تبنت كينيا خلال الفترة الأخيرة عددًا من التدابير المتسارعة بهدف تعزيز جهودها لمكافحة الإرهاب في البلاد، وذلك من خلال تكثيف تحركات الحكومة الكينية على المستويات الداخلية، والإقليمية، والدولية، وهو ما يأتي في ضوء الالتزام المتجدد للحكومة الكينية بمجابهة الخطر الإرهابي الذي برز كملمح أساسي للوضع الأمني في القرن الإفريقي.
بين زخم “الشباب” ونشاط الميليشيات:
صنف مؤشر الإرهاب العالمي دولة كينيا على مدار العقد الماضي من بين أكثر 25 دولة في العالم تضررًا من العمليات الإرهابية، عزز من ذلك تقلبات الأوضاع الأمنية في دول الجوار الكيني، لا سيما الصومال وإثيوبيا، بالإضافة إلى واقع الاضطرابات الداخلية الناجمة عن عدم قدرة الحكومات الكينية على تحقيق التوازنات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتهميش المناطق الحدودية التي تقطنها الأقليات في البلاد، وتواجه كينيا خلال العام الحالي زيادة حادة في معدلات الهجمات الإرهابية لحركة “الشباب” الموالية لتنظيم “القاعدة”، تقع معظمها في البلدات الحدودية والريفية في شرق وشمال شرق البلاد، على طول الخط الحدودي مع الصومال المجاورة، وهو ما يأتي في ضوء العملية العسكرية التي شنتها الحكومة الصومالية ضد معاقلها بمشاركة القوات الكينية، وجدير بالذكر أن جهود كينيا في مواجهة حركة الشباب داخل الصومال قد بدأت منذ عام 2011، وبالتالي ترغب الحركة في توجيه ضربات استباقية وانتقامية للضغط على السلطات الكينية للعدول عن مشاركتها الحالية في العمليات العسكرية الصومالية ضدها.
وعلى جانبٍ آخر، تنشط الميليشيات الرعوية في المناطق والمقاطعات الواقعة شمال شرق البلاد، حيث تشهد تلك المنطقة توترات مستمرة بين القبائل والميليشيات المسلحة بها بما أدى إلى تزايد العنف الطائفي، وتشير بعض التقديرات في ذلك الإطار إلى وقوع نحو 170 حادث عنف بين الميليشيات الرعوية وبعضها في عام 2022، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 139% مقارنة بعام 2021، وترتبط تلك الصراعات بالأساس بالتنافس على الوصول إلى المراعي وموارد المياه المحدودة في تلك المناطق[1].
مسارات متوازية:
تتحرك الحكومة الكينية في إطار جهود مكافحة الإرهاب، وفقًا لثلاثة مسارات رئيسية، تشكل انعكاسًا للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب في كينيا، والتي تم تبنيها في عام 2016، ويمكن الإشارة إلى تلك المسارات الثلاثة على النحو التالي:
المسار الداخلي: يركز هذا المسار على التعبئة الشعبية بشأن أهمية الانخراط في جهود مكافحة الإرهاب، من خلال دعوة كافة أطياف المجتمع الكيني للتعاون مع السلطات الأمنية، وكذا تسليح بعض الفئات الشعبية خاصةً القاطنة في المناطق الحدودية المتاخمة للصومال، وذلك على غرار النهج الصومالي في التعامل مع التهديدات الإرهابية المستمرة لحركة الشباب، إضافةً إلى محاولة التوسع في تنفيذ مبادرات تستهدف دعم المجتمعات المحلية عن طريق توفير فرص اجتماعية واقتصادية من شأنها توفير احتياجات المواطنين الأساسية، بما يقطع الطريق أمام محاولات الجماعات المتطرفة لاستقطاب الأهالي استغلالًا الأوضاع الاقتصادية.
ووفقاً للمسار الداخلي أيضًا، فقد تم الإعلان عن إنشاء 14 قاعدة عسكرية على طول الحدود الصومالية الكينية، لتعزيز الأمن في هذه المنطقة، ومنع تسلل حركة الشباب إلى الأراضي الكينية، وكذا تعزيز دور المركز الوطني لمكافحة الإرهاب في كينيا، عن طريق تمكين دوره، واضطلاعه بمهمة تنسيق الجهود الوطنية لمكافحة الإرهاب، ووضع استراتيجيات لمكافحة التطرف، فضلًا عن تعزيز استجابة السلطات الكينية السريعة لطرق تمويل الأنشطة والجماعات الإرهابية، وفي هذا الإطار، أصدرت كينيا قانونًا شاملًا ومعدلًا لقوانين مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لعام 2023، من خلال اعتماد بعض الالتزامات الواجبة على شركات التمويل المحلية والأجنبية بخصوص الإفصاح الدوري عن العمليات المالية الواردة والصادرة.
كما تسعى كينيا نحو تمكين حكومات المقاطعات لتولي المسؤولية الكاملة لتطبيق جهود مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، وكانت مقاطعة نيروبي أول مقاطعة في كينيا تقوم بتفعيل خطة عمل بشأن منع ومكافحة التطرف العنيف من خلال قانون مكافحة التطرف العنيف في مقاطعة نيروبي لعام 2022، والذي يسعى إلى توفير تدابير لمنع التطرف، وتقويض عمليات التجنيد في الجماعات المتطرفة، وتعزيز الشراكات بين مؤسسات المقاطعة ووكالات إنفاذ القانون الوطنية في كينيا.
المسار الإقليمي: يعمل هذا المسار على إبراز مكانة كينيا كمركز إقليمي تنطلق من خلاله استراتيجيات المكافحة الإقليمية، وفي ذلك الإطار، تضم كينيا مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب لدعم بلدان شرق أفريقيا والقرن الأفريقي في جهودها لمكافحة الإرهاب ومنع التطرف العنيف، كما أطلقت الحكومة الكينية في نوفمبر الماضي، مركزًا إقليميًا للتدريب على مكافحة الإرهاب بالشراكة مع الولايات المتحدة في مقاطعة كيتوي، يستهدف تدريب الضباط من كينيا والدول المجاورة على كيفية مجابهة الأنشطة الإرهابية.
كما تعتزم كينيا إرسال قوات للمشاركة في المهمات العسكرية الإقليمية الهادفة لمكافحة الإرهاب بصورة دورية، حيث تشارك كينيا بشكٍل واضح في العمليات العسكرية المشتركة في الصومال والكونغو، وذلك انطلاقًا من فكرة المصير المشترك لكينيا وجوارها، إضافةً إلى التنسيق المستمر والمكثف مع دول الجوار (الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا) نحو تعزيز التباحث والانخراط المشترك في جهود مكافحة الإرهاب، الذي بات يشكل معوقًا رئيسيًا أمام تحقيق خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالدول الأربعة.
المسار الدولي: يتصل هذا المسار بتكثيف الحضور الكيني في المنظمات الدولية المعنية بمكافحة الإرهاب، حيث انضمت كينيا للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب في سبتمبر الماضي، كما سبق وانضمت إلى التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب في عام 2022.
عقبات متصاعدة:
على الرغم من حجم الجهود الوطنية الكينية المبذولة في مجال مكافحة الإرهاب، إلا أن كينيا لم تتمكن من القضاء على النشاط الإرهابي بشكل كامل على أراضيها، وهو ما يرجع بصورة رئيسية إلى جملة من العقبات التي شكلت حجر عثرة أمام ترجمة الجهود الوطنية إلى واقع كيني خالٍ من الإرهاب، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك العقبات على النحو التالي:
- المشكلات الحدودية: تمتد الحدود الكينية الصومالية لما يزيد عن700 كيلو متر وتمر عبر مختلف أنواع التضاريس شديدة الوعورة، الأمر الذي يجعل من تلك المنطقة الحدودية الشاسعة، بيئة مناسبة وحاضنة لعناصر حركة الشباب التي تستغل ضعف آليات المراقبة الحدودية بسبب ظروفها الطبيعية، لإنشاء نقاط تمركز جديدة تمكنها من تنفيذ عمليات نوعية في الصومال وداخل الأراضي الكينية.
- الأزمات الاقتصادية: يشهد الداخل الكيني واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا مأزومًا، يرتبط بمعدلات التضخم المرتفعة في البلاد، وارتفاع أسعار السلع الضرورية إلى مستويات يصعب على أغلبية المواطنين تحملها، فيما بلغ عدد الكينيين الذين يعاونون من فقر مدقع عام 2022 نحو 8.9 مليون مواطن.
- الانقسامات القبلية: تواجه كينيا حالة من التصدع المجتمعي على خلفية الانقسامات القبلية، وهو ما يرجع بالأساس إلى توزيع الصلاحيات والامتيازات السياسية والاقتصادية بين الأربعين قبيلة التي تشكل ملامح التنوع القبلي والاثني في البلاد، وبذلك أصبحت الجهود الأمنية في البلاد مشتتة بين مكافحة الإرهاب، واحتواء النزاعات القبلية والانقسامات الداخلية التي أصبحت سمة ملازمة للوضع الاجتماعي في كينيا.
- العقبات السياسية: تتعلق بشكل أساسي بوجود بعض أوجه القصور في التنسيق الكامل بين الحكومة المركزية ورؤساء المقاطعات وممثلي القبائل حول التنفيذ الفعّال لجهود واستراتيجيات المكافحة في المناطق والمقاطعات لاسيما الحدودية، وكذا الاتهامات الحقوقية الموجهة لشرطة مكافحة الإرهاب الكينية، مما يشكل ضغطًا دوليًا على جهود المكافحة الداخلية.
وختامًا، تجدر الإشارة إلى أنه في ظل حالة الاستقطاب والتجاذب الدولي بشأن مكافحة الإرهاب في أفريقيا، فقد تتجه الولايات المتحدة إلى الانخراط الأعمق في جهود المكافحة في القارة من خلال دعم تثبيت كينيا كمركز إقليمي ونقطة انطلاق لدور أمني وعسكري أمريكي مجابه للقوى الدولية الساعية لبسط نفوذها الأمني في القارة، لا سيما روسيا والصين.
[1] “Increasing Security Challenges in Kenya”, ACLED. 2 March 2023. Available at https://acleddata.com/2023/03/02/kenya-context-assessment-increasing-security-challenges-in-kenya/