تتعرض المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط للعديد من التهديدات، والتي ترتبط بتزايد التهديدات الإيرانية، وتفاقم مخاطر الجماعات الإرهابية، ويتزامن ذلك مع ما يمكن وصفه بعدم الاكتراث الأمريكي بالمنطقة، وفي ظل مساعي الصين وروسيا لاستغلال هذا الموقف الأمريكي لتمديد نفوذهما في المنطقة. وفي هذا الإطار، نشر “معهد هدسون” دراسةً بعنوان “القوة في الوحدة: هيكل أمني إقليمي مستدام بقيادة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”[*]، والتي تدعو إلى قيام الولايات المتحدة بتشكيل هيكل أمني إقليمي في الشرق الأوسط، بهدف تعزيز سياسات الولايات المتحدة وحماية مصالحها.
تهديد المصالح الأمريكية:
تتعدد المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ومع ذلك يمكن القول بوجود أربع مصالح رئيسية، تتعلق الأولى بضمان تدفق إمدادات الطاقة دون أي عوائق، للحفاظ على قوتها وقدراتها الاقتصادية، وتنصرف الثانية إلى الحفاظ على سلامة واستمرارية التجارة العالمية والطرق التي تسلكها بما يفيد واشنطن في ترسيخ نفوذها الاقتصادي، أما الثالثة فهي مكافحة الإرهاب، وتقويض قدرة الجماعات الإرهابية على زعزعة أمن الولايات المتحدة وحلفائها، وأخيرًا، منع انتشار أسلحة الدمار الشامل لمنع أي إخلال بتوازن القوى إقليميًا.
تفرض طبيعة السياق الإقليمي، وما يتضمنه من مخاطر ومتغيرات، تهديدًا صريحًا للمصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:
- تنامي الإدراك بأن الولايات المتحدة تسعى إلى الانسحاب من الشرق الأوسط، وذلك في ضوء التراجع المضطرد في عدد القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة، وترك بعض حلفائها يبحثون عن بدائل لتحقيق أمنهم، ودفعت خصومها نحو التمدد في هذا الفراغ الذي تسببت به الممارسات الأمريكية، ومن أبرز مظاهر ذلك التردد الأمريكي في الاستجابة لتعرض السعودية والإمارات لهجمات بالمسيرات والصواريخ استهدفت البنية التحتية المدنية والاستراتيجية خاصةً منشآت الطاقة والنقل والشحن التجاري، وقد أدى هذا التردد إلى زيادة الشكوك في مدى التزام واشنطن بالدفاع عن حلفائها وجدوى الاعتماد عليها، خاصةً أن هذه الهجمات قد مرت دون عواقب، بينما عملت واشنطن على تقييد قدرة شركائها على الدفاع عن نفسها.
- تزايد التهديدات الإيرانية للمصالح الأمريكية، إذ تعتبر إيران نفسها في صراع وجودي مع الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، وهي قادرة على أن تظل مصدرًا لعدم الاستقرار، وذلك في ضوء دعمها لعدد من الميليشيات والوكلاء، وتوظيفهم من أجل ترسيخ وجود ما يسمى “محور المقاومة”، عبر إمدادهم بالسلاح والتدريب واستغلال نقاط ضعف جيرانها الإقليميين، فضلًا عن سعى إيران إلى تصدير نموذجها الأيديولوجي للحفاظ على استقرار نظامها السياسي، وهو ما تستغله التنظيمات الإرهابية السنية للحصول على الدعم المادي وتجنيد المقاتلين بهدف إقامة شكل من أشكال التوازن، وكذلك، تمتلك إيران قدرات تكنولوجية بما جعلها مصدر تهديد رئيسي لأمن الشبكات والبيانات سواء للولايات المتحدة أو لحلفائها، يُضاف إلى ذلك تحرك إيران نحو تطوير برنامجها النووي، ما جعلها أقرب إلى إنتاج المواد الانشطارية اللازمة لامتلاك سلاح نووي.
- تعزيز العلاقات الروسية الإيرانية، حيث استخدمت موسكو مؤخرًا مئات المسيرات الإيرانية في إطار حربها مع أوكرانيا، في حين تسعى طهران إلى تعزيز قدراتها العسكرية من خلال الحصول على المقاتلات الروسية المتطورة من طراز “سو-35″، وإمكانية تزويدها بتقنيات عسكرية روسية متقدمة وأسلحة إضافية، بما في ذلك نظم الدفاع الجوي التي يمكن أن تزيد من صعوبة أي محاولة لاستخدام القوة لتعطيل أو تدمير برنامجها النووي، إضافةً إلى الحصول أيضًا على الأسلحة الأميركية التي أُرسلت إلى أوكرانيا واستولت عليها موسكو.
الدوافع والأولويات:
من الواضح أن هناك حاجة ماسة لإنشاء هيكل أمني إقليمي مستدام في الشرق الأوسط، تقوده الولايات المتحدة، ويضم شركاءها الفاعلين في المنطقة على أساس المصالح المتقاربة، وهو ما يعتبر الطريقة الأكثر فاعلية لمعالجة المخاطر والتهديدات التي تواجه الشركاء والحلفاء الإقليميين ومنع تراجع الثقة في الالتزام الأمريكي حيالهم.
ويسعى هذا البناء الأمني إلى تحقيق عدد من الفوائد للولايات المتحدة أبرزها تأمين المصالح الأمريكية الحيوية حيث تعتمد الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي على التدفق المستمر للطاقة من الشرق الأوسط والتجارة عبره، وكذلك، منافسة الصين التي تعتمد على استيراد الطاقة من الشرق الأوسط لأغراض اقتصادية وعسكرية، وكذا إدارة المخاطر خاصةً أن التهديدات القائمة في الدول الحليفة لواشنطن تمثل خطرًا أيضًا على المصالح الأمريكية، وتعظيم الاستفادة من العلاقة مع الشركاء واستمرار المزايا الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية طويلة الأجل، والبناء على الجهود التاريخية في بناء هياكل أمنية جماعية في المنطقة من أجل ضمان أن يكون الهيكل الأمني الجديد مبني على أسس سليمة، ويوفر بالفعل قيمة مضافة.
خطوات أمريكية مطلوبة:
هناك جملة من الخطوات والخيارات التي يجب على الولايات المتحدة مراعاتها من أجل إنشاء بنية أمنية إقليمية مستدامة، تعالج المخاطر المتزايدة واختلال ميزان القوى، وتستفيد من جهود الشركاء والحلفاء، ويمكن أن توفر المنتديات الحالية النظام الأساسي الأمثل للمحادثات الأولية لإنشاء التحالف، وهنا تقترح الدراسة قيام الولايات المتحدة ببناء توافقًا وتقييمًا إقليميًا مشتركًا بشأن طبيعة التهديدات.
كذلك، من المهم العمل على تحقيق التكامل الاقتصادي، الذي يحافظ على الموارد الضرورية، ويربط الشركاء معًا بشكل أوثق، ومعالجة الفجوات في القدرات والأعداد داخل الهيكل الأمني، مع إمكانية الاستفادة من دعم الحلفاء الدوليين، مثل حلف الناتو، وكذا الجمع بين الترتيبات الأمنية ومنتديات الحوار الموجودة بالفعل ضمن الهيكل الجديد، مع التركيز على قضية الأمن البحري، وإمداد الشراء والحلفاء الإقليميين بالنظم التسليحية اللازمة، وتعزيز التصور لديهم بأن إيران ووكلاءها هم التهديد الرئيسي لأمن دول المنطقة، وإنشاء بنية تحتية جديدة توفر دفاعًا متعدد الطبقات وشبكة من الدفاع الجوي ضد الصواريخ والمسيرات الإيرانية، ودفع إسرائيل نحو تنمية علاقاتها مع الشركاء الإقليميين.
وختامًا، تجدر الإشارة إلى أن الدراسة لم تول الاهتمام الكاف بالتهديدات الجديدة والتحديات المرتبطة بها، مثل: الجفاف وزيادة التصحر وتضاؤل إمدادات المياه وتراجع الأمن المائي والغذائي واحتمال حدوث أوبئة جديدة، فضلًا عن توضيح مدى تأثيرها على الهيكل الأمني المقترح أو كيفية استجابة الأخير لها، يُضاف إلى ذلك أن مسار التهدئة الإقليمية الذي انخرطت فيه القوى الإقليمية الرئيسية سيعطل عمليًا من أي محاولات أمريكية لتحديد إيران باعتبارها مصدر التهديد الرئيسي في الإقليم، كما أن الهيكل الجديد يمثل في حقيقة الأمر تدويرًا للتحالفات الإقليمية الراهنة، ويسعى بالأساس لدمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية، دون النظر إلى الأبعاد المترتبة على تلك الخطوة على شعبية النظم الحاكمة.
[*] Robert Greenway, “Strength in Unity: A Sustainable US-Led Regional Security Construct in the Middle East”, Hudson Institute. August 2023. Available at: https://cutt.us/zamXt