تونس على أبواب تشكيل حكومة جديدة عقب تكليف "الحبيب الجملي"

تونس على أبواب تشكيل حكومة جديدة عقب تكليف "الحبيب الجملي"

تنتظر الساحة التونسية تشكيل حكومة جديدة تعبر عما افرزته المعادلة السياسية التي اظهرتها الانتخابات التشريعية التي أجريت في أكتوبر الماضي، وبعد انتظار دام اسابيعاً أصرت فيها حركة النهضة المتصدرة نتائج هذه الانتخابات على ترشيح احد كوادرها لرئاسة الحكومة، إلا أنها تراجعت عن هذا المسعى في النهاية ورشحت شخصية مستقلة وهو "الحبيب الجملي".

فقد سلم الرئيس التونسي "قيس سعيد"، في يوم 15 نوفمبر 2019 بقصر قرطاج بالعاصمة التونسية، "الحبيب الجملي" خطاب تكليف لتشكيل الحكومة الجديدة، على أن يتم التشاور بينهما بخصوص تسمية وزيري الدفاع والخارجية، بينما كلف "يوسف الشاهد" بمهام تصريف أعمال الحكومة إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة، في غضون شهرين وفق الدستور، وقد شرع "الحبيب الجملي" فعلياً الثلاثاء الماضي في مشاوراته مع القوى الحزبية والنقابية والحقوقية من أجل الاتفاق على تركيبة وبرنامج الحكومة المقبلة.

كان رئيس البرلمان الجديد "راشد الغنوشي" بصفته رئيس الحزب (حركة النهضة) الحاصل على أعلى عدد من الأصوات في الانتخابات التشريعية الأخيرة، قد التقي مع الرئيس التونسي لعرض ترشيح الحركة للجملي لتولي منصب رئيس الحكومة الجديدة، حيث جاء اختيار الحركة للمذكور عقب مجموعة من التحركات على الساحة السياسية، حيث اجتمع مجلس شورى حركة النهضة استثنائياً للتصويت على عدد من الشخصيات المطروحة عليه لتولي منصب رئيس الحكومة الجديدة، انتهى إلي حصول "الجملي" علي أكثر أصوات المجلس في جلسة سرية، كما التقى "الغنوشي" بصفته رئيس البرلمان مع ممثلي الأحزاب الممثلة في البرلمان من أجل استطلاع رأيهم حيال عدد من المسائل التي تسعى الحركة من خلالها إلي ضمان ألا تكون بعض تلك القوي ومنها (الحزب الدستور الحر وغيره من الكتل الحزبية أو الائتلافية أو المستقلة) معرقلاً للخطوات المستقبلية داخل البرلمان ومنها الجلسة التي ستخصص لاحقاُ للتصويت على الحكومة الجديدة.

المشهد التونسي ما بين التوجس والتهدئة:

ولقد أثار تكليف "الحبيب الجملي" مرشح حركة النهضة بتشكيل الحكومة الجديدة عدد من ردود الأفعال غلب عليها التوجس من قبل القوى الحزبية والسياسية والنقابية، حيث رفض عدد من الأحزاب (تحيا تونس - التيار الديموقراطي- حركة الشعب..) التسرع بعرض موقفها قبل التثبت من طبيعة علاقة الجملي بالنهضة، كما رفض كل من الاتحاد العام للشغل واتحاد الصناعة والتجارة تزكية "الجملي"، فقد أكد اتحاد الشغل أنه لم يقترح أي اسم ليكون رئيساً للحكومة مطالباً فقط بتعجيل تشكيلها، بينما طالبت منظمة الاعراف (اتحاد الصناعة والتجارة) بأن يكون رئيس الحكومة مستقلًا فعليًا وذي كفاءة عالية في المجالين المالي والاقتصادي ويحظى بقبول على المستوى الدولي، وعلى الجانب الأخر، ابدى حزب قلب تونس استعداده للمشاركة في الحكومة القادمة إذا دُعي للمشاركة في مفاوضات تشكيلها.

وفي إطار السعي لتهدئة المخاوف السياسية والمهنية التي شككت في الاستقلالية السياسية في شخص "الحبيب الجملي" ومدى كفاءته سواء في التوصل لتركيبة حكومية متوازنة أو في إدارة المرحلة القادمة، وسط تشتت القوى البرلمانية بين أحزاب وقوائم عديدة، خرجت مجموعة من التصريحات سواء من قبل رئيس الحكومة المكلف أو القيادات النهضوية، فمن ناحية أولى أكد "الجملي" عبر اللقاءات الصحفية التي اجراها عقب تكليفه رسمياً من قبل رئيس الجمهورية، بأنه رجل إدارة تقني مستقل عن الانتماءات السياسية، وأن تشكيل حكومته سيكون بناء على فتح مشاورات لا تستثني الأحزاب والمنظمات الوطنية والمجتمع المدني، وعرض تصوره لتكوين حكومة كفاءات، تتبع نهج المصارحة مع الشعب.

في الوقت الذي حاولت فيه حركة النهضة تبرير تراجعها عن موقفها السابق إعلانه بعد الانتخابات الأخيرة (عدم التحالف مع بعض القوى لاسيما قلب تونس صاحب ثان اكبر عدد مقاعد برلمانية، وأن يكون المكلف بتشكيل الحكومة أحد كوادرها)، بأنها اضطرت تحت الضغوط السياسية إلي ترشيح "الجملي" كشخصية من خارجها وبعيدة عن التجاذبات الحزبية، ويكون له مطلق الحرية في تشكيل الحكومة واختيار الأحزاب التي ستدعمه، مع اشتراطها مراعاة رؤيتها في برنامج الحكومة القادمة، مع إمكانية أن يشارك في تشكيلها كل من قلب تونس (الذي دعا للابتعاد عن التغول داخل السلطة البرلمانية والتنفيذية في إشارة إلي حركة النهضة)، وحزب التيار الديموقراطي (يُصر على تخصيص 3 وزارات له)، الأمر الذي يشير إلي أن النهضة تسعى نحو تأمين منح الثقة البرلمانية للجملي.

اهداف ومناورات سياسية تغزل نسيج المشهد:

وقد ساهم نجاح حركة النهضة في تنظيم عملية تكليف رئيس الجمهورية للجملي بتشكيل الحكومة، اتفاق فرقاء الأمس وهما الغنوشي ورئيس حزب قلب تونس، وبما أدى إلي تصويت نواب قلب تونس لاختيار الغنوشي رئيساً للبرلمان، مقابل انتخاب نائبة قلب تونس "سميرة الشواشي" لمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان، والاتفاق على أن يكون المرشح لرئاسة الحكومة من خارج النهضة.

ويمكننا هنا أن نشير إلي أن اختيار حركة النهضة للـ "جملي" لرئاسة الحكومة التونسية القادمة، يكشف استهداف النهضة أن يكون رئيس الحكومة المقبلة شخصية غير كاريزمية وغير معروفة على الساحة، بما يُسهل للحركة التعامل معه بأريحية طيلة الخمس سنوات القادمة من عمر الحكومة المنتظرة، حيث سبق أن انقطع "الجملي" عن العمل بالقطاع العام لقرابة عشر سنوات، ثم عاد خلال فترة حكومتي الترويكا بقيادة الاخوان من خلال توليه منصب (وزير دولة) بوزارة الزراعة، وبعد سقوط الترويكا عمل مديراً لأحد المكاتب الاستشارية الزراعية، وعاودت النهضة محاولة الاستعانة به مجدداً حينما رشحته لحقيبة الداخلية في مشاورات تشكيل حكومة "الصيد" الأولى، رغم أن خلفيات الجملي المهنية والتعليمية لا تتعلق بالملف الأمني نهائياً، لكن دفعت النهضة منذ قيام الثورة نحو أن يكون وزير الداخلية شخصية مدنية مستقلة.

وعلى صعيد تشكيل الحكومة المقبلة، تحاول حركة النهضة من جهة أولى إرضاء عدد من الأحزاب البرلمانية للمشاركة في الحكومة المقبلة وعلى رأسها التيار الديموقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس اللذين اشترطوا أن يكون رئيس الحكومة من خارج الحركة، إلا أنه من جهة أخرى وعقب ساعات من شروع "الجملي" في مشاورات تشكيل الحكومة ظهرت تصريحات لقيادات الحركة وعلى رأسهم "الغنوشي" بأنه ليس هناك داعي أن يكون حزب قلب تونس ثان أكبر كتلة داخل البرلمان، مشمولاً في تلك المشاورات، كما اعاد الغنوشي التأكيد علي ذلك عقب لقاء جمعه مع "الجملي" بصفته المكلف برئاسة الحكومة، في قصر الضيافة بقرطاج يوم 20/11/2019، حيث أوضح "أن الحركة لن تشارك في حكومة يشارك فيها حزب قلب تونس"

فضلاً عن ذلك صرح القيادي "محمد بن سالم" أن الحكومة المقبلة ستكون من شخصيات تدافع عن النهج الثوري وترفض نظام الحكم السابق، الأمر الذي يعد تلاعباً جديداً من قبل النهضة بعدما ضمنت رئاسة البرلمان لصالحها عبر الاتفاق مع قلب تونس ومن ثم يحتمل ألا يمتد هذا الاتفاق إلي تشكيل الحكومة المقبلة.

وفي النهاية، يبدو أن هناك تحديات تواجه "الحبيب الجملي" سواء على صعيد مساعيه لإكمال مشاوراته مع القوى الحزبية والمهنية والعمالية للاتفاق على برنامج عمل الحكومة القادمة وتركيبتها من حيث توزيع المقاعد الوزارية والمناصب التنفيذية ذات الصلة، أو على صعيد ممارسة حكومته لأعمالها حال نجاحها في الحصول على الثقة البرلمانية اللازمة (109 صوت على الأقل)، كما يبدو أن حكومته ستكون ضعيفة في ضوء رغبة حركة النهضة في ضمان نفاذ هيمنتها على شخصية "الجملي" وتسيير الشأن العام، فضلاً عن اهمية الدور المتوقع من قبل المعارضة داخل البرلمان في مناهضة مشاريع السياسات الحكومية.

 

تعليقات القراء