تتعدد المهام والمسئوليات والوظائف المدنية والعسكرية التي تتولاها سفن القوات البحرية لدول العالم، سواء في أوقات السلم أو الحرب، ففي الحالة الأولى، تستهدف الدول فرض سيادتها البحرية على سواحلها ومياهها الإقليمية وحدودها البحرية، وحماية وتأمين المصالح والمنشآت الاقتصادية في المياه الإقليمية وفى المنطقة الاقتصادية الخالصة لها بالبحار والمحيطات، وكذا حماية الأسطول التجاري للدولة وخطوط مواصلاته البحرية في داخل وخارج المياه الإقليمية من الأعمال العدائية كالتخريب وزرع الألغام و القرصنة، والتسلل والهجرة غير الشرعية والتهريب.
فضلًا عن الحفاظ على سلامة وأمن الطرق والممرات البحرية من وإلى موانئ الدولة، ومراقبة حركة السفن للتأكد من التزامها بقوانين وقواعد الملاحة البحرية، ومساعدة سلطات الدولة المدنية في عمليات الإخلاء والإنقاذ البحري أثناء الكوارث والأزمات، والتنسيق والتعاون مع سلطات الدولة المدنية للقيام بعمليات المسح الديموجرافي للمياه الإقليمية وسواحل الدولة، إلى جانب القيام برسم الخرائط الملاحية وإقرارها للممرات والطرق البحرية.
أما في الحالة الثانية، أي حالة الحرب، تضطلع القوات البحرية بمهام عديدة، أبرزها: قطع خطوط المواصلات البحرية التجارية المعادية، ومنع سفنها من الوصول لموانئها لوقف وصول الدعم الاقتصادي والتجاري لصالح الدولة المعادية، وكذا إعاقة ومكافحة تسلل الغواصات المعادية ومنع قيامها بالاستطلاع والتصوير وجمع المعلومات عن الموانئ وعن القطع البحرية للدولة، ومنع وصول وإنزال أفراد القوات الخاصة البحرية للقيام بعمليات تخريبية ضد الموانئ والسفن، وحماية سفن الأسطول من السفن المعادية ومساندة وحماية عمليات القوات البرية خلال عمليات الدفاع عن موانئ وسواحل الدولة ، وفرض الحصار البحري على الموانئ المعادية لمنع خروج سفنها وغواصاتها وانتشارها، وربما تقوم القوات البحرية بعمليات استباقية قبل بدء الحرب البحرية، عبر تلغيم الموانئ والمراسي المعادية والطرق البحرية لمنع خروج السفن والغواصات المعادية.
وبالنظر إلى الحالة الروسية، نلاحظ امتلاكها قدرات بحرية متقدمة، فهي ثاني أضخم أسطول بحري حربي فى العالم، بعدد قطع يبلغ نحو 605 قطعة، تشمل العديد من الأنواع والطرازات المختلفة الأغراض والتسلح، وقد تصاعد اهتمام روسيا بتطوير ورفع قدراتها العسكرية بوجه عام والبحرية بوجه خاص، من خلال بناء وتصنيع سفن السطح الجديدة المتطورة والحاملة للصواريخ المجنحة والطويلة المدى والفرط صوتية ودقيقة التصويب، والغواصات النووية الحديثة من الجيل الخامس والقادرة على الإبحار لمسافات بعيدة عن مياهها الإقليمية، والتي تحمل الصواريخ النووية العابرة للقارات وتتميز بالسرعة العالية، وبالسرية التامة مما يصعب اكتشافها ومكافحتها، أو من خلال امتلاك منظومات بحرية جديدة كالمسيرات البحرية الموجهة عن بعد.
وتشتمل القوات البحرية الروسية على خمس قيادات لأساطيلها البحرية، وذلك في البحر الأسود وبحر قزوين وبحر البلطيق والمحيط الهادئ وبحر الشمال، وتعتبر الغواصات النووية المزودة بالصواريخ الباليستية النووية العابرة للقارات والصواريخ المجنحة الطويلة المدى بمثابة القوة الضاربة الرئيسية لسلاح البحرية الروسي، إلى جانب حاملة الطائرات الوحيدة الرئيسية “الأميرال كوزنتسوف”، وكذا الطرادين الصاروخيين النوويين الثقيلين “بطرس الأكبر” – تُجرى حاليًا عمليات إصلاح للطراد بعد الأضرار التي تعرض لها خلال الحرب الأوكرانية – و”مارشال أوستينوف”، ويعتبرا العمود الفقري لسفن السطح الروسية.
وتستهدف روسيا من امتلاكها لمنظومات تسلح بقدرات متقدمة ومتطورة، مواجهة التحديات المتصاعدة البعيدة والقريبة، كانتشار سفن الأساطيل البحرية الأمريكية السبعة بالمحيطات والبحار فى العالم من جانب، وسفن دول حلف الناتو ودول الاتحاد الأوروبي على الترتيب من جانب آخر، وهو ما يؤثر على الأمن والاستقرار فى إقليمها الآسيوي – الأوروبي المتداخل.
إن ضغط حلف الناتو لروسيا من شمال غرب أوروبا، ومن اتجاه شرق أوروبا، كان من ضمن أسباب اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث أسرع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى الاستباق والمبادرة بغزو أوكرانيا عسكريًا بهدف اختراق التحديات التي فرضها اقتراب حلف الناتو من حدود بلاده، وقبل بدء أي خطوة أوكرانية للانضمام للحلف، واستطاعت روسيا تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة لها، على الرغم من الدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا الذي بلغ وفقًا لبعض التقديرات نحو 443 مليار دولار، بل وساندت روسيا حصول بعض المناطق في الدونباس على استقلالها، ووافقت على ضمها إليها لاحقًا، وقد أدى النجاح الذي حققه الجيش الروسي إلى تقليد عدد من منتسبيه وسام “بطل روسيا”.
وعلى صعيد آخر، حقق الأسطول الروسي فى البحر الأسود مكاسب هو الآخر، واستطاع فرض سيطرته البحرية في نطاقه التشغيلي، حيث تمكن من محاصرة ميناء أوديسا على البحر الأسود وتدمير سفن البحرية الأوكرانية على الأرصفة أو بإغراق القطع الحربية التي حاولت الخروج من الميناء لمواجهه سفن الأسطول الروسي، وأدار باقتدار هجومًا ناجحًا على السواحل والموانئ الأوكرانية فى بحر أزوف، واستطاع فرض سيطرته البحرية على مينائي ماريوبول وبرديانسك، هذا بخلاف إغراق البحرية الروسية للعديد من القطع البحرية الأوكرانية، والاستيلاء على وأسر عدد 12 قطعة بحرية أوكرانية أخرى، وأصبحت المحصلة النهائية هي أن بحر أزوف هو بحر روسي داخلي خالص، وبما فرض واقعًا جيوسياسيًا جديدًا لصالح روسيا ضد حلف الناتو.
لقد جاء الاهتمام الروسي بتطوير قدراتها العسكرية البحرية من واقع خبرتها التاريخية، هذه الخبرة التي أثرت أيضًا على الكيفية التي تدير بها عملية التطوير، فهي لن تندفع مجددًا في سباق تسلح جديد يستنزفها علميًا وتكنولوجيًا مثلما حدث في حرب الفضاء إبان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، ولكنها تتحرك حاليًا وفقًا لأولوياتها التي حددتها جيدًا، وهي محاولة إنهاء القطبية الأحادية التي تتشبث بها الولايات المتحدة على المسارح الدولية المتعددة، ويبدو أن روسيا ماضية بنجاح في تنفيذ جانب كبير منها.