أسباب ودلالات صعود المرشحين قيس سعيد ونبيل القروي إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة التونسية

أعلنت الهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات التونسية يوم 17/9/2019 عن فوز "المرشح المستقل "قيس سعيد" ومرشح حزب قلب تونس "نبيل القروي" بالمرتبتين الأولى والثانية في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، مما يخولهما إجراء جولة ثانية، حيث حصل الأول على نسبة 18.4% من الأصوات، والثاني على نسبة 15.6% وفقاً للهيئة، بينما حصل مرشح حركة النهضة "عبد الفتاح مورو" على المرتبة الثالثة بنسبة %12.9 من الأصوات.

وقد تقاربت هذه النتائج مع ما كشفته مؤسسة "سيجما كونساي" أحد مؤسسات استطلاع الرأي الخاصة التونسية يوم 15/9/2019 بأن التقديرات الأولية للانتخابات الرئاسية تشير إلي تأهل "سعيد" و"القروي" إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بسبب عدم حصول أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة للأصوات (أكثر من 50 %) في الجولة الأولى، وقد افرزت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التونسية إقرار بقية المرشحين بالهزيمة، فضلاً عن إنقسام المرشحين الخاسرين فيما يتعلق بدعم مرشحي الجولة الثانية (قيس / القروي).

وفيما يتعلق بالموعد النهائي لإجراء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية فإنها من المتوقع أن تكون في الفترة من يوم 29 سبتمبر الجاري وحتى 13 أكتوبر 2019، على أن تعلن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية في حدود يوم 21 أكتوبر وذلك بعد انتهاء الهيئة من البت في الطعون على مجمل هذه النتائج.

تقييم النتائج:

يمكن إرجاع الأسباب التي قادت نحو تأهل كل من المرشح الأكاديمي المستقل "قيس سعيد" ومرشح حزب قلب تونس رجل الأعمال والإعلامي "نبيل القروي" للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية إلي عدد من الأسباب على رأسها التالى:

أ -   محاولة الناخبين التونسيين عبر التصويت لصالح "القروي" و"قيس" معاقبة النخب السياسية المهيمنة، والتي تسببت في إحداث العديد من الأزمات السياسية وبالأخص حركتي النهضة، ونداء تونس لأنهما بنيا شعبيتهما على المناطحة الأيديولوجية (العلمانية في مواجهة الاسلام السياسي)، ثم انطلقا لاعتبارات المصلحة السياسية إلي التحالف معاً لتكوين الائتلاف الحكومي، إلا أنه سرعان ما تفكك هذا التحالف وتوالت معه الانشقاقات داخل حزب النداء وكتلته البرلمانية، الأمر الذي رتب تداعيات سلبية على مكانة النداء على المستوي السياسي والبرلماني والشعبي.

ب-  تحركات حركة النهضة في الأشهر الأخيرة التى أدت لتداعيات سلبية، حيث تراجعت حركة النهضة عن قرارها السابق بعدم خوض الانتخابات الرئاسية والتركيز على الانتخابات البرلمانية، كما تم تسريب أنباء حول ما شهده مجلس شورى الحركة من خلافات فيما يتعلق بتزكيته لـ"عبد الفتاح مورو" لخوض الانتخابات الرئاسية باسم الحركة، التي ظلت تناور وتماطل في حسم موقفها من الانتخابات الرئاسية سواء بدعم مرشح من داخل الحركة أو خارجها، فضلاً عن ما لحق بها من اتهامات حول تورطها بشكل مباشر أو غير مباشر في ملفات امنية حساسة (الاغتيالات السياسية واختراق أجهزة الدولة والتنظيم السري للنهضة وتسفير الشباب التونسي إلي بؤر القتال في سوريا والعراق وليبيا).

ج -  اهمال النخب الحاكمة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة لاسيما توفير فرص العمل للشباب وغيرهم من العاطلين عن العمل، فضلاً عن عدم توفير فرص حقيقية للنهوض بالمناطق المهمشة والفقيرة، وهو ما دفع المرشح "نبيل القروي" للتعامل معه عبر مؤسسته الخيرية التي اتسع نشاطها في السنوات الأخيرة في هذا الصدد، مما أثار مخاوف بعض القوى السياسية من تزايد شعبية "القروي".

د -   ارتكاز "القروي" في أحد جوانب حملته الانتخابية - عبر فريقه الانتخابي- على الترويج لمظلوميته السياسية، حيث تتهم بعض الأطراف السياسية (النهضة وتحيا تونس) منذ أن اعلن القروي نيته للترشح في مايو الماضي، باستغلال أجهزة الدولة والدفع نحو القبض على القروي قبل أيام من انطلاق الحملة الانتخابية, وكذا تم حظر سفره وتجميد أصوله بتهمة غسل الأموال، الأمر الذي اكسبه التعاطف الشعبي وفتح الباب لانتقادات المنظمات الدولية العاملة في مجال ملاحظة الانتخابات، وفي اعقاب اعلان النتائج غير الرسمية للانتخابات جدد القروي الدعوة لرفع "الظلم" عنه حتى يكون التنافس الانتخابي نزيهاً.

هـ-   كثافة أعداد المرشحين للانتخابات الرئاسية، وبما أدى لخلق نوع من التشتت في أصوات الناخبين، حيث فشلت الأحزاب الوسيطة (الحداثية والتقدمية) في توحيد مواقفها للتوافق على مرشح واحد لخوض الانتخابات الرئاسية، فضلاً عن تقديم الأحزاب اليسارية أكثر من مرشح، بالإضافة إلي التيار الإسلامي الذي قدم مرشحين حزبيين "عبد الفتاح مورو" عن حركة النهضة، و"الهاشمي حامدي" عن حزب تيار المحبة، وعدد أخر من الإسلاميين سواء منشقين عن النهضة أو من التيار السلفي من المستقلين.

 

دلالات ومعاني:

شكل تأهل كل من قيس سعيد ونبيل القروي للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية صدمة في الأوساط السياسية التونسية، التي كانت تُعلي من سقف طموحاتها في الوصول إلي قمة السلطة في البلاد، وهو ما يكشف عن عدد من الدلالات السياسية أبرزها الآتى:

أ -   وضوح حجم التعارض بين عدد من القوانين التونسية، فمن جهة لم يمنع قانون الانتخابات أن يستمر ترشح "نبيل القروي" في الانتخابات الرئاسية في ضوء عدم توجيه اتهامات رسمية له، ومن جهة أخرى منع قانون "إدارة السجون" القروي من ممارسة حقه كمرشح في القيام بحملته الانتخابية أو الإدلاء بصوته في الانتخابات نظراً لكونه على ذمة التحقيقات ولم يصدر بشأنه حكم نهائي، الأمر الذي يضع التجربة التونسية في ازمة - غير مسبوقة في تاريخها- لاسيما حال فوز "القروي" في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

ب-  بروز مدى تأثير مؤسسات استطلاع الرأي على الرأي العام التونسي، حيث تصاعد دور هذه المؤسسات في السنوات الأخيرة، على الساحة السياسية وكثيراً ما هجمتها عدد من القوى السياسية ومنها حركة النهضة حيث انتقدت الأخيرة مؤسسة "سيجما كونساي" خشية أن تساهم هذه المؤسسة في توجيه وتحديد خيارات الناخبين.

ج -  إكتساب الناخبين التونسيين - بغض النظر عن نسبة المشاركة في التصويت والتي ترجحها هيئة الانتخابات بحوالي 45% من جملة الناخبين المسجلين في الانتخابات - قدر واضح من الخبرة في فرز المرشحين، وذلك من واقع إدراكهم بعيوب الساحة السياسية التي باتت مرتعاً للصراعات السياسية والانشقاقات الحزبية.

د -   انتظام إجراء الاستحقاقات الانتخابية في تونس، وهو ما اقترن بدورية المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات سواء على مستوى انتخابات المجلس التأسيسي (2011) أو انتخابات مجلس النواب والانتخابات الرئاسية (2014) أو الانتخابات المحلية (2018)، رغم ما حملته الأخيرة من تأخير نسبي بسبب خلافات البرلمانين على قانون الانتخابات.

هـ-   تراجع أهمية الأيديولوجية السياسية في مقابل أهمية قضايا التنمية والنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، الأمر الذي يدلل على أن الناخبين التونسيين لم يلتفتوا إلي الدعاية الانتخابية التي عرضها المرشحين في الانتخابات الرئاسية التونسية الحالية، في حين أن الناخبين انحازوا على الأغلب إلي "قيس سعيد" الذي يُعتبر شخصية محافظة وعُرف عنه العزوف عن قبول إجراء اللقاءات الصحفية والإعلامية ورفض التمويل الحزبي والعام لحملته الانتخابية.

ومن اللافت أيضاً في نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية تراجع عدد من الشخصيات العامة التي سبق أن احتلت حيزاً هامًا على الساحة التونسية، الأمر الذى يمكن إضاحه على النحو التالى:

أ -   هبوط ترتيب الرئيس السابق المرشح "المنصف المرزوقي" حيث حصل على 3.1% في حين أنه حصل في انتخابات عام 2014 على 33.4% مما أهله لخوض الجولة الثانية أمام "السبسي"، وهو ما يكشف تراجع المد الثوري في خيارات الشعب التونسي لأنه لم يحسن أوضاع تونس بعد الثورة.

ب-  تراجع ترتيب "حمة الهمامي" من 7.4% في عام 2014 إلي 1.7%، وهو ما يمكن إرجاعه إلي التأثيرات الواضحة التي احدثتها أزمة اليسار التونسي لاسيما داخل ائتلاف الجبهة الشعبية الذي فشل في الحفاظ على تماسكه، وكذلك الأمر ذاته للـ "هاشمي حامدي" حيث حصل على 5.7% في عام 2014 وتراجع إلي 0.4% في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

وفيما يتعلق بالمرشح الرئاسى "عبد الكريم الزبيدي"، فقد ساهمت مجموعة من العوامل في خسارته الانتخابات، حيث دعم عدد من النخب السياسية "الزبيدي" خاصة التي تواجه ازمات داخلية حادة منذ سنوات وعلى رأسها حزب "نداء تونس" الذي فشل في لم شمل الأحزاب المنشقة عنه، كذلك لم يخدم "الزبيدي" انسحاب عدد من مرشحي الرئاسة لصالحه، فكل هذه النخب عُرفت بالسعي نحو مصالحها الضيقة منذ سنوات، بالإضافة إلي الدعم المبطن الذي قدمته أكبر نقابة عمالية في تونس للزبيدي، بعد جملة من التخبط في قراراتها ومنها التراجع عن قرارها بالمساهمة المباشرة بمرشح عنها في الانتخابات الرئاسية، مما أكسب النقابة عدم مصداقية أمام الرأي العام التونسي، فضلاً عن ضعف الفريق المعني بإدارة الحملة الانتخابية للزبيدي وهو ما يمكن إعازه إلي ضغط الوقت الذي وضع فيه الفريق، خاصةً أن قرار ترشح الزبيدي لم يكن مطروحاً سوى عقب رحيل الرئيس السابق" الباجي السبسي".

وفى هذا الاطار، فأن تونس تعيش هذه الفترة فى وضع لا تُحسد عليه لاسيما في ظل المأزق القانوني المتعلق بوضعية المرشح "نبيل القروي" الذي مازال القضاء يرفض الافراج عنه، الأمر الذي يطرح في رأي رئيس الهيئة العليا للانتخابات سيناريو إعادة الانتخابات الرئاسية إذا تمكن القروي من الفوز في الجولة الثانية القادمة وأدين في ذات الوقت من قبل القضاء الذب قد يرفض إطلاق سراحه.

أما في حالة تمكن "قيس سعيد" من الفوز بمنصب رئيس الجمهورية الجديد في الجولة الثانية من الانتخابات وهو الأرجح، يتوقع أن يواجه تحديات كبيرة في تطبيق أفكاره وبرنامجه الانتخابي الذي يُعد بمثابة انقلاب في طبيعة تسيير نظم الحكم في تونس حيث طرح مشروعاً تأسيسياً جديداً يكون فيه نظام الحكم المحلي قاعدة رئيسية تحكم التصعيد في المناصب السياسية وعلى رأسها البرلمان، بمعنى أن يتم اختيار أعضائه من بين اعضاء المجالس المحلية، وليس عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر، فضلاً عن ذلك تثور تساؤلات عن طبيعة موقف "قيس سعيد" من الأحزاب السلفية (التحرير المحظور) والإخوانية (النهضة) والتيارات اليسارية.

 

Comments