لم تكن المظاهرات التي اندلعت في إيران على خلفية وفاة الشابة الكردية “مهسا أميني” في سبتمبر 2022 حدثًا جديدًا على النظام الإيراني، ذلك أن النظام الإيراني قد تطبع على المظاهرات الداخلية التي قد تتخذ في بعض الأحيان حيزًا جماهيرًا واسعًا، ومع ذلك، جاءت المظاهرات التي تلت وفاة أميني مختلفة في طبيعتها ونطاق انتشارها، ذلك أنها قد اندلعت في ظل ظروف داخلية وخارجية تتسم في مجملها بالتوتر العام والضغط المباشر على هياكل صنع القرار في إيران.
سياق مضطرب:
على صعيد الوضع الداخلي، لم تكن إيران في أحسن الأحوال اقتصاديًا، فبسبب فيروس كورونا والتداعيات السلبية للحرب الأوكرانية، انكمش قطاعي الصناعة والزراعة في إيران، وانخفضت أرباح القطاع النفطي الذي يعد أحد المصادر الأساسية للإيرادات في الموازنة العامة الإيرانية، وتولدت ضغوط تضخمية أدت بالحكومة إلى تحريك أسعار بعض السلع الرئيسية لتصل إلى 300% في عام 2022، فضلاً عن الارتفاع المضطرد لمعدلات البطالة، ونقص في الموارد الأساسية، حيث شهدت بعض المحافظات الإيرانية ضعفًا في تدفقات المياه الصالحة للشرب فيها، مما أثر على قطاعي الزراعة والرعي، فيما تصاعدت الإضرابات الفئوية داخل ايران في السنوات الأخيرة تحت وطأة الضغوط الاقتصادية.
أما على صعيد الوضع الخارجي، فقد كانت الإدارة الجديدة المحافظة في ذلك الوقت تقبع تحت ضغوط خارجية متزايدة. إقليمياً، شعرت إيران بتهديد متزايد بعد توقيع اتفاقيات التطبيع الخليجية مع إسرائيل، وتعاونهم في المجالات الأمنية والدفاعية، الأمر الذي تعتبره إيران بمثابة تهديد مباشر لأمنها القومي، كما لم تشهد العلاقات الإيرانية العربية تحسنًا ملحوظًا في تلك الفترة، حيث لم تؤد المفاوضات في ظل إدارة الرئيس الإصلاحي السابق “حسن روحاني” مع عدد من دول المنطقة وعلى رأسهم السعودية برعاية من العراق وعمان، إلى تحقيق اختراق دبلوماسي ملحوظ، وظلت مسألة أمن الخليج نقطة ملحة في توتر العلاقات العربية الإيرانية، نظرًا لاستهداف الأخيرة لبعض السفن التجارية.
وفي الشمال الغربي لإيران، اندلعت حرب قرة باغ الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا، وهو ما أدى إلى توتر في العلاقات بين إيران وأذربيجان على خلفية اتهامات بدعم إيران لأرمينيا، وعلى إثر ذلك، شهد النفوذ الإيراني في جنوب القوقاز تحديًا ملحوظًا بعد الحرب، ساهم في تشكيله تدخل تركيا فيها بما ساعد أذربيجان على الانتصار، كما ساهمت الحرب في تعزيز الحضور الإسرائيلي على حدود إيران وذلك من خلال التعاون الفعال بين باكو وتل أبيب. أما شرقًا، فقد أدت سيطرة طالبان السريعة على كامل أفغانستان إلى تعقيد حسابات القادة الإيرانيين، فعلى الرغم من الرضا الإيراني المعلن عن الحركة، إلا أن الممارسة العملية لطالبان في الحكم قد أظهرت عددًا من نقاط التوتر بين كابل وطهران، تمثل أهمها في قضية المياه الخاصة بنهر هلمند وقضية الأقلية الشيعية في أفغانستان، فيما ظلت المفاوضات المتعلقة بالملف النووي متجمدة، ولم تشهد اختراقات جدية.
أزمة قديمة جديدة:
إزاء تلك الضغوط الداخلية والخارجية، لم يكن من المستغرب أنه عند وفاة أميني أن تندلع مظاهرات تندد بوفاتها، وأن تتخذ هذه المظاهرات طابعًا شعبيًا وعنيفًا في بعض الأحيان، وعلى الرغم من أن المظاهرات هو أمر قد تطبع عليه النظام الإيراني، إلا أن المظاهرات التي أعقبت وفاة أميني كانت مختلفة من جوانب عديدة، حيث لم تنحصر المظاهرات فقط في المناطق والمحافظات التي تشهد تركز كردي كبير ولكنها امتدت وعلى نحو سريع وواسع إلى معظم المحافظات الإيرانية.
أما من ناحية حجم المظاهرات، فعلى خلاف المظاهرات التي شهدتها إيران في السنوات السابقة، كانت مظاهرات أميني كبيرة الحجم بشكل ملحوظ، حيث شارك فيها عدد كبير من الإيرانيين، خصوصًا من الشباب، الأمر الذي أعاد لأذهان النخبة السياسية الإيرانية مشاهد تظاهرات ” الحركة الخضراء الإيرانية”، والتي مثلت تهديدًا حقيقيًا للنظام الإيراني آنذاك، كما دقت مظاهرات أميني ناقوس الخطر في أوساط النخبة الإيرانية، فهي كانت مؤشرًا واضحًا على تزايد معدلات عدم الرضا الشعبي، واستدعت في الأذهان المظاهرات واسعة النطاق التي اندلعت في 2019 عندما قررت الحكومة زيادة أسعار المحروقات، وتخللها أعمال شغب ونهب واعتقالات واسعة للمتظاهرين.
كما اكتسبت مظاهرات أميني طابعًا حقوقيًا بامتياز، حيث مثلت إحدى حالات العنف المؤسسي تجاه الأقليات في إيران، ومن ناحية أخرى فقد سلطت الحادثة الضوء على أوضاع المرأة في إيران، وهي العوامل التي استغلتها القوى الغربية والمنظمات الحقوقية الدولية في الهجوم المباشر على النظام الإيراني والتشهير بسجله في مجال حقوق الإنسان، واستخدمتها بعض القوى السياسية الأوروبية في الضغط على الحكومات الأوروبية من أجل فرض مزيد من العقوبات على طهران.
صمود النظام:
على الرغم من تزايد المظاهرات التي أعقبت وفاة أميني، إلا أن النظام الإيراني استطاع التعامل معها بقدر من الفاعلية على أكثر من مستوى، فبجانب المستوى الأمني للتعامل مع الأزمة، والذي تضمن في معظمه التصدي المباشر للتظاهرات، اتخذت إيران عددًا من الخطوات على الجانب السياسي داخلياً وخارجياً، منها: إلغاء شرطة الأخلاق، والإفراج عن بعض المتظاهرين، كما حاولت طهران تفكيك المناخ المشحون بالتوتر مع الدول العربية، وتكللت تلك الجهود بالنجاح بعقد اتفاق مع السعودية بوساطة صينية في مارس الماضي، يقضي باستئناف العلاقات بينهما، بالإضافة إلى البدء في سلسلة محادثات مع دول عربية أخرى، بُغية استئناف العلاقات وتصفية الأجواء في المنطقة، أما على الصعيد الدولي، فقد استطاعت طهران توقيع اتفاق مع الولايات المتحدة يقضي بتبادل سجناء مقابل الإفراج عن أموال إيرانية مجمدة في كوريا الجنوبية، وذلك على الرغم من جمود المفاوضات النووية واستمرار الغضب الغربي من الدعم الإيراني لروسيا.
وختامًا، فقد تنبأ الكثيرون بأن المظاهرات التي أعقبت وفاة أميني قد تكون سببًا مباشرًا في سقوط النظام الإيراني، وعوّل الكثير من المسئولين في الغرب على ذلك، إلا أن النظام الإيراني قد أبدى مجددًا قدرته على الصمود وتخطي الأزمات، والتأقلم مع الظروف والأزمات المحيطة به، بل والخروج بمكاسب منها، وذلك من خلال استخدام مزيج من استراتيجيات البقاء التي أسهمت – ولا تزال تسهم – في استمرارية النظام.