جاء تعزيز العلاقات العسكرية بين روسيا وإيران مدفوعاً بطبيعة التغيرات التي أدخلتها روسيا على استراتيجيتها العسكرية بعد الهجوم الأوكراني المضاد الأول في أغسطس 2022، والذي استطاعت أوكرانيا من خلاله تحقيق عدد من المكاسب على الأرض تمثلت في استعادة عدد من المدن أهمها خيرسون وليمان وإزيوم ومناطق واسعة من إقليم خاركيف، وهو ما مثل صدمة لدى الجانب الروسي بما دفعه إلى تغيير الاستراتيجية العسكرية الخاصة به.
أهم عناصر الاستراتيجية العسكرية الروسية المعدلة:
- تسكين الجبهات: عمدت القوات الروسية في الفترة منذ (ديسمبر 2022 إلى يونيو 2023) إلى تسكين جبهات القتال وعدم القيام بحملات عسكرية واسعة النطاق تشمل عدة جبهات على غرار بداية العملية العسكرية في فبراير 2022، وذلك نظراً لمبررات لوجستية أهمها تأمين طرق الامداد للقوات في الشرق الأوكرانية وإيجاد طرق وخطوط امداد بديلة خصوصاً بعد سيطرة القوات الأوكرانية على عدد من البلدات التي كانت تعتبر بمثابة مركز امداد لوجستي من ضمنها بلدة إزيوم، وكان لهذا التوجه ما يبرره، حيث عانى الجيش الروسي من تناقص القوة البشرية من الجنود والضباط نتيجة العمليات القتالية، وقيام القوات الأوكرانية باستهداف ضباط رفيعي المستوى ومؤثرين في سلسلة القيادة وذلك بهدف ارباك هيكل القيادة والسيطرة الروسي.
- استنزاف القوات الأوكرانية: اهتمت روسيا باستنزاف القدرات العسكرية الأوكرانية وذلك من خلال الانخراط في معركة شرسة ودموية من أجل مدينة باخموت، حيث أوقع الجانب الروسي خسائر بشرية كبيرة نسبياً بالجانب الاوكراني واعتمد الجانب الروسي على مقاتلي فاجنر، الأمر الذي سمح لقوات الجيش الروسي بالتعافي في مقابل استنزاف بعض من القدرات البشرية الخاصة بأوكرانيا.
- التوسع في بناء شبكات واسعة من التحصينات والدفاعات العسكرية: بعد اعلان الجانب الأوكراني اعتزامه القيام بهجوم مضاد أخر، بدأت روسيا منذ نوفمبر 2022 القيام بإنشاءات واسعة على طول خط المواجهة مع أوكرانيا، حيث تم تصميم هذه الخطوط من اجل ابطاء والحاق اكبر قد من الخسائر الممكنة بالعدو، لذا اعتمدت هذه الخطوط على ما يعرف باسم المناطق الرمادية (no man’s land) وهي تلك المناطق التي تبدو فيها خطوط السيطرة غير مستقرة ومتقلبة ولا يمكن لأحد الادعاء بالسيطرة عليها، كما اعتمدت الاستراتيجية الروسية على القيام بمهمات الدفاع المتحرك من خلال عناصر المشاة والقوات الخاصة للتصدي للهجمات الأوكرانية والاعتماد الموسع على الطائرات المسيرة ذات الذخيرة المتسكعة (loitering drones)، فضلاً عن تلغيم مساحات كبيرة، وبناء شبكة معقدة من الخنادق والتحصينات.
- مهاجمة المرافق الحيوية الأوكرانية: استهدفت روسيا بشكل موسع المرافق الحيوية الأوكرانية، واستغلت روسيا تفوقها الجوي والصاروخي في استخدام الصواريخ الفرط صوتيه من أجل استهداف البنية لتحتية الحيوية الأوكرانية، وقد اعتمدت روسيا في البداية على صواريخ “كنزال” وصواريخ “كاليبر” وغيرهم، إلا ان ارتفاع تكلفة هذه الصواريخ مع تناقص الإنتاج الخاص بها نظراً للاستخدام العملياتي الكبير نسبياً والعقوبات الغربية التي أثرت على سلاسل الإمداد الخاصة بالمكونات التكنولوجية الخاصة بتلك الصواريخ قد دفع روسيا إلى البحث عن بدائل رخيصة.
العلاقات الروسية الإيرانية في ضوء الحرب الأوكرانية:
تمثل المسيرات الإيرانية أرخص وأكفئ البدائل لتنفيذ موسكو استراتيجيتها العسكرية الجديدة، خاصةً فيما يتعلق بقصف المنشآت الأوكرانية الحيوية في الطائرات المسيرة التي تنتجها إيران وخصوصاً الطائرات الانتحارية المسيرة طراز شاهد 136 والتي اعتمدت عليها روسيا كثيراً في استهدافها للعاصمة كييف، ونظراً لانخفاض ثمن هذه الطائرات (من 10 إلى 20 ألف دولار حسب بعض التقديرات) فإن روسيا قد اعتمدت في استخدامها على أسلوب الأسراب (swarms) وذلك بهدف اغراق الدفاعات الجوية الأوكرانية بعدد كبير من المسيرات وتشتيتها بحيث لا تستطيع التعامل معها جميعها في آن واحد ومن ثم الوصل إلى الهدف وتدميريه.
ونظراً للنجاح النسبي للمسيرات الإيرانية في أوكرانيا، عمدت روسيا إلى تعميق علاقاتها العسكرية مع إيران، حيث اشارت عدة تقارير إلى أن روسيا استقدمت خبراء عسكريين إيرانيين (غالباً من الحرس الثوري) وذلك من أجل تدريب الاطقم الروسية على المسيرات الإيرانية وتشغيلها، بالإضافة إلى خطط تزويد إيران لروسيا بالمواد اللازمة لبناء منشأة لتصنيع الطائرات بدون طيار شرق موسكو.
في مقابل ذلك فقد منحت روسيا عدد من المعدات العسكرية الغربية الممنوحة لأوكرانيا والتي تم الاستيلاء عليها في إطار العمليات العسكرية إلى إيران، ولعل أهم تلك المعدات هي صواريخ “جافلين” و “نلاو” المضادة للدبابات والتي شهدت نجاحاً كبيراً في التصدي لمعظم الدروع الروسية في بداية العملية العسكرية و”معركة كييف” وأيضاً صواريخ “ستينجر (أرض – جو)” المضادة للطائرات والمحمولة على الكتف.
ويكتسب هذا الأمر أهمية كبيرة خصوصاً في ظل خبرة إيران في مجال الهندسة العكسية والتي تقوم على انتاج نسخ محلية من الأسلحة والمعدات التكنولوجية، وهو ما تكلل مؤخراً بإعلان إيران في أبريل من العام الحالي عن صاروخ “سديد 365” المضاد للدروع والذي يشبه إلى حدٍ كبير في خصائصه صاروخ “جافلين” الأمريكي المضاد للدروع، وبجانب توريد المعدات الغربية إلى إيران أعلن عدد من المسؤولين العسكريين الإيرانيين عن معدات دفاعية ستصلها من روسيا بعد صفقة عقدها الطرفان – سهل منها انقضاء العقوبات الأممية على طهران في 2020 والتي كانت تمنع تصدير الأسلحة لها – حيث أشار المسئولون الإيرانيون إلى أن هذه الصفقة ستتضمن أنظمة دفاع جوي من طراز “إس 400” ومقاتلات “سو – 35” ، وأنظمة رادارات متقدمة ومروحيات هجومية.
مسارات مستقبلية:
من المحتمل أن يسعى الجانبان الروسي والإيراني إلى تعزيز التعاون العسكري بينهما، في ظل استمرار احتياج روسيا لحلفاء وموردين للمعدات الدفاعية من أجل تخطي العقوبات الغربية، كما ستعمد طهران إلى الاستفادة القصوى من الشراكة العسكرية الجديدة مع روسيا، وخصوصاً في مجال تطوير وتحسين الصواريخ الباليستية الفرط صوتية الخاصة بها.
فيما سيؤدي تزويد روسيا لإيران بهذه المعدات العسكرية المتقدمة إلى تفاقم المخاوف الإسرائيلية، وهو ما اتضح بتصريحات مدير جهاز المخابرات الإسرائيلية “ديفيد بارنيا” في 10 سبتمبر الجاري، والتي عبر فيها عن قلقه من احتمالية بيع روسيا أسلحة متطورة لإيران، وفي سياق آخر، ربما تعكس هذه الخطوة الروسية عدم رضى الكرملين على سياسة إسرائيل تجاه الأزمة الأوكرانية، خاصةً بعد موافقة تل أبيب على قيام مستخدمي أسلحتها بإرسال بعض منها إلى أوكرانيا.