أعلنت حركة “23 مارس” المتمردة المعروفة بـ “إم 23”[1] وبعض الشخصيات المعارضة للنظام السياسي الكونغولي داخل كينيا، ومن أبرزهم رئيس لجنة الانتخابات الكونغولية السابق “كورنيل نانجا”[2] تشكيل تحالف أطلقوا عليه “تحالف نهر الكونغو في نيروبي”، والذي يضم عددًا من الجماعات المسلحة المنتشرة في المقاطعة الشرقية (السابقة) شمال شرقي الكونغو، وفي منطقة “كاتانغا” جنوب شرق البلاد، وفي مناطق “كيفوس” شرقًا، و”إيتوري” في الشمال الشرقي، إلى جانب عدد من المنظمات الاجتماعية والسياسية داخل الكونغو، والتي تعارض بقاء الرئيس الكونغولي “فيليكس تشيسيكيدي” على رأس السلطة.
إعادة بناء الدولة:
يهدف هذا التحالف إلى تحقيق هدف رئيسي وهو إعادة بناء الدولة الكونغولية، حتى لو تطلب ذلك الأمر الإستيلاء على السلطة في “كينشاسا”، على أن يتم ذلك من خلال الجمع بين مختلف الجماعات المسلحة داخل الكونغو وخارجها، وهي نفسها الأهداف التي تسعى حركة 23 مارس المتمردة لتحقيقها، وعلى رأسها تغيير نظام الحكم القائم في الكونغو، بعد اتهام الأخير بعدم تنفيذ اتفاق السلام الموقع معها في عام 2009، والذي ينص على إعادة دمج عناصر الحركة في الجيش النظامي والمؤسسات الحكومية، وإطلاق سراح المحتجزين، وتشكيل لجنة للفصل في الخلافات المثارة بين الحكومة والمتمردين حول الأراضي المتنازع عليها، وعدم السماح بتحول الحركة إلى حزب سياسي.
ولم تنجح المفاوضات حتى الآن – التي رعتها الأمم المتحدة بين الطرفين – في التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تحظى بقبول الطرفين، خاصةً المتمردين الذي يواصلون ضغوطهم على الرئيس تشيسيكيدي للعودة إلى اتفاق عام 2009 وتنفيذ بنوده كافة.
دلالات التوقيت:
اكتسب توقيت الإعلان عن التحالف أهمية خاصة، حيث جاء قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات الرئاسية في الكونغو في 20 ديسمبر الجاري، والتي يتنافس فيها 23 مرشح، على رأسهم: الرئيس تشيسيكيدي، الذي يسعى إلى الفوز بفترة رئاسية جديدة لمدة خمس سنوات، ومنافسه السابق “مارتن فايولو” الذي حل في المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في عام 2018، هذا بالإضافة إلى عدد آخر من المرشحين، منهم “دينيس موكويغي” وهو طبيب حائز على جائزة نوبل للسلام.
ولما كان إجراء الانتخابات الرئاسية في الكونغو من أكثر القضايا المثيرة للجدل السياسي سواء داخل الكونغو أو خارجها[3]، فإن ظهور تحالفات بين الجماعات المسلحة مثل تحالف نهر الكونغو، من شأنه زيادة الأعباء والتحديات الأمنية على السلطات الكونغولية المكلفة بتأمين العملية الانتخابية ضد أي محاولات لارتكاب أعمال عنف.
مخاوف أمنية:
أثار الإعلان عن هذا التحالف عددًا من المخاوف الأمنية على الصعيدين الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي سارعت وزارة الخارجية الكونغولية لاستدعاء سفيريها في كل من كينيا التي تعد مقرًا للتحالف الجديد، وتنزانيا التي تتواجد بها قوات شرق أفريقيا
ولقد جاءت الخطوات الكونغولية في ضوء العديد من المخاوف، أبرزها: أن التحالف الجديد يمثل مصدر تهديد أمني جديد في منطقة شرق الكونغو التي تعاني بالفعل من حالة اضطراب أمني، بسبب استمرار المواجهات المسلحة بين القوات الحكومية والمتمردين الذين سيطروا على بعض المناطق خلال الفترة الأخيرة في منطقة شرق الكونغو.
يَضاف إلى ذلك تزامن تشكيله – والإعلان عن أهدافه، وعلى رأسها إعادة بناء الدولة الكونغولية بكل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة المسلحة – مع استعداد البلاد لرحيل قوات حفظ السلام التابعة لبعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو (المونوسكو)، والتي يبلغ عددها حوالي 15 ألف جندي، وكذلك خروج القوات التابعة لمجموعة شرق أفريقيا مع نهاية شهر ديسمبر 2023، وذلك بعد أن اتهمها الرئيس تشيسيكيدي بعدم القدرة على تحقيق الهدف من وجودها في البلاد وهو القضاء على حركة “إم 23” المتمردة وإجبارها على الإستجابة لمطالب الدولة بنزع سلاحها[4].
ومع الانسحاب المزمع لهذه القوات، تتزايد المخاوف لدى السلطات الكونغولية إزاء المخاطر الأمنية المحتملة بسبب الفراغ الذي ستتركه كل من القوات الأممية والأفريقية بعد خروجها من البلاد، وهو ما يزيد من احتمالات سعي الجماعات المسلحة لملء هذا الفراغ، في ظل ضعف القدرات الهيكلية للقوات المسلحة الكونغولية، وعدم قدرتها وحدها على قمع حركات التمرد في منطقة شرق الكونغو، خاصةً حركة “إم 23” التي نجحت في إعادة ترتيب أوراقها في مواجهة القوات الكونغولية، حيث هرب مقاتلوها إلى الأراضي الرواندية والأوغندية لترتيب صفوفهم والتدريب والتسليح ثم العودة مرة أخرى لمنطقة شرق الكونغو لمواصلة الاشتباكات ضد القوات الحكومية.
وقد تزداد أنشطة بعض الميليشيات المسلحة الأخرى، مثل ميليشيا “كوديكو” (الجمعية التعاونية لتنمية الكونغو) التي قامت بشن العديد من الهجمات المسلحة في ثلاث قرى في إقليم “دجوغو” الواقع على بعد 60 كم شمال العاصمة الإقليمية “بونيا”، بذريعة حماية قبيلة “ليندو” ضد قبيلة “هيما” المنافسة، والتي تدافع عنها ميليشيا “زائير”، هذا بالإضافة إلى المخاطر الأمنية المحتملة إزاء تصاعد أنشطة ميليشيات “القوات الديمقراطية المتحالفة” التابعة لتنظيم داعش، والتي ارتكبت العديد من الهجمات الإرهابية ضد المدنيين والقوات الحكومية في منطقة شرق الكونغو منذ مطلع عام 2023، الأمر الذي تتصاعد معه الاحتمالات الخاصة باستمرار مظاهر عدم الاستقرار الأمني وزيادة الأزمة الإنسانية هناك.
وعلى صعيد آخر، قد يؤدي الفراغ الأمني المحتمل في منطقة شرق الكونغو، إلى زيادة حدة التصعيد بين الكونغو ورواندا، في ظل توتر العلاقات الثنائية بينهما، وذلك على خلفية تبادل الإتهامات بين الدولتين حول دعم المتمردين، فمن جانب وجهت الكونغو اتهامات رسمية لدولة رواندا بدعم وتمويل أنشطة حركة “إم 23” المتمردة، وتعتمد في تلك الاتهامات على تقارير أممية.
ومن جانب آخر، اتهمت رواندا الجيش الكونغولي باختراق الحدود المشتركة بينهما وقيام عناصر من الجيش الكونغولي بدخول المنطقة المحايدة بالقرب من منطقة “روسيزي” الغربية في شهر مارس الماضي، وإطلاق النار على نقطة حدودية رواندية، وهو ما اعتبرته رواندا عملًا استفزازيًا، واتهمتها أيضًا بدعم متمردي “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (جماعة متمردة مسلحة رواندية مقرها الكونغو) التي قامت بشن غارات على رواندا في عام 1994، والتي قتل فيها الهوتو أكثر من 800 ألف من عرقية التوتسي والهوتو المعتدلين الذين حاولوا حمايتهم، ومن المرجح أن يزداد هذا التوتر بعد الإعلان عن تشكيل تحالف نهر الكونغو.
قلق دولي:
أعربت رئيسة بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو “بينتو كيتا” عن قلقها إزاء إنشاء التحالف الجديد، ووصفته بأنه “منصة سياسية عسكرية جديدة”، وهو نفس الموقف الذي تبنته الولايات المتحدة.
ويرجع القلق الأمريكي إلى أن الإعلان عن تشكيل هذا التحالف يتعارض مع الجهود التي تحاول الولايات المتحدة القيام بها لتحقيق الاستقرار في منطقة شرق الكونغو، فمن شأن تشكيل هذا التحالف أن يهدد الفرص المتاحة لنجاح الهدنة التي توصلت لها الولايات المتحدة في المنطقة خلال شهر ديسمبر 2023 بهدف وقف إطلاق النار في الوقت الذي يتوجه فيه الناخبون الكونغوليون للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، وذلك رغم استبعاد بعض المناطق المتوترة من المشاركة في العملية الانتخابية، خاصةً منطقتي “روتشورو” و”ماسيسي” الشرقيتين الخاضعتين لسيطرة حركة “إم 23” المتمردة.
وختامًا، يمكن القول إن “تحالف نهر الكونغو”، يعد مؤشرًا مهمًا على أن الأزمة في منطقة شرق الكونغو ستستمر لفترة طويلة نسبيًا، بل وقد تزداد درجة تعقيدها وحدتها، وذلك في ظل غياب التعاون الأمني بين الكونغو ودول الجوار، والإنتشار المتزايد للجماعات المسلحة وبعض التنظيمات الإرهابية في المناطق الحدودية الواقعة بين الكونغو ورواندا، فضلًا عن عدم قدرة كينشاسا على الوصول لتسويات سياسية لأزمتها مع المتمردين من جهة، وتعثر الجهود الدولية الرامية لحل هذه الأزمة من جهة أخرى.
[1] استوحت الحركة اسمها من اتفاق السلام “حوار كمبالا”، الذي وُقع في 23 مارس عام 2009، بشأن الخطوات اللازمة لإنهاء الأنشطة المسلحة للحركة، وتتكون الحركة من أفراد ينتمون إلى عرقية التوتسي الكونغولية، ونشأت الحركة عام 2012، إثر تمرد نحو 300 جندي ينتمي أغلبهم إلى حزب المؤتمر الوطني، للدفاع عن الشعب بالانقلاب على الحكومة الكونغولية، بسبب مشكلات تتعلق بتدني الرواتب العسكرية، في ظل ارتفاع مستويات التضخم والفقر.
[2]فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات بتهمة الفساد وعرقلة انتخابات 2018.
[3] في ظل ما يحيط بها من شكوك إزاء نزاهة وشفافية العملية الانتخابية، والتحديات الاقتصادية والأمنية التي قد تؤثر سلبًا على عملية التصويت، وأيضًا فيما يتعلق بضعف موقف الأحزاب السياسية المعارضة وعدم قدرتها على تحقيق نتائج إيجابية في هذه الانتخابات.
[4] اتهمها الرئيس تشيسيكيدي أيضًا بضعف الأداء، فبعد أن تشكلت القوة العسكرية الإقليمية لمجموعة شرق إفريقيا المكونة من سبع دول (أوغندا – جنوب السودان – كينيا – بوروندي – تنزانيا – الكونغو – رواندا) في شهر يونيو الماضي، بهدف إرساء الاستقرار في شرق الكونغو، تحفظ الرئيس تشيسيكيدي على مشاركة جنود قوات الدفاع الرواندي بها، لما يُثار من شكوك حول انخراط رواندا في دعم حركة “23 مارس”، كما لم تستطع قوات مجموعة شرق أفريقيا تحقيق أهدافها المتمثلة في دفع المتمردين لوقف عملياتهم العسكرية التي يقومون بها، والإشراف على انسحابهم من المناطق التي سيطروا عليها خلال العامين الأخيرين، حيث كان من المقرر تنفيذ انسحاب المتمردين في 30 مارس الماضي، وفقًا لما تم الاتفاق عليه في اجتماع رؤساء دول مجموعة القوة الإقليمية لشرق أفريقيا، والذي عُقد في شهر فبراير الماضي.