عندما تُصدر الدول القوانين والتشريعات، وتضع القواعد القانونية والإجراءات التنظيمية التي تتعلق بصيانة أمنها القومي، وتُنشئ من الجهات التنفيذية ما يلزم لتطبيقها ومباشرتها، ثم تُوجد الأجهزة الرقابية والهيئات والمؤسسات التابعة لها، فإنها تستهدف ضمان وسلامة أمنها القومي، ووقايته من الأعمال التي يمكن أن تستغلها القوى المعادية للإضرار بها.
ويتطلب تحقيق الأمن القومي بمفهومه الشامل تنظيمًا حقيقيًا، لكافة أشكال ممارسة الديمقراطية والحريات بين أفراد المجتمع، وعلى النحو الذي يُحقق – إلى أبعد مدى – التأمين الحقيقي لكل عناصر الأمن القومي للدولة، حيث أن القصور في أي من ضوابطه سوف يؤدى إلى الإضرار بكيان الدولة ومكانتها بين الدول الأخرى، وهو الأمر الذي يتطلب أن يكون المفهوم الشامل للأمن القومي “كُلًا متكاملًا”، تتفاعل عناصره فيما بينها، ويرتبط كل منها بالآخر ارتباطًا وثيقًا لكي يستهدف تأمين الدولة ضد أي تهديدات أو محاولات اختراق تستهدف النيل من استقرارها وتهديد بنيانها.
المخاطر والمهددات:
تُعتبر الأجيال الجديدة من الحروب غير التقليدية من أخطر أنواع الاستهداف من قبل القوى المعادية، حيث تسعى تلك القوى إلى توظيفها فى تفجير الدولة المستهدَفة ببطء، وتخريبها وإضعافها باستخدام أدوات ووسائل وكيانات داخلية موالية لها، إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبقصد وإدراك أو بدون ذلك، وصولًا إلى إظهار عجز مؤسسات وأجهزة هذه الدولة المستهدَفة عن أداء وظائفها، أو إدارة مواردها، أو السيطرة على حدودها أو مواطنيها، بغرض إفشالها وزعزعة استقرارها، ثم فرض واقع جديد، يُراعي مصالح هذه القوى المعادية، ويُحقق أهدافها الاستراتيجية، عبر الفوضى الخلاقة، ذلك المصطلح الذي يتم استخدامه بالتزامن مع حدوث أي أزمات أو اضطرابات أو تهديدات أمنية أو اقتصادية أو مجتمعية أو سياسية … إلخ.
وإن دققنا في تاريخ الدول، فسنلاحظ أن المكون القمعي لهيبة أي دولة هو أمر أقوى تأثيرًا، وأكثر حضورًا من المكون المعنوي والقانوني، الأمر الذي تصبح معه مؤسسات الدولة ذات طبيعة مخيفة وعنيفة وليست مهيبة، فتعجز تدريجيًا عن منح أي معنى اجتماعي أو وطني متماسك، وعن المبرر لعنفها هذا دون مزجه بتفاعل حزبي أو تحرك مؤسسي، فتصبح النتيجة هي “أهلنة” الدولة، ونزع صفتها العمومية، وتدهور هيبتها، على النحو الذي تسعى القوى المعادية لاستغلاله والترويج له من خلال عناصر إثارية، وتيارات مناهضة عبر شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، معتمدةً فى ذلك على تضخيم مبالغ فيه لبعض الأحداث الفردية، أو قلب الحقائق، إلى شائعات وأكاذيب، تقويضًا لما استقر بين الشرائح المجتمعية للدولة المستهدَفة من أهمية الثقة في “دولة القانون”، مع إثراء القناعة بالادعاء الباطل بأنها دولة أصبح فيها القانون إما معطلًا أو وسيلة لـ “شرعنة” الظلم وغياب العدالة.
مفهوم سيادة الدولة وهيبتها:
في هذا الإطار، نلاحظ – بدايةً – أن مفهوم “هيبة الدولة” يستلزم في محتواه الأوّلي توافر عنصرين:
- الأول، وهو “الرهبة والخشية”، أي ما تبثه الدولة في نفوس أفرادها من شعور بالوجل والتهيب، وعلى نحو يمنعهم من تحدي لوائحها التنظيمية، أو انتهاك قواعدها القانونية، وهو ما يثبته شيوع اليقين والاقتناع بأنهم إن فعلوا سيلقون عقابًا رادعًا (الردع الخاص)، وقد تُسعفهم ذاكرتهم بأمثلة من هذا العقاب في كل السوابق التي تم التعدي فيها على حُرمة الدولة وأفرادها (الردع العام).
- الثاني، وهو “التقدير والاحترام”، وهما وجهان لعملة واحدة، فالشعور بالتقدير لأفعال الدولة هو شعور ينبعث من التزام هذه الأفعال بقيم قانونية ثابتة وقواعد عامة مجردة، ومن خدمة هدف عام يتعدى مصالح القائمين عليها. كما أن الاحترام يرتبط بالجدية فى تطبيق القانون، فعندما يكون السلوك والعقاب ذاتهما منضبطين بقانون سار على جميع الحالات المشابهة وجاد فى تنفيذه، فإنه يبعث الاحترام في نفوس الأفراد، بينما يرتبط عدم الاحترام وفقدان التقدير بشيوع الاستثناءات أو المحسوبية، والمزاجية أو الفوضوية.
وهكذا تفقد الدولة هيبتها عند تراجع عنصري هذه الهيبة، فتصبح غير قادرة على اكتساب ولاء مواطنيها أو خلق مفهوم متوازن للهيبة، يُعيد الاعتبار لعنصر الاحترام فيها، لا سيما مع شيوع حالة من التفاعلات الحوارية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، والقائمة على شعارات جوفاء تُنادي بالمزيد من أشكال الحريات، في تقليد جاهل وغير واع لديمقراطيات شكلية، ثبت انعدامها عند بحث أصولها وتطبيقاتها في العديد من الدول، وهذا هو ملخص الوضع الحالي.
وفي ظل هذا السياق الفكري العام، تسعى الدول المعادية وعناصرها الخفية لتدمير فكرة “المشروعية والعمومية” كأساس لبنيان أي دولة، وترسيخ “الفوضوية” في سلوكيات الأفراد، بحيث يسعى كل منهم إلى أن ينجو بنفسه، عبر الارتباط بمن يفيد من المسئولين أو غيرهم من مراكز القوى والتأثير المجتمعي، وليس مع جيرانه وشركائه، مما يُسهم في انهيار قيم المجتمع، بسبب الكثير من الخوف، والقليل من الاقتناع بالدولة واحترام مؤسساتها لعدم تقديرها لهم.
ومن جهة أخرى، فإن ظاهرة فقدان الولاء وغياب الانتماء ما هي إلا إفراز لمشاكل أعمق، نبتت وتجذّرت خارج إطار المجتمع، لذلك فإنه ليس من السهل وضع حلول جذرية لها بقدر ما يتطلبه ذلك من العمل الجاد لمنع شيوعها، والسعي المستمر للحد من تفشي آثارها السلبية مرحليًا، خاصةً في ظل ما تشهده شبكات التواصل الاجتماعي من تأليب لضعفاء الانتماء من القوى المجتمعية والشابة، وما تعاصره من مقارنات مع غيرها فى الديمقراطيات الغربية.
فلا يمكن إنتاج الولاء وتوظيفه في مجالات الحياة المتنوعة إذا لم يكن ولاءً حقيقيًا وصادقًا ومعطاءً، وهي شروط لن تتوافر إذا ما فشلت الأجهزة والمؤسسات، الحكومية منها وغير الحكومية على حد سواء، في رعاية مصالح مواطنيها، وتمثيلهم بصدق وأمانة والتزام كامل بحقوقهم وحرياتهم وكرامتهم، ذلك أن تحقيق المشاركة والمساءلة والوضوح والصيانة لحقوق المواطنين، والتمثيل الصادق لهم ولتطلعاتهم، هي من أبرز مكاسب الديمقراطية الرشيدة التي ستؤمن اتحاد المواطنين بدولتهم وتأكيد الولاء الصادق والصميمي لها.
وختامًا، فإن تعدد الإنجازات الوطنية وتنوع المشروعات القومية التي تشهدها مصر، وجرى تنفيذها في مختلف المجالات والقطاعات طوال السنوات العشر الماضية، هي أكبر دليل على مسار الدولة في الاتجاه الصحيح، كما يستوجب بناء جمهوريتنا الجديدة إلى جانب ما هو قائم من مبادرات وجهود فاعلة، معالجة (بعض التشريعات) التي تعتمد على سلسلة من المبادرات التنفيذية والرقابية من أجل التعامل بطريقة متكاملة مع أوضاع جديدة، تهيئ لانتقال الدولة للعيش ضمن لحظة قومية تاريخية، منسجمة مع الواقع المحلي والدولي.
ويتزامن مع ما سبق أهمية الإدراك بدور وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وشبكات التواصل الاجتماعي في خلق التوعية المجتمعية الجادة والشاملة بمتطلبات الحفاظ على الأمن القومي، وبشكل يتناسب مع طبيعة المجتمع وخصائص العولمة، فالمواطن في المجتمع الديمقراطي وإن كان من حقه أن يعرف، فإن حقه هذا مُقيد بما تفرضه اعتبارات الديمقراطية الرشيدة، واعتبارات السلامة وأمن البلاد كما تطبقه الدول الغربية العريقة، الأمر الذي يستوجب بالضرورة أن يكون المواطن على درجة من الوعي الأمني والمجتمعي، الذي يجعله مستوعبًا ومدركًا لهذا التنوع والتباين والاختلاف في الصور المستحدثة لتهديدات أمنه القومي.