تبنت دول الخليج خلال عام 2023 مجموعة من السياسات والتحركات إزاء أبرز القضايا الإقليمية التي تحظى باهتمام هذه الدول، والمتمثلة في: الأزمة اليمنية، والأمن البحري حول شبه الجزيرة العربية، والصراع في السودان، والحرب في غزة، وقد ارتبطت هذه التحركات بطبيعة السياق الإقليمي والدولي خلال العام الماضي، والذي سيؤثر أيضًا على التحركات الخليجية خلال عام 2024.
اتجاهات الحركة في عام 2023:
انعكست أجواء الهدوء النسبي والحذر في المنطقة الخليجية على مسار الملفات ذات الأولوية المتقدمة، ونشير في هذا الإطار لما شهدته هذه الملفات خلال عام 2023، وذلك كما يلي:
الأزمة اليمنية: شهدت الأزمة اختراقًا مهمًا مع نهاية عام 2023، حيث أعلن مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى اليمن “هانس غروندبرغ” توصل الأطراف المتصارعة إلى الالتزام بمجموعة من التدابير قد تفضي إلى إنهاء الصراع، أبرزها: تنفيذ وقف إطلاق نار يشمل مناطق اليمن كافة، والاستعداد لاستئناف العملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة.
وقد جاء هذا الاختراق مرتبطًا بتطورين مهمين، الأول وهو تراجع النشاط القتالي بشكل ملحوظ بين الأطراف المتصارعة طوال عام 2023، وقد ساعد على ذلك اتفاقات الهدنة التي سبق أن تم التوصل إليها منذ أبريل 2022، وامتدت آثارها حتى عام 2023، فضلًا عن الدفع السعودي نحو إنهاء هذه الحرب وبناء التفاهمات والترتيبات مع الحوثيين بشكل أساسي، بحيث تستطيع السعودية التفرغ لقضايا أكثر إلحاحًا، يأتي في مقدمتها تأمين تنفيذ مشروعاتها التنموية الكبرى، أما الثاني فهو استقرار الأمر الواقع فيما يتعلق بتقاسم السيطرة الميدانية والسياسية على المناطق اليمنية بين الأطراف المتصارعة.
الأمن البحري حول شبه الجزيرة العربية: شهد هذا الملف تطورات عدة خلال عام 2023، حيث استمر ما يعرف بحرب الناقلات بين إيران من جهة، وبين الغرب من جهة أخرى، وذلك من خلال احتجاز إيران لناقلة نفط ترفع علم بنما وهي في طريقها من دبي إلى مضيق هرمز في شهر مايو، وقد سبقها احتجاز ناقلة أخرى ترفع علم جزر مارشال في خليج عُمان في شهر أبريل بحجة أن الناقلة ارتطمت بسفينة إيرانية أخرى، وقد جاء احتجاز إيران للناقلة الثانية بعد أيام من قيام الولايات المتحدة بمصادرة نفطًا إيرانيًا على متن الناقلة “سويز راجان” التي ترفع علم جزر مارشال، في إطار إنفاذ العقوبات على تصدير النفط الإيراني.
يُضاف إلى ذلك تزايد التحركات لبناء ترتيبات – أو بالأحرى تفاهمات – أمنية بحرية، فمن جانب، أعلنت إيران في شهر يونيو عن أنها ستنخرط في تحالفات بحرية جديدة قيد التبلور إقليميًا ودوليًا، كما أعلنت أيضًا في شهر ديسمبر عن إنشاء قوات الباسيج البحري، والتي تتكون من 55 ألف عنصر وعدد كبير من القوارب، ومن جانب آخر، فقد كثف الجانب الغربي من وجوده العسكري البحري، خاصةً في منطقة باب المندب والبحر الأحمر، والتي هي ضمن نطاق عمل قوة المهام المشتركة 153، وجرى إطلاق قوة مهام جديدة تحمل الرقم 154 وذلك في شهر مايو، وتركز القوة الجديدة على إجراء عمليات التدريب الدورية، فيما أعلنت الولايات المتحدة عن إطلاق عملية “حارس الازدهار” في شهر ديسمبر، كإجراء مضاد للهجمات الحوثية التي طالت عددًا من السفن التي ترتبط بشكل أو بآخر بإسرائيل.
وقد تزامنت هذه التحركات الأخيرة مع عودة نشاط القرصنة مرة أخرى – علمًا بأن آخر عملية قرصنة ناجحة قد تمت عام 2017، حينما أقدم قراصنة صوماليون على خطف السفينة “آريس 13” – حيث جرى اختطاف سفينة صيد إيرانية “المعراج 1” في شهر نوفمبر بالقرب من شبه جزيرة رأس حافون الصومالية، وفي نفس الشهر أخفق خمس قراصنة صوماليين في محاولة اختطاف الناقلة “سنترال بارك” قبالة الساحل اليمني، لكن مجموعة قراصنة أخرى نجحو في ديسمبر 2023 في اختطاف السفينة “روين” التي ترفع علم مالطا، وذلك قبالة جزيرة سقطري.
الصراع في السودان: اندلع الاقتتال الداخلي هناك في شهر أبريل، وقد اتفقت السياسات الخليجية على الدفع نحو وقف الصراع ومعالجة الأزمة الإنسانية الذي نتجت عنه، وقد برز الدور السعودي بشكل واضح في محاولات إنهاء الصراع، عبر رعايتها لمحاولات التوصل إلى اتفاقيات الهدنة بين الطرفين.
الحرب في غزة: اتفقت المواقف الخليجية – وذلك كما ورد في البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض في شهر نوفمبر – على أهمية وقف الحرب على غزة، مع ضرورة إطلاق عملية سلام على أساس حل الدولتين بما يلبي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فضلًا عن دعم الجهود المصرية فيما يتعلق بإدخال المساعدات إلى قطاع غزة بشكل فوري ومستدام وكاف. وعلى صعيد آخر، أطلقت الدول الخليجية حملات محلية لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة لسكان قطاع غزة.
وقد اكتسبت قطر دورًا متزايدًا في الأزمة، وذلك من خلال التنسيق مع الأطراف الإقليمية (خاصةً مصر) والدولية والمنظمات الدولية والإقليمية الرئيسية بهدف تهدئة الأوضاع، وانخرطت بشكل مباشر (إلى جانب مصر) في جهود إتمام صفقات الهدنة وتبادل الأسرى.
ارتدادات مباشرة:
اتسم السياق العام في منطقة الخليج عام 2023 بالهدوء والاستقرار النسبي، وقد ساعد على ذلك الاتفاق السعودي الإيراني في مارس 2023 على عودة العلاقات وتطبيعها، وقد قطع الجانبان شوطًا طويلًا في هذا المسار، والذي انعكس بدوره على عدد من الملفات الخليجية، وذلك في ضوء أن التنافس بين الجانبين السعودي والإيراني قد مثل أحد أبرز المحددات للسياسات الخارجية والأمنية في المنطقة الخليجية ككل.
وقد برز نمط من الترابط والتداخل الواضح في المواقف الخليجية إزاء القضايا الملحة، فمثلًا، لم تنضم السعودية والإمارات رسميًا إلى عملية حارس الازدهار، لعدم الرغبة في الإضرار بمسار العلاقات الهادئ والمتقدم مع إيران، أو حتى تقويض الجهود المتقدمة للتهدئة والسلام في اليمن.
توقعات عام 2024:
الأزمة اليمنية: من المرجح أن تحقق الجهود الأممية والسعودية تقدمًا تجاه حلحلة الوضع في اليمن، ومع ذلك، فإن جهود إطلاق عملية سياسية شاملة ستواجه بالعديد من العقبات والتي سيكون مصدرها رغبة كل طرف داخلي أو داعمه الخارجي بالاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من المكاسب والسيطرة الميدانية، في حين ستركز السعودية بشكل خاص على ضمان عدم عودة الحوثيين إلى استهداف بنيتها التحتية خاصةً النفطية والسياحية الموجودة في المنطقة الغربية أو على الساحل الغربي، وهو أمر يُرجح أن تنجح السعودية في تحقيقه.
الأمن البحري: من المستبعد أن تنخرط السعودية والإمارات في أي ترتيبات أمنية تستهدف إيران أو الحوثيين بشكل مباشر، وذلك من منطلق الإدراك بأن الترتيبات الأمنية والسياسية التي جرى تدشينها في فترات سابقة في هذه المنطقة لم تحقق الأمن البحري بشكل فعال، حيث تم استهداف السفن مؤخرًا في مضيق باب المندب على الرغم من وجود العديد من الأصول البحرية، بما فيها المنضوية ضمن قوة المهام المشتركة 153.
كما يُرجح أن تستمر الدول الخليجية الرئيسية في تعزيز علاقاتها العسكرية وتعاونها الدفاعي مع الدول الكبرى[1] أو الموردين الرئيسيين للأسلحة، وذلك في ضوء توقع استمرار الشد والجذب مع الولايات المتحدة – بالرغم من أنها لا تزال الضامن الأمني الأساسي للخليج – بسبب اختلاف المقاربات والسياسات تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وكذا الرغبة الخليجية في بناء قدرات عسكرية محلية تمكنها من تحقيق الردع وحفظ أمنها القومي.
الصراع في السودان: من المستبعد أن تتخلى الدول الخليجية عن علاقاتها مع الأطراف السودانية أو أدوارها المهمة هناك، على أن تعزز الدول الخليجية تقديمها للمساعدات الإنسانية والإغاثية للسودان، بل وإثارة هذا الأمر في المحافل الدولية.
الحرب في غزة: من المتوقع أن تستمر قطر في تبني دور فاعل في الأزمة – مع الحرص على التنسيق مع مصر في هذا الصدد – لا سيما أنها تحتضن قيادات حركة حماس، خاصةً رئيس المكتب السياسي للحركة “إسماعيل هنية”، وتسمح لهم بتنسيق اتصالات الحركة الدولية، كما سيكون لقطر والسعودية والإمارات دورًا مهمًا في الترتيبات في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب، خاصةً ملف إعادة الإعمار، كما يُتوقع أن تتوسع الدول الخليجية في تقديم المساعدات الإنسانية لغزة في ضوء تردي الأوضاع هناك.
وختامًا، فإنه من المتوقع أن يستمر الهدوء الحذر في المنطقة الخليجية ككل خلال عام 2024، مع تزايد الاستثمار السياسي والاقتصادي للقوتين الخليجيتين الرئيسيتين – الإمارات والسعودية – في مسار تهدئة الأزمات الإقليمية، ومحاولة بناء مناخ أكثر استقرارًا في الخليج.
[1] يثير هذا الأمر حقيقة أخرى، وهي أن الدول الخليجية ستستمر في تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع روسيا والصين والهند، ومن أبرز ملامح ذلك انضمام السعودية والإمارات إلى تجمع بريكس، وكذا استمرار التعاون في المجالات الاستراتيجية، والتي من أبرزها تطوير وتحديث قطاع الموانئ والنقل البحري واللوجيستي، فضلًا عن السعي نحو تفعيل الممرات الاقتصادية الدولية، سواء طريق الحرير الصيني، أو الممر الاقتصادي الجديد.