نظمت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة “عبد الحميد الدبيبة” مؤتمرًا وزاريًا للدول الأعضاء في تجمع دول الساحل والصحراء (س. ص) في طرابلس خلال الفترة من 27 إلى 28 نوفمبر 2023، تحت شعار “بحر متوسط آمن وجنوب مستقر”، بهدف صياغة خطة لاستيعاب المهاجرين في سوق العمل الليبية، بتمويل من الاتحاد الأوروبي.
وقد تُوجت أعمال المؤتمر التي استمرت على مدى يومين في طرابلس – بمشاركة وزراء العمل وممثلي الدول الأعضاء في تجمع الساحل والصحراء إلى جانب سفراء دول الاتحاد الأوروبي المعنية بقضية الهجرة وممثلين عن الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ومنظمة العمل الدولية والأمم المتحدة – بوثيقة عمل تحت مسمى “إعلان طرابلس بشأن حوكمة تنقل وتشغيل العمالة”، وهي بمثابة برنامج عمل يتعين على الأطراف المعنية متابعتها للوصول إلى توافق بشأن معالجة معضلات الهجرة غير النظامية، وتحقيق التنمية في الدول المُصدرة للهجرة.
المحاور الرئيسية والوثيقة الختامية للمؤتمر:
ناقش المشاركون في المؤتمر كيفية تعزيز سبل التعاون بين الدول الأعضاء في خمسة مجالات رئيسية على النحو التالي:
- تبادل الخبرات، وأفضل الممارسات بين الدول الأعضاء بتجمع الساحل والصحراء في مجال وضع السياسات والتشريعات الخاصة بتنظيم سوق العمل.
- تطوير آليات التنسيق المشتركة لمكافحة مشكلة البطالة، من خلال تشجيع الاستثمارات بما يسهم في إيجاد فرص عمل جديدة.
- تعزيز برامج التدريب المهني وربط مخرجاتها باحتياجات سوق العمل.
- تفعيل التنسيق في مجال تبادل البيانات والمعلومات ذات الصلة بقضايا الهجرة ومكافحة ظاهرتي الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر.
- تنظيم تواجد المهاجرين في ليبيا وتحويلهم إلى عمالة وافدة عبر توفيق أوضاعهم القانونية وفقًا للإجراءات الليبية الخاصة بجلب العمالة الوافدة، ومن خلال تسجيلهم عبر منظومة “وافد” الإلكترونية.
ولقد كان البند الخامس من جدول أعمال المؤتمر بمثابة المحور الرئيسي لهذه الفعالية، حيث يشير إلى تغير موقف الحكومة الليبية وتعاملها مع قضية الهجرة، والتي ظلت على مدى السنوات الماضية رافضة للأطروحات الغربية لحل هذه القضية على حساب ليبيا، كما كشف عن استراتيجية جديدة للحكومة الليبية تقوم على المشاركة بصياغة الحلول والترتيبات اللازمة للحد من تدفقات الهجرة، بما يعود بالنفع على بلدان المنشأ والعبور والمقصد، عبر الإسهام في الاستثمارات التي تدعم التنمية في البلدان الُمصدرة للمهاجرين، والاستفادة من توظيف العمالة بشكل منظم، نظرًا لحاجة سوق العمل الليبي، وقدرته على استيعاب وإدماج عدد كبير من العمالة الوافدة.
وللتأكيد على محورية تنظيم تواجد المهاجرين في ليبيا وتحويلهم إلى عمالة وافدة، تضمنت الوثيقة الختامية الصادرة في ختام أعمال المؤتمر تحت مسمى “إعلان طرابلس بشأن حوكمة تنقل وتشغيل العمالة” خمس نقاط على النحو التالي:
- الاستمرار في دعم وتوحيد جهود الدول الأعضاء في تجمع (س. ص) على المستوى الثنائي ومتعدد الأطراف.
- وضع إطار قانوني لتنفيذ هذه الجهود من أجل حماية وتعزيز إنشاء إطار صحي في بيئة العمل.
- تعزيز دور مؤسسات تجمع الساحل والصحراء وإيجاد الآلية المناسبة لإعادة تفعيلها.
- إشراك القطاع الخاص في وضع وتنقيح السياسات الخاصة بالهجرة.
- الترويج في كل دولة عضو لإطار قانوني يضمن الحماية الاجتماعية للعمال المهاجرين.
تغير موقف ليبيا تجاه قضية الهجرة:
خلال فعاليات المؤتمر، طالب الدبيبة في كلمته الافتتاحية الاتحاد الأوروبي باهتمام أكبر بظاهرة الهجرة غير الشرعية، وعدم التعويل فقط على الدول الأفريقية في التعامل مع تلك الظاهرة، مؤكدًا استعداد حكومته لتنفيذ أي برنامج مشترك في هذا الإطار يخدم الجميع. وقد قوبل هذا الموقف بترحيب من جانب إيطاليا والاتحاد الأوروبي، وهما أكبر المستفيدين من تغير الموقف الليبي الذي قد يكون مساعدًا لأوروبا في التغلب على تحدي الهجرة، كما تم التعهد أيضًا في ختام المؤتمر بترجمة التوصيات التي تضمنها “إعلان طرابلس” إلى برامج ومبادرات عملية، لاسيما في المجالات التالية:
- تيسير حركة انتقال العمالة الماهرة بين دول التجمع.
- مأسسة آليات التنسيق بين دول تجمع الساحل والصحراء بشأن السياسات المتعلقة بسوق العمل.
- العمل على إنشاء مركز متخصص للعمل على مستوى تجمع الساحل والصحراء، يكون مقره طرابلس، ويضم ممثلين عن الدول الأعضاء لمتابعة تنفيذ التزامات المؤتمر ومتابعة مخرجات المؤتمرات المستقبلية.
دلالات مباشرة:
يعكس انعقاد مؤتمر وزراء العمل بدول الساحل والصحراء في طرابلس، وتوصل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة إلى تفاهمات مع أعضاء التجمع بشأن قضية الهجرة وتشغيل العمالة، عدة دلالات هامة أبرزها ما يلي:
- تراجع حكومة الوحدة الوطنية عن موقف حكومة الوفاق الوطني السابقة برئاسة “فايز السراج” من قضية الهجرة غير الشرعية، لاسيما أنها كانت تعارض الخطط المطروحة من جانب الدول الأوروبية والأمم المتحدة منذ عام 2016 بشأن إقامة مراكز لاستقبال المهاجرين على أراضيها، خاصةً في مناطق جنوب ليبيا، كما يمثل هذا الموقف ترجمة عملية للمقترح الذي سبق أن تقدمت به بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في أغسطس 2018 إلى حكومة الوفاق الوطني بشأن دمج المهاجرين الأفارقة في سوق العمل الليبي.
- نجاح الضغوط الأوروبية المتواصلة على طرابلس من أجل استيعاب المهاجرين ومنع انطلاق قوارب الهجرة من سواحل ليبيا نحو إيطاليا، وهي بذلك تكون قد نجحت في استغلال الأزمة السياسية الداخلية التي تقوض المؤسسات الليبية وحاجة القادة الليبيين للدعم الدولي، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تشهدها دول الجوار الجنوبي لليبيا ومنطقة الساحل.
- محاولة تعزيز النفوذ الأفريقي في ليبيا على حساب المحيط العربي، وهو طرح بدء الترويج له دبلوماسيًا منذ أواخر عام 2021، عندما أيدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيين إسناد قيادة عمليات الأمم المتحدة في ليبيا إلى شخصية أفريقية، وهي فكرة من شأنها عزل ليبيا عن محيطها العربي.
- محاولة الجانبين الأمريكي والأوروبي تعزيز النفوذ في ليبيا، واحتكارهما لتحديد هوية ومستقبل ليبيا، عبر أفريقيا، خاصةً أن المضي في تحويل المهاجرين الأفارقة إلى عمالة في السوق الليبي سيجعل البلاد قبلة لأكثر من 3 مليون عامل أفريقي على الأقل، وهي نسبة مرشحة للزيادة، وقد تفضي إلى تغييرات ديموغرافية.
التأثيرات المحتملة:
سيكون من الصعب المضي قدمًا في خطط تنظيم المهاجرين بالشكل الأمثل في ليبيا، دون الوصول إلى تسوية حقيقية للأزمة الليبية والأزمات التي تشهدها منطقة الساحل الأفريقي وأغلب الدول الأعضاء في تجمع دول الساحل والصحراء، كما تواجه تلك الخطط والمشروعات عقبات عديدة منذ عقود تتعلق بجملة من الاعتبارات أبرزها ما يلي:
- عدم التزام الدول الأوروبية بتنفيذ تعهداتها مع الدول الأفريقية وليبيا بشأن التعامل مع قضية الهجرة، بسبب استمرار الخلافات الأوروبية حول كيفية التعامل مع القضية، خاصةً فيما يتعلق بتقاسم الأعباء وحصص استضافة المهاجرين، وموقع قضية الهجرة في سلم الأولويات لكل دولة أوروبية.
- طبيعة الأزمات الداخلية التي تعاني منها ليبيا والدول المصدرة للهجرة.
- ضعف الإمكانيات السياسية والمالية للدول المُصدرة للهجرة، والتي تمكنها من تنفيذ ومتابعة الحلول العملية، بما فيها تنفيذ المشروعات التنموية التي تستقطب اليد العاملة في المجتمعات المحلية.
وختامًا، يمكن القول إن عملية تحويل المهاجرين الموجودين في ليبيا إلى يد عاملة دون تسوية حقيقية للأزمة التي تشهدها البلاد منذ 2011، تخاطر بتعميق الأزمة الليبية وتوسعها خاصةً في مناطق الجنوب التي ستكون مرشحة لعملية نقل ديموغرافي كبيرة من أفريقيا، مصحوبة بمخاطر أمنية مرتفعة، خاصةً أن أغلب القادمين إلى ليبيا هم من بلدان تعاني أزمات سياسية وأمنية واقتصادية، وسيكون من السهل تفسير الجهود الغربية للتعامل مع قضية الهجرة على أنها مجرد محاولة لمنع المهاجرين من الوصول إلى دول الشمال، وإدارة قضية الهجرة بعيدًا عن أراضيها، وبهدف نقل ميدان الصراع بين القوى الغربية إلى مواقع تنخفض فيها التكلفة المالية والاستراتيجية بالنسبة لتلك القوى.