كتبت الانتخابات الرئاسية المصرية 2024 فصلًا مهمًا وجديدًا في كتاب الوطن منذ اللحظة الأولى التي أعلنت فيها الهيئة الوطنية للانتخابات فتح باب الترشح، ودعوة الناخبين إلى التصويت، مرورًا بحملات الدعاية للمرشحين الأربعة، وإجراءات إعداد اللجان، وحتى إعلان النتيجة بفوز السيد الرئيس “عبد الفتاح السيسي” بفترة ولاية جديدة، تمتد حتى عام 2030 وبنسبة فوز بلغت 89.6%.
وقد مثلت مراحل العملية الانتخابية كافة – بموضوعية وقراءة علمية متأنية – نقلةً نوعيةً ومهمةً، نحو بناء ديمقراطي أكثر تماسكًا وصلابة، كان الناخب المصري فيه هو حجر الزاوية، بوعي متزايد، وإدراك تام للبيئة المحيطة، وحدود المستقبل المرغوب، وحسم تام في الانحياز لصالح الوطن واستقراره وأمنه، واختيار القيادة القادرة على حماية سفينة الوطن في مواجهة الأنواء والتحديات المتعددة: الأمنية والاقتصادية والتنموية.
ليس من قبيل التكرار الإشارة إلى الظرف الاقتصادي الضاغط الذي أجريت خلاله الانتخابات على خلفية العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، والتهديدات الحقيقية والجدية والوجودية للأمن القومي المصري، خاصةً في ظل مخططات إسرائيلية متواصلة لتفريغ القطاع من سكانه، ودفعهم قسرًا أو طوعًا للرحيل إلى الأراضي المصرية، وهي المخططات التي قُوبلت برفض رسمي وشعبي مصري، عبرت عنه القيادة المصرية مرات عدة، وسانده الناخب المصري بوضوح مع كثافة نسبة المشاركة التاريخية التي بلغت 66.8%، والتصويت لصالح السياسات المتبعة لحماية واستقرار الوطن.
ليس من قبيل التكرار أيضًا الاشارة إلى ظرف اقتصادي ضاغط وتطورات عالمية متسارعة، أفرزت تحديًا حقيقيًا أمام مسارات التنمية في دول العالم كافة، ومن بينها مصر، وهو الظرف الذي سعى المزايدون والمتربصون إلى الرهان عليه، تارةً عبر الترويج لصعوبة إجراء الانتخابات، وتارةً أخرى بتثبيط الهمم أملًا في تحقيق نسب مشاركة ضعيفة، وهي الرهانات التي أفشلتها الدولة والشعب معًا، بحسن التنظيم، وتاريخية المشاركة.
إن استحضار الإشارات السابقة هو تأكيد على وقائع وحقائق موثقة، ستظل راسخة في تاريخ هذا الوطن، لتضاف إلى ملاحم مشابهة، عبَر خلالها الشعب مع الدولة منعطفات عديدة، وتغلب على تحديات كثيرة، ومضى في طريق البناء والتنمية أشواطًا مقدرة.
ويخرج من عباءة تلك الوقائع الموثقة العديد من العبر والدروس التي ينبغي استخلاصها والبناء عليها نحو مستقبل أفضل.
فهناك ضرورة حتمية لإعادة فهم الشعب المصري – لا سيما الناخب – الذي لا يمكن التنبؤ بسلوكه التصويتي، فحجم المؤامرات الخارجية التي حيكت، والضغوط التي مورست، والجهود الخبيثة التي بُذلت من أجلها ملايين الدولارات لإثناء الناخب عن ممارسة حقه وأداء واجبه قد تحطمت على صخرة الوعي المصري، والشعور الذاتي بأهمية الصوت الانتخابي، لا سيما في هذا الظرف الدقيق من عمر الوطن، فلم يكن خروج المصريين لاختيار قيادتهم السياسية لفترة ست سنوات قادمة فقط ، بقدر ما كان رسالةً للعالم بأن المصريين أحياء، قادرون على الاستمرار والبناء رغم التحديات، رسالةً بأن المصريين كتلة واحدة صلبة متماسكة في مواجهة مهددات الأمن القومي، يقفون داعمين لكل إجراء وسياسة وممارسة، تحمي أمنهم القومي، وتصون وطنهم وأرضهم .
وسوف يفتح السلوك التصويتي للناخب المصري في انتخابات الرئاسة 2024 الباب أمام الباحثين الجادين لإجراء مزيد من الدراسات والبحوث الموضوعية، لتفسير علاقة المواطن المصري بالدولة في أوقات الأزمات من ناحية، وفهم الشخصية الوطنية المصرية بصورة أعمق من ناحية أخرى.
إن بناء علاقة جديدة بين المواطن والدولة بات أمرًا حتميًا، بات لزامًا أن نعي أن المواطن يعي ويدرك، وأن استشعاره للخطر على وطنه يعزز فطرة الانتماء، ليلبي النداء، وهو ما يجد ترجمته في العديد من أنماط السلوك، وكان أقربها السلوك التصويتي المشرّف للناخب المصري في انتخابات الرئاسة 2024.
إن هذا السلوك التصويتي المشرف وكثافة المشاركة الانتخابية، يبرهن على أن المواطن هو شريك المستقبل – مع الدولة – الذي يتعين احترام اختياراته، والتعامل معها بمنطق التقدير والفحص المعمق، وصولًا لهدف مشترك، وهو صون الوطن لصالح التنمية وحماية المواطن الذي هو أداة التنمية وغايتها.
وفي هذا الإطار، بات لزامًا أيضًا وضع استراتيجية وطنية لتعزيز الوعي، وسد منافذ محاولات اختراقه أو تزييفه، وهي الاستراتيجية التي يتشارك في وضعها وتنفيذها الدولة بمؤسساتها، والكيانات المجتمعية المتعددة من أحزاب ومنظمات مدنية.
بات حتميًا تعزيز المجال العام وتكريس وتدعيم الحالة الديمقراطية، التي كان أحد فصولها تلك العملية الانتخابية التي شهدت تنافس أربعة مرشحين من بينهم ثلاثة من زعماء الأحزاب السياسية، في مشهد حضاري راق، توّجه استقبال الرئيس المنتخب لهم، وتوجيه الشكر على مساهمتهم، وخوض غمار العملية الانتخابية الديمقراطية.
إن جهود تعزيز المجال العام سبقت العملية الانتخابية بالعديد من الممارسات التي كان اقربها دعوة الرئيس السيسي إلى إجراء حوار وطني بين مكونات وأطياف الحياة السياسية كافة، ووصولًا إلى مساحة مشتركة تتأسس عليها الجمهورية الجديدة، وجاءت الانتخابات الرئاسية – عبر المشاركة الحزبية – كاشفةً عن بوادر إدراك الأحزاب السياسية لأدوارها ووظائفها، خاصةً ما يتعلق بوظيفتي التنشئة السياسية والتجنيد السياسي، بما تشيران إليه من أهمية قيام الأحزاب بتعليم أعضائها معنى السياسة، وكيفية ممارستها من ناحية، وقدرة الأحزاب على توفير الكوادر اللازمة للتنافس على المناصب المختلفة، سواء على مستوى السلطة التشريعية أم السلطة التنفيذية، وذلك من ناحية أخرى.
فتحت الانتخابات، ومن قبلها الحوار الوطني، الباب أمام وجوب استكمال البناء الديمقراطي، عبر مراجعة دقيقة لعلاقة الأحزاب بهياكلها الداخلية ومدى توافر الديمقراطية الداخلية وعلاقة الأحزاب بقواعدها الشعبية، وتحقيقها لغاية وجودها، باعتبارها كيانات تسعى للتنافس السلمي على السلطة، فضلًا عن إعادة النظر في هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية، الذي يزيد على 104 حزب حتى الآن، ومدى الحاجة إليه من ناحية، ومدى كفاءته في بلورة مصالح قطاعات مجتمعية وفئوية بعينها من ناحية أخرى.
تبدو الحاجة ماسة إلى التفكير في مسألة الاندماج الحزبي، ليصبح لدينا كتل حزبية، لها قواعدها على الأرض، تستطيع التعبير عن مصالح أنصارها، وتبني رؤى واقعية قابلة للتنفيذ، وتمتلك القدرة على المنافسة لصالح الوطن والمواطن.
تبقى أحكام الدستور والقانون هي الإطار المنظم للتفاعلات السياسية والمجتمعية، وهو ما برز من خلال الإرادة السياسية في إتمام إجراء العملية الانتخابية في موعدها، بواسطة الهيئة الوطنية للانتخابات، وتحت إشراف قضائي كامل، يضمن الحيادية والنزاهة والمصداقية والشفافية، ويوفر البيئة الضامنة للناخب للتعبير عن اختياراته.
مثل الإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية أحد المحفزات المهمة للإقبال على اللجان الانتخابية، وممارسة الحق الذي كفله الدستور والقانون، علاوةً على التيسيرات التي وفرتها الهيئة الوطنية للانتخابات، سواء للمصريين في الخارج أم ناخبي الداخل، بكافة فئاتهم، لاسيما الأشخاص ذوي الإعاقة، فالاهتمام لم يكن بالصوت الانتخابي بقدر ما كان – ومازال – موجهًا للمواطن / الناخب المصري، صاحب الحق في التعبير والاختيار.
إن استمرار نهج الشفافية والمصداقية وحكم القانون – كما هو الحال منذ تسع سنوات مضت وحتى الآن – يمثل السياج الضامن لمواصلة عملية التنمية والبناء على أساس من المشاركة الفاعلة.
ويبقى التذكير بأن القانون مثل الكائن الحي، ينمو ويزدهر حين يدرك المواطن مصلحته التي تتحقق من خلال احترام القانون، ويصبح مهجورًا إذا خالف مصالح جموع المواطنين، ومن هنا قد يكون مطلوبًا – استفادة من درس الانتخابات الرئاسية – أن يكون محط أعيننا دومًا النهج العلمي، عبر إجراء استطلاعات رأي، تقيس نبض المواطن، وتتعرف على وجهة نظره وسلوكه المحتمل، قبل إصدار القوانين، مع الاحتفاظ بالحق في قياس الأثر بعد تطبيق القانون.
إن بناء علاقة ملؤها الثقة بين المواطن والدولة هي محرك البناء الحقيقي، وحائط الصد أمام محاولات الاستقطاب، وإحداث الفرقة والانقسام.
إن استمرارية حيوية الحياة السياسية بعد اتمام العملية الانتخابية، قد تقتضي مواصلة الحوار الوطني باعتباره مشروعا مستدامًا – وليس موسميًا – يضمن تماسك النسيج الوطني، عبر مساحات المشترك بين الفاعلين السياسيين لتحقيق الهدف، وإن اختلفت الوسائل، فاختلاف الرأي يبقى مستندًا إلى ارضية وطنية واحدة، لا مجال فيها لمزايدات أو مصالح شخصية.
وتعد مواصلة الحوار الوطني مرهونة بإعادة النظر في القضايا والمشكلات، بمحاورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والبحث عن حلول مبتكرة لها – وليس تصدير المشكلات – وصولًا إلى مستقبل أفضل مرغوب للمواطن المصري.
الخلاصة، إن درس الانتخابات الرئاسية يؤكد أن الشعب يدعم قيادته التي اختارها، ويؤيد تحركاتها وسياساتها وإجراءاتها لصون الأمن القومي المصري، ويثق في حكمتها وقدرتها على تحمل المسئولية، واستكمال مسيرة الإنجاز، لبناء المستقبل المأمول الآمن والمستقر، الذي صوت لصالحه المصريون.