تعمل السياسة الإسرائيلية وفقُا لضوابط محددة لا خروج على أسسها منذ إنشاء الدولة العبرية إلى الآن برغم ما مر من أحداث وتطورات مهمة ومفصلية كانت تتطلب في توقيتات محددة العمل على إجراءات وتدابير مهمة، وهو ما ينطبق على حرب غزة التي لا تزال مندلعة، في ظل خيارات سياسية وعسكرية مفتوحة على كثير من التطورات، والتي سيكون لها أصداءً إقليمية خطيرة حال انضمام أطراف إقليمية جديدة إليها.
فالمستوي السياسي ما زال يبحث عن حل وفق معادلة سياسية لا وجود فيها للفلسطينيين بل ومواطني الدولة من عرب 48، مما يؤكد أن الحرب في قطاع غزة ليست حرب مواجهة في إطار سلسلة المواجهات التي جرت في الجولات السابقة، بل هي جولة مفصلية لا وجود فيها لأي طرف آخر بعد أن أدخلت إسرائيل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس في خطوة الاستهداف الكبير، أي إنهاء حكم حركة حماس في قطاع غزة، وفي ظل استمرار العمل العسكري في القطاع من الشمال إلى الجنوب مع التصميم على العمل العسكري كخيار للحسم فإن ذلك قد يعطل كثيرًا من خطوات التهدئة التي عملت عليها مصر وقطر، وقد تدفع إسرائيل بطبيعة الحال إلى الانتقال إلى العمل الأمني والتعجيل بإقرار بعض الترتيبات الأمنية بقرار انفرادي وربما بعد التنسيق مع الإدارة الأمريكية، وهي خطوة قد تؤدي لمزيد من الصدامات الدبلوماسية مع دول الجوار المعنية مثل مصر والأردن وكذا مع الدول الأوروبية التي تريد وقف اطلاق النار أولًا ثم الاتجاه لاحقًا لمسألة الترتيبات الأمنية.
إن المستوي السياسي الراهن في إسرائيل سيواجه الكثير من التحديات في ظل وجود وزراء من اليمين المتطرف الذين يطالبون باستمرار المواجهة لتحقيق أهداف إسرائيل الكبرى، وهي أهداف تستبعد بالضرورة الحلول السياسية أو الاستجابة لجهود وقف إطلاق النار، لاسيما أن المجتمع الإسرائيلي يتجه أكثر نحو تبني خيارات العنف والتصعيد والمواجهة على حساب التهدئة، ليس فقط مع الفلسطينيين، بل ومع الجبهات المعارضة والمقاوِمة الأخرى في الضفة الغربية، ومع الميليشيات المرتبطة بإيران في لبنان وسوريا، وجبهة الحوثيين مؤخرًا.
ويجب علينا ربط أي حديث راهن عن أي مستقبل للحرب في غزة بالخيارات السياسية أو الاستراتيجية التي ستتبناها إسرائيل، وستعمل على تنفيذها في المديين المتوسط والطويل الأجل، وهذه الخيارات تتجاوز قضية تشكيل حكومة جديدة أو وقف تكتيكي لإطلاق النار، أو نجاح الهدن المؤقتة، بل ترتبط بطبيعة الحسابات الجديدة لدى صناع القرار في تل أبيب، وهي أهمية عودة سياسة الردع مرة أخرى، من أجل تنفيذ هدفها الأساسي المتمثل في أن تكون إسرائيل دولة قوية قادرة على فرض أمنها والحفاظ على مقدراتها الاستراتيجية في محيط عدائي.
ويمكن القول إن الدولة العبرية بأكملها تعمل في سياق موحد توافقي برغم حالة الانقسام الراهنة التي ستستمر إلى حين صياغة عقد سياسي وأمني جديد، بعد أن تكون اسرائيل قد استوعبت تمامًا ما جرى لها بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، والمعادلة المتغيرة للتحديات والمخاطر التي تنظر لها على أنها ستهدد وجودها في الفترة المقبلة، وبالتالي فإنه من المتوقع أن تتأكد خيارات القوة واستخدامها لدى صانع القرار الإسرائيلي، وهو ما يدفع نحو رفع درجة المواجهة العسكرية مع حماس.
ومع احتمالية امتداد نطاق المواجهات إلى ساحات أخرى، فسينشأ وضع إقليمي بالغ التعقيد، ستستفيد منه إيران في تعزيز نفوذها وتغلغلها في المجتمعات العربية عبر تصدير نفسها باعتبارها الجهة التي تقاوم إسرائيل والقادرة على تصدير الإزعاج لها، كما سيؤدي هذا الوضع إلى تهديد منظومة العلاقات الإسرائيلية – العربية ووضعها في خطر، ذلك أنها قد تصل إلى الصدام السياسي، كما أن فكرة نفي الآخر من المعادلة خاصةً مواطني إسرائيل من عرب 48 سيدفع لمزيد من التوتر داخل الدولة الإسرائيلية نفسها.
ويثير كل ما سبق تساؤلات جديرة بالاهتمام، تتعلق بمدى استمرار هذا الخط العام من الممارسة السياسية والعسكرية في إسرائيل، فهل سيستمر مع وصول حكومة إسرائيلية جديدة؟ وهل ستكون هذه الحكومة منفتحة بصورة أكبر على السلام والمفاوضات مع الجانب الفلسطيني؟ والحقيقة أن الإجابة على أي من هذه التساؤلات من الصعوبة بمكان تخيلها، ذلك أن الجانب الإسرائيلي نفسه – وكذا شبكة حلفائه في الغرب – لا يملك الإجابة عنها، على الأقل في الوقت الراهن.