن والأمة وغيرها خاسرة حتى في معاقلها مثل شرق درنة، وهو ما يعني أن التيارات الجهادية ليست جاذبة مجتمعياً في ليبيا، في ضوء قدرة التيارات الإسلامية المعتدلة على التواجد في خريطة الصراعات الداخلية.
- شارك شيوخ القبائل في التواصل مع السلفيين الجهاديين، في محاولة لجذبهم إلى المجالس المحلية، ودمج كتائبهم في الأجهزة الأمنية الرسمية، فقد أزالت قبيلة الشلاوية، نقاط التفتيش الخاصة بكتيبة بوسليم في المدينة بعد قتل محمد الحاسي المكلف بالأمن في مدينة درنة في مارس 2012، ثم عقد مؤتمر كبير للقبائل الشرقية جنوب درنة، وتم الاتفاق فيه على أن يمنع شيوخ القبائل شبابهم من الانضمام إلى كتيبة بو سليم، وجماعة أنصار الشريعة.
- لعبت الجماعات الجهادية المسلحة دوراً في تعميق مأزق بناء الدولة الليبية بعد الثورة، عبر الصدام بين السلطات الانتقالية بسبب رفض تلك الجماعات تسليم سلاحها، ومحاولة الجهاديين فرض قيود دينية على السكان، خاصة في بنغازي، ورغم أن حادثة الهجوم على القنصلية الأميركية ومقتل السفير الأمريكي مثلت نقطة تحوّل في المواجهة بين الدولة والجماعات الجهادية المسلحة، حيث صدر قرار حكومي بحل كافة التشكيلات المسلحة، واستلام المقرات التي تشغلها ومصادرة أسلحتها، بيد أن افتقار الحكومة لجهاز أمني مركزي قوي جعل من الصعب نزع سلاح تلك المليشيات.
- توتير الوضع الأمني عبر استهداف المصالح الغربية في ليبيا، خاصة عبر الاستهداف المتكرر للسفارات الأجنبية في بنغازي وطرابلس، بما زاد من التدخل الخارجي في الداخل الليبي، وتجلى ذلك، عندما أقدمت القوات الأمريكية على اعتقال أبو أنس الليبي العضو بالقاعدة في مؤشر على اختراق وإضعاف للسلطة الانتقالية في مرحلة ما بعد الثورة.
ثالثاً: تأثيرات الجماعات الجهادية على الأمن القومي المصري
تعد مصر أحد أبرز دول الجوار الإقليمي لليبيا تأثراً بتنامي الجماعات الجهادية وخاصة المسلحة في شرق ليبيا، لاسيما في ضوء وجود مجموعة من خطوط التشابك الجغرافي والسياسي والأيديولوجي بين التيارات الإسلامية في البلدين، برغم اختلاف الخصوصية المجتمعية بينهما، وتعمقت تلك الخطوط إثر صعود التيار الإسلامي بشقيه المعتدل والمتشدد في مصر بعد ثورة 25 يناير، وزادت مخاطرها بعد الموجة الثورية التي أسقطت حكم جماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو، إذ انعكس ذلك على الوضع السياسي الليبي في مجموعة من المؤشرات مثلت نقاط تماس مباشرة حملت في طياتها تأثيرات مباشرة من قبل الجماعات الجهادية الليبية على الأمن القومي المصري، ومن أبرزها:
- التغذيات المتبادلة بين الجماعات الجهادية في مصر وليبيا: فرغم أن خطوط التشابك والخبرات المتبادلة تكاد تكون محدودة نسبياً بين الأحزاب السلفية في مصر وليبيا (كالنور والأمة والوطن)، بسبب الاختلافات النسبية في الروافد والرؤى، فإن التشابك بدا أكثر فعالية على صعيد الجماعات الإسلامية المسلحة التي رفضت الانخراط في العمل السياسي في مصر وليبيا وتحديداً في الشرق، إذ بدا أن الأخيرة (خاصة جماعة أنصار الشريعة وألوية السجين عمر عبد الرحمن كروافد للقاعدة) تشكل مصنعاً لتدريب متشددين، وتصدير السلاح إلى مصر وتحديدا للجماعات النظيرة في سيناء، وتجلى ذلك في مؤشرات تراكمت منذ الثورة في البلدين، بدءاً من تقارير أمنية تحدثت عن مشاركة مصريين في الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي والتي أسفرت عن مقتل السفير الأمريكي، ومروراً بتفجير القنصلية المصرية في بنغازي كرد على فض اعتصامات الإخوان، كما نظمت جماعات جهادية ليبية عرضاً عسكرياً على الحدود مع مصر باعثة برسالة تهديد غير مباشرة للسلطات المصرية بعد فض اعتصامات الإخوان.
- نمو الجريمة المنظمة نتيجة لضعف السيطرة الأمنية على حدود البلدين: إذ أن الرخاوة التي شهدتها الأجهزة الأمنية المصرية بعد الثورة، وتشظي المؤسسات الأمنية الليبية إلى مليشيات مسلحة بعد سقوط القذافي، خلف عدم سيطرة مشتركة على حدود البلدين، وهذا الأمر لعب دوراً في نمو الجريمة المنظمة بأشكالها المختلفة من تهريب سلاح وتجارة مخدرات وبشر وغيرها، مما شكّل بنية اقتصادية للجماعات الجهادية سواء في مصر وليبيا لتمويل عملياتها، وفي هذا السياق، تبدو عمليات تهريب السلاح ومستلزمات العمليات الانتحارية هو الشكل الأخطر الذي ينتقل من ليبيا إلى مصر، لاسيما أن الأسلحة المتبقية بعد سقوط القذافي، وجدت سوقاً إقليمية "مضطربة" تستوعبها، وتقدرها الأمم المتحدة بـ 12 دولة ومنها مصر، وتقدر جهات رسمية حجم السلاح في مصر بعشرة ملايين قطعة غالبيتها قادمة من ليبيا والسودان، وبينما سعت الأجهزة الأمنية المصرية لضبط حركة الحدود ومنع تهريب السلاح، فإن إجراءاتها أثارت حفيظة جماعات مسلحة في الشرق ضغطت على القاهرة بمنع عبور الشاحنات إلى ليبيا واعتقال مصريين.
- استهداف المليشيات المسلحة للمصالح المصرية في ليبيا: في ظل عدم قدرة السلطات الانتقالية على السيطرة الأمنية في الشرق خصوصاً، حيث تعرضت كنيسة مصرية في بنغازي للحرق بعد اتهامات لها بتأسيس شبكة للتبشير بالمسيحية، كما تعرض العمال المصريون إلى عدة حوادث اختطاف في العام 2013 من قبل جماعات مسلحة، ولعل ذلك يحدث تأثيراً في أحد أبرز القضايا الاقتصادية التي تشتبك فيها البلدان وهي العمالة التي تشير بعض التقديرات إلى بلوغها نصف مليون مصري بعد الثورة ينتشرون في أرجاء ليبيا، فضلاً عن حركة التجارة والاستثمارات بين البلدين.
- تحول بعض مناطق شرق ليبيا التي تسيطر عليها جماعات جهادية إلى ملاذ أو معبر آمن لبعض المنتمين للتيارات الإسلامية المعارضة للسلطة في مصر بعد 30 يونيو: وفي هذا السياق، يمكن فهم التقارير التي تشير إلى أن هروب القيادي الإسلامي المصري عاصم عبد الماجد المطلوب أمنياً إلى قطر تم عبر ليبيا، كما أنه تم القبض على القيادي صفوت حجازي في مرسى مطروح قبل الهروب إلى ليبيا، ومن هنا فإن الشرق الليبي مرشح ليكون مخزناً جهادياً ومصباً للتيارات الجهادية يعمّق الأزمات الأمنية في مصر والمنطقة ككل خاصة في ظل تورط الجماعات الجهادية في تدريب عناصر متشددة للجهاد في سوريا، وشمالي مالي، وإقامة تشابكات مع حركات جهادية في مصر والمغرب العربي ومنطقة الساحل والصحراء بشكل عام.
- الارتباطات الإخوانية – الجهادية للضغط على السلطات في البلدين: حيث إن إسقاط إخوان مصر في الموجة الثورية لـ30 يونيو خلفت اتجاهاً لدى جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا وذراعها السياسي العدالة والبناء إلى تأمين نفسها عبر صياغة تحالفات مع مليشيات مسلحة خاصة في مصراته لكسر معادلة توازن الضعف مع الزنتان والليبراليين والسيطرة على طرابلس، هذا من جانب، ومن جانب أخر، ممارسة تأثير غير مباشر أو تحريضي للجهاديين المسلحين في الشرق لمواجهة معارضي المشروع الإسلامي خاصة بعد تنامي ظاهرة الاغتيال للمعارضين لحزب العدالة والبناء (نموذج اغتيال عبد السلام المسماري)، والضغط في الوقت نفسه على المصالح المصرية لتحجيم امتداد نموذج إسقاط إخوان مصر إلى ليبيا، خاصة أن المسئول العام لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا بشير الكبتي حذر من محاولة استدعاء المشهد المصري إلى ليبيا حيث ستكون له نتائج كارثية، لأن الشعب في ليبيا مسلح، ولعل ذلك الارتباط الإخواني – مع مليشيات مسلحة لتأمين موقف الأولى سياسياً، يشير إلى التطور الذي طرأ على الفكرة الإخواني أيضاً في مصر عبر ممارسة تحريضية للجماعات الجهادية لشن عمليات إرهابية ضد السلطات المصرية في سيناء.
بيد أن مدى الحدة التي تأخذها تلك التأثيرات والتفاعلات على الأمن القومي المصري ستحدد في ضوء المسارات المحتملة التي تأخذها الدولة الليبية نفسها بعد الثورة، والتي تتراوح ما بين فيدرالية مناطقية ( فزان، طرابلس، بنغازي)، أو مركزية هشة تكرس وضعية توازن الضعف القائمة في ليبيا أو دولة منزوعة السيطرة على مناطقها، وهو السيناريو الأخطر الذي قد يرفع من مخاطر تهديد الأمن القومي المصري ويفرض على السلطات المصرية مجموعة من التحركات الأساسية بخلاف الإجراءات الأمنية الحالية لضبط الحدود ومنع تسرب السلاح خاصة إلى سيناء، وأولها التأكيد على أهمية حماية الدولة الليبية من التفكك، لاسيما أن بقاء ليبيا موحدة دون تفكك يقلل من المخاطر المحتملة على الأمن القومي المصري، وثانيها الدخول المصري كطرف فاعل في توازنات الشرق الليبي، بما يحجم من قدرة الجماعات الجهادية على التأثير على المصالح المصرية، وثالثها دعم السلطات الانتقالية، خاصة فيما يتعلق ببناء أجهزة أمنية مركزية تحد من تأثير الجهاديين المسلحين.
مصادر أساسية استند لها التحليل:
1- زياد عقل، عسكرة الانتفاضة.. الفشل الداخلي والتدخل الخارجي في ليبيا، مجلة السياسة الدولية، عدد 185، إبريل 2011.
2- هارون ي. زيلين، التيار الإسلامي في ليبيا، معهد واشنطن لسياسات لشرق الأدنى، إبريل 2013. http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/islamism-in-libya
3- بولا ميجيا، ثورة ملعونة.. ليبيا انتهت مظالم القذافي وبقيت سوء الإدارة، مجلة المجلة، 4 أغسطس 2012. http://www.majalla.com/arb/2012/08/article55237613
4- IvoH. Daalder and James G. Stavridis, NATO's Victory in Libya, March/ April 2012, http://www.foreignaffairs.com/articles/137073/ivo-h-daalder-and-james-g-stavridis/natos-victory-in-libya
5- بول سالم، أماندا كادليك، تحديات العملية الانتقالية في ليبيا، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 14 يونيو 2012.
6- جيسون باك وباراك بارفي، في أعقاب الحرب: الصراع على ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 27 فبراير 2012
7- فريديرك ويري، تحدي بناء الأمن في شرق ليبيا، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 11-9-2012، وأنظر أيضا لنفس الكاتب، العالم الجريء والجديد للانتخابات الليبية، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 26 يونيو 2012
8- باراك بارفي، وِجهة ليبيا غير المؤكدة ما بعد الانتخابات، معهد واشنطن للشرق الأدنى، 23 - 7 -2012.
9- السنوسي بسكيري، انتخابات المؤتمر الوطني الليبي، وخيارات الكتل الفائزة، مركز الجزيرة للدراسات، 11 -7-2012.
10- Small Arms Survey, Armed Groups in Libya: Typology and Roles, http://www.smallarmssurvey.org/fileadmin/docs/H-Research_Notes/SAS-Research-Note-18.pdf
11- Omar Ashour, “Libyan Islamists Unpacked: Rise, Transformation and Future,” Brookings Policy Briefing, May 2, 2012, www.brookings.edu/~/media/research/files/papers/2012/5/02%20libya%20ashour/omar%20ashour%20policy%20briefing%20english.pdf
12- كريستوفر بلانكارد، الدور الأمريكي الدور الأمريكي في مرحلة الانتقال الديمقراطي في ليبيا، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، 15 نوفمبر 2012.
13- د. خالد حنفي علي، احتمالات إعادة تصدير أزمة مالي إلى الداخل الليبي، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، 10 فبراير 2013
14- د. خالد حنفي علي، تأثير السيناريو المصري على الداخل الليبي بعد 30 يونيو، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، 2013
15- ديرك فاندويل، هل أفلتت ليبيا بعد الثورة من سيناريو الدولة الفاشلة؟، موقع مجلة السياسة الدولية، 3 -1-2013.
16- كامل عبد الله، قيد التبلور، احتمالات إقامة دولة في ليبيا، موقع مجلة السياسة الدولية، 13 -2-2012.
17- السنوسي البسيكري، ليبيا: تحديات الحكومة في مواجهة الجماعات المتشددة، مركز الجزيرة للدراسات، 8 أكتوبر 2012.