Search

مقاربة إيرانية جديدة لعمليات المناطق الرمادية

25/12/2023

أعلن قائد البحرية في الحرس الثوري الإيراني الأدميرال “علي رضا تنكسيري” عن إنشاء قوات التعبئة البحرية (الباسيج البحري)، وتتكون هذه القوات من 55 ألف عنصر وعدد كبير من القوارب، مجهزة بأسلحة تتضمن صواريخ من عيار 107 ملم.

فكرة قديمة جديدة:

لا تعد فكرة إنشاء قوات شبه نظامية تتولى مهام ذات طبيعة عسكرية في جزئها أو مجملها أمرًا جديدًا، حيث تعد الصين إحدى الدول الرائدة في هذا الصدد حيث تشغل الصين “الميليشيا البحرية” أو ما يعرف بشكل أكثر شيوعًا باسم “ميليشيا الصيد (Fishing Militia)”، وتعمل هذه القوات بجانب القوات البحرية لجمهورية الصين الشعبية و خفر السواحل الصيني وتمتلك تنظيمًا منفصلًا عنهما، وتعرف اللجنة العسكرية المركزية لجمهورية الصين الشعبية مليشيا الصيد بأنها: منظمة جماهيرية مسلحة مكونة من مدنيين يحتفظون بوظائفهم العادية، وهي في ذلك تكون قوات مساندة وقوات احتياط للقوات النظامية، وتتلخص مهمها في دوريات الحدود والمراقبة والاستطلاع والنقل البحري والبحث والإنقاذ والمهام المساعدة لدعم العمليات البحرية في زمن الحرب.

وفي ذلك الأمر فإن قوات الباسيج البحري تتشابه مع نظيرتها الصينية، فكلاهما يتكونان من متطوعين، ويعتمدان على عناصر شبه عسكرية تتميز بسهولة التشغيل وانخفاض التكلفة، كما أن التنظيمين يحظيان بالتدريب من الجهات العسكرية النظامية (القوات البحرية لجمهورية الصين الشعبية في حالة ميليشيا الصيد، والحرس الثوري في حالة الباسيج البحري).

البعد الأيديولوجي:

تعتبر الباسيج هي نتاج للأحداث التي أعقبت الثورة الإسلامية، خاصةً الحرب الإيرانية العراقية، والتي اكتسب الباسيج فيها صِبغة عقائدية من خلال الاعمال الفدائية لمنتسبيه الذين ضحى كثير منهم بأرواحهم لفتح الطرق أمام قوات الجيش والحرس الثوري، من خلال مسح حقول الألغام واقتحام التحصينات العراقية، ويعمل الحرس الثوري الإيراني على تدريب وتأهيل منتسبي الباسيج ليصبحوا ألية داعمة للنظام الإيراني، وقد اقتصر دوره في الفترة التي أعقبت الحرب الإيرانية العراقية على مهام حفظ الأمن الداخلي، إلا أن إعلان الحرس الثوري إنشاء قوات الباسيج البحري يعد خروجًا عن هذه الاستراتيجية المتبعة منذ عقود، حيث يمنحه دورًا أمنيًا خارجيًا للقوات.

كما يلعب الباسيج دورًا حيويًا في تكريس فكرة “الحرب الشعبية أو حرب الشعب”، أي إشراك الشعب من خلال ميليشيات مكونة من مواطنين في مساعدة القوات النظامية في محاربة العدو والدفاع عن البلاد، وتتكون هذه القوات في العادة من متطوعين وهو ذاته نفس الأمر مع قوات الباسيج البحري، حيث تضمن الإعلان الخاص بإنشاء الباسيج الحديث عن متطوعين، وتعمل هذه الاستراتيجية على إضفاء الشرعية على أي تحركات عسكرية إيرانية في الخليج العربي، وتصويرها على أنها تحظى بدعم شعبي، وأن الاعتداء عليها سيمثل ليس فقط اعتداءً على الدولة الإيرانية ولكن أيضًا اعتداءً على الشعب الإيراني، كما يستفيد النظام الإيراني من هذه الخطوة من خلال نفي أي شكوك بشأن اختلاف الإيرانيين حول القيادة السياسية.

إشكاليات المواجهة:

لا تكمن قوة الباسيج البحري في عتاده أو نوعية أفراده أو حتى التدريب الذي حصلوا عليه، ولكن في أمرين، الأول: هو فكرة التخفي، فالقوارب المتوقع استعمالها في قوات الباسيج هي قوارب خشبية أو قوارب صيد بسيطة مسلحة بصواريخ عيار 107 ملم ستُطلق على الأرجح من منصة إطلاق “فجر – 1″، وهي صغيرة الحجم وتحتوي على 12 أنبوب، وبالتالي فإنها تحمل قوة نيرانية معتبرة، وفي نفس الوقت يمكن إخفاؤها بسهولة، لذا فإن التحدي الحقيقي هو التعرف على أو تحديد السفينة في الأصل، ومدى كونها سفينة مدنية عادية، أم سفينة عسكرية وبالتالي يجوز استخدام القوة العسكرية ضدها.

ويتعلق الأمر الثاني بإمكانية استعمال إيران لقوات الباسيج من خلال تكتيك الإغراق، والمقصود هنا هو أنها في حال دخول إيران في مواجهة بحرية فمن الممكن أن تجمع عدد كبير من هذه القوارب (العدد الأولي لهذه القوارب يبلغ 33 ألف قارب) المزودة بمنصات إطلاق الصواريخ، وإغراق الدفاعات البحرية وتشتيت السفن الأخرى بعدد هائل من الصواريخ، يُطلق دفعة واحدة، الأمر الذي سيؤدي إلى إصابة هذه السفن، وتزداد خطورة هذا التكتيك إذا ما قررت إيران تزويد هذه القوارب بطوربيدات حديثة أو صواريخ موجهة ضد السفن.

طبيعة السياق:

يرتبط إنشاء إيران لقوة الباسيج البحري بعدد من التطورات على الصعيد الإقليمي، فمن ناحية، برزت العمليات البحرية كنقطة محورية وكأحدث ارتدادات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث أدى إلى تدخل جماعة الحوثي في اليمن وإشعال الجبهة الجنوبية، وذلك من خلال استهداف السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية المارة في البحر الأحمر، سواء من خلال الاستهداف المباشر بالصواريخ المضادة للسفن والطائرات المسيرة، أو من خلال محاولات الاستيلاء عليها.

كما يرتبط إنشاء الباسيج البحري بإعلان الولايات المتحدة في 18 ديسمبر الجاري عن إطلاق عملية “حارس الازدهار” والتي جاءت كرد فعل على هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، والتي تهدد التدفق الحر للتجارة، وتعرض حياة البحارة للخطر، وتنتهك القانون الدولي، لذا فإن إيران قد رأت الفرصة سانحة للإعلان عن قوات الباسيج البحري كقوة بحرية جديدة تابعة لها في الخليج، وهي تحمل في طياتها رسالة أيضًا بأن إيران لديها ذراع طويلة تمكنها من الوصول واستهداف أي نطاق بحري، كما تريد إيران أيضًا إيصال رسالة ردع بأن لديها القدرة على تحويل الخليج العربي إلى مسرح عمليات مماثلة للبحر الأحمر، عبر العمليات – أو بالأحرى – البحرية غير التقليدية.

عمليات المناطق الرمادية:

على الرغم من عدم إعلان إيران عن تفاصيل المهام الرسمية لقوات الباسيج، أو الأهداف المنوط بها تحقيقها، إلا أنه يمكن استنباط أن تلك المهام ستأتي في إطار سعي إيران لإدارة عمليات “المناطق الرمادية”[1]، حيث تعد قوات الباسيج البحري قوات كبيرة نسبيًا، حيث تمتلك وفقًا لما أعلنه الجانب الإيراني نحو 55 ألف عنصر، مع 33 ألف سفينة، وهي بذلك تفوق عدد القوات البحرية الإيرانية النظامية البالغ 18 ألف عنصر، وعدد قوات الحرس الثوري الإيراني البحرية البالغ 20 ألف عنصر، ومع ذلك فإن قدرات قوات الباسيج البحري لا يمكن مقارنتها بمستوى التسليح والتدريب للجيش النظامي أو الحرس الثوري، ذلك أنها تتكون في الأغلب من قوارب صيد خشبية وأطقم ستتلقى تدريبًا أساسيًا فقط.

وتبرز الرغبة الإيرانية في إعادة رسم ملامح “حرية الملاحة” في الخليج العربي وخصوصًا مضيق هرمز كدافع رئيسي لإنشاء الباسيج البحري، لاسيما أن الرؤية الإيرانية لحرية الملاحة لا تتفق بالضرورة مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار[2]، حيث أصدرت إيران القانون البحري الوطني الخاص بها، والذي أشار في مادته الخامسة إلى حق المرور البريء[3] وليس العابر على عكس اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ويرجع اختيار إيران لحق المرور البريء وليس العابر إلى أن تطبيق حق المرور البريء يجيز إيقاف الملاحة وحق المرور البريء في بعض الظروف ووفقًا لما لاعتبارات أمنها القومي على أن يكون هذا التوقف بصورة مؤقتة، فإيران تري أنه من حقها – وفقًا لقانونها البحري الوطني – تعطيل الملاحة في المضيق وإيقاف وتفتيش السفن المارة بالمضيق بما يتوافق ومصلحتها القومية، لذا فإن إيران تسعى من خلال قوات الباسيج إلى فرض واقع جديد يتعلق برؤيتها الخاصة لما يجب أن تكون عليه حرية الملاحة في مضيق هرمز.

وختامًا، فإن المساعي الإيرانية لإنشاء قوات الباسيج وتكريس وجودها في الخليج العربي ستسهم بشكل كبير في زيادة التوتر في المنطقة، وقد يترتب عليها تراجع مسار المصالحات الإقليمية الذي تبنته إيران خلال الفترة الماضية، بل قد تسهم في التضييق على صناعة صيد الأسماك في إيران من خلال إثارة الشكوك حول قوارب الصيد الإيرانية، واستهدافها بالتفتيش بصفة مستمرة.


[1] تعرف وزارة الدفاع الأسترالية عمليات المناطق الرمادية بأنها: واحدة من مجموعة من المصطلحات المستخدمة لوصف الأنشطة المصممة لإكراه الدول بطرق تسعى إلى تجنب الصراع العسكري، والتي تشمل استخدام القوات شبه العسكرية، وعسكرة المناطق المتنازع عليها، واستغلال النفوذ، وعمليات التدخل، ويتم تسهيل هذه العمليات من خلال التطورات التكنولوجية بما في ذلك الحرب السيبرانية.

[2] مبدأ حرية الملاحة في المضايق ينبع بشكلٍ أساسي من القانون الدولي الخاص بتنظيم الملاحة في البحار وخصوصًا اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، والتي تكفل حرية الملاحة الدولية دون قيود سواء في مياه المضيق أو المجال الجوي فوقه فيما يعرف باسم “المرور العابر”، ولا يحق لدولة أن تعرقل حركة الملاحة أو توقفها في المضيق.

[3] حق المرور البريء – كما عرفته اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في المادة 18 والمادة 19 – هو الملاحة خلال البحر الإقليمي لغرض اجتياز هذا البحر دون دخول المياه الداخلية أو التوقف في مرسى أو في مرفق مينائي يقع خارج المياه الداخلية، أو التوجه إلى المياه الداخلية أو منها أو التوقف في أحد هذه المراسي أو المرافق المينائية أو مغادرتها.

sud-conf
مسارات متعددة: هل تنجح مبادرات وقف الصراع في السودان؟
eur-elec
الانتخابات الأوروبية: تداعيات داخلية وخارجية
Electionsbrit
انعكاسات الانتخابات البريطانية على قضايا الشرق الأوسط
Ethiopia-and-Somalia-talks
هل تُستأنف الوساطة التركية بين إثيوبيا والصومال مجددًا؟
Scroll to Top