Search

كيف تسهم تسوية التجارة بالعملات المحلية في دعم اقتصادات دول الشرق الأوسط؟

07/01/2024

اتجهت عدة دول بالشرق الأوسط لتسوية المعاملات التجارية بالعملات المحلية، حيث توفر تلك الآلية العديد من الفوائد للمتعاملين بها، أهمها دعم سعر صرف العملة الوطنية، وتعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، إضافةً إلى تعميق حجم التجارة، بما يعزز من فرص تحقيق التكامل الاقتصادي.

تحركات إقليمية:

شهدت الفترة الماضية تحركات للعديد من دول الشرق الأوسط لتسوية المعاملات المالية للتجارة البينية – وكذا مع دول من خارج المنطقة – بالعملات المحلية، سواء بعملات الدولتين أو حتى بعملة ثالثة غير الدولار الأمريكي، حيث وجه رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” بتشكيل لجنة عراقية تركية لتنظيم التجارة والشراكة الاستراتيجية بين البلدين، ودعم استيراد التجار العراقيين بالدينار العراقي من تركيا، كما توصلت روسيا وإيران إلى اتفاق بشأن التجارة بعملتيهما المحليتين بدلاً من الدولار الأميركي، فيما وقعت إيران وسوريا اتفاقًا بذات الشأن، وتبحث طهران مع العراق توقيع اتفاق مماثل.

وقامت الإمارات بالفعل بتسوية بعض معاملاتها التجارية مع الهند بالعملات المحلية، وذلك وفق اتفاق تم توقيعه بين البلدين في يوليو 2023، فيما تبحث مصر التعامل بنفس الآلية مع كل من السعودية وتركيا، كما سعى “البنك الأفريقي للاستيراد والتصدير” بناءً على توجيهات الاتحاد الافريقي إلى تفعيل المعاملات التجارية بالعملات المحلية عبر منصة التسويات والمقاصة PAPSK، وذلك من خلال تطوير آلية سعر صرف من شأنها السماح للعملات الأفريقية البالغ عددها 42 عملة بأن تكون قابلة للتحويل فيما بينها.

دوافع ومكاسب:

هناك العديد من الفوائد التي قد تتحقق في حال إقدام دول الشرق الأوسط على التعامل بتلك الآلية، مع إمكانية تطويرها لتتجاوز المعاملات التجارية إلى ضخ الاستثمارات بالعملات المحلية أو حتى قبول مدفوعات السياحة بتلك العملات، بما يعزز تداول العملات المحلية في اقتصادات دول المنطقة.

وبالرغم من أن ذلك التحول قد يحتاج لسنوات، إلا أن البدء فيه قد يسفر عن تأثيرات إيجابية على الاقتصادات المتعاملة به، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك الأمر لا يعني التخلي عن الدولار في التعاملات الدولية والإقليمية، وفي هذا الإطار تتمثل أهم المميزات التي يمكن تحقيقها من التعامل بالعملات المحلية في التالي:

1- تعزيز استقرار أسواق سعر الصرف المحلية: يقلص التحول نحو عملات جديدة كوسيط للتجارة الخارجية من اضطرابات أسواق سعر الصرف المحلية، على خلفية التراجع في الطلب على الدولار لتمويل عمليات الاستيراد، حيث تعاني العديد من الدول من نقص الدولار مما أوجد فجوة في سعره بين السوقين الرسمي والموازي، وبالتالي فإن تقليص الطلب على الدولار قد يقلص من تلك الفجوة، وسينعكس ذلك تباعًا على بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي بالإيجاب، وعلى رأسها معدل التضخم، خاصةً في الدول التي تعتمد بشكل كبير على سد حاجاتها من خلال الاستيراد.

كما أن ربط سعر صرف العملة المحلية بسلة عملات متنوعة قد يعزز من قيمة الأولى من جهة، وتقليص الانكشاف على عملة أو عدة عملات بعينها من جهة أخرى، وفي نفس الوقت فإن التجارة بالعملات المحلية قد تخلق طلب على عملة الدولة، وقد تصبح وسيط للتبادل بين بعض الدول في حال انتشارها، ويدلل على ذلك أن الدرهم الإماراتي تم استخدامه من قبل شركات هندية لشراء النفط من روسيا.

وجدير بالذكر أن فرض عقوبات غربية على عدة دول (روسيا، وإيران، وسوريا) قد أدى إلى اتجاهها لتسوية معاملاتها التجارية بالعملات المحلية، مما أوجد توجهات ومصالح مشتركة مع الدول التي تواجه نقص في السيولة الدولارية، هذا بخلاف تطلعات أخرى لبعض الدول مثل الصين لإنهاء هيمنة الدولار على المعاملات المالية العابرة للحدود، الأمر الذي أوجد فرصًا لعقد اتفاقات تجارية بالعملات المحلية، وتضمن ذلك اتفاقات لتبادل العملات المحلية بين البنوك المركزية، ويصب ذلك في مجمله في صالح سعر صرف العملات المحلية.

2- دعم احتياطيات النقد الأجنبي: يسفر ارتفاع أسعار العملات الرئيسية – مثل الدولار واليورو – في السوق العالمي عن تكلفة إضافية لشرائها بهدف استخدامها كوسيط في التعاملات التجارية، خاصةً مع الثبات النسبي للعديد من العملات المحلية لدول المنطقة، ويمكن تجاوز تلك الإشكالية عبر الاحتفاظ بمحفظة متنوعة من العملات الأجنبية، والتي يمكن استخدامها كوسيط للتبادل التجاري في حالة وجود اتفاقات لتسوية التجارة بالعملة المحلية، وفي نفس الوقت سيدعم ذلك من اقتصاد الدولة في مواجهة الصدمات المالية والاقتصادية العالمية.

ونشير في هذا الصدد إلى اتجاه العديد من البنوك المركزية خلال الفترة الماضية لزيادة شرائها الذهب “النقدي” (يتم وضعه في احتياطي النقد الأجنبي) على اعتبار أنه ملاذ آمن لتثبيت قيمة أصولها المالية، نظرًا لاحتمالية تراجع قيمة احتياطي العملات الأجنبية مما يؤثر سلبًا على احتياطي النقد الأجنبي، حيث أشار مجلس الذهب العالمي إلى أن البنوك المركزية قامت بشراء ذهب بقيمة 20 مليار دولار في الربع الثالث من عام 2022، وهو رقم قياسي لم يتحقق منذ 55 عام.

وتستهدف سياسة تنويع الأصول المالية (عملات، وذهب …) بالبنوك المركزية التحوط من حالة عدم الاستقرار التي يشهدها سوق المال العالمي، وقد دفع ذلك الاتجاه لتراجع حصة الدولار الأمريكي في احتياطيات النقد الأجنبي بالبنوك المركزية حول العالم في 2020، وذلك من نحو 70% إلى 59%، والذي يعتبر أقل مستوى لمساهمة الدولار في تلك الاحتياطيات على مدار 25 عام.

تطور حصص العملات المكونة لاحتياطيات النقد الأجنبي بدول العالم بين عامي 1999 و2020 (بالنسبة المئوية)

Source: Serkan Arslanalp and Chima Simpson-Bell, “US Dollar Share of Global Foreign Exchange Reserves Drops to 25-Year Low” IMF. 25 May 2021.

3- تعزيز التبادل التجاري لتحقيق التكامل الاقتصادي: يُعرقل نقص السيولة الدولارية في العديد من الدول زيادة تجارتها الخارجية، لا سيما بعد تراجع واراداتها من مستلزمات الإنتاج والمواد الخام اللازمة لتصنيع سلع نهائية بهدف تصديرها، وبما يعني تراجع إيرادات الدولة الدولارية من الصادرات، إلا أنه مع وجود إمكانية لتسوية التجارة بالعملات المحلية بين دول الشرق الأوسط، فقد يسفر ذلك عن استيراد مستلزمات الإنتاج من داخل المنطقة، وسيعزز ذلك بدوره من ربط سلاسل الإمداد إقليميًا.

وتوجد العديد من اتفاقات تيسير التجارة متعددة الأطراف والثنائية بين الدول العربية (المكون الرئيسي لمنطقة الشرق الأوسط)، وبالتالي فإن بدء التعامل بالعملات المحلية قد يخلق تشابكًا بين اقتصادات تلك الدول، وذلك على مستوى قطاع الأعمال، وعلى مستوى الشعوب، نظرًا لحركة الأفراد بين تلك الدول، والتي قد تتزايد على خلفية الاعتماد على المدفوعات بالعملات المحلية، هذا ومن الممكن تسهيل نشر أسعار صرف عملات الدول العربية المختلفة لتسهيل تلك المدفوعات (على سبيل المثال، من خلال تطبيقات معتمدة رسميًا على الهواتف المحمولة لتسهيل الدفع النقدي، ومع وجود نظام مقاصة لتسهيل عملية الدفع عبر كروت الائتمان وكروت الخصم المباشر).

بناءً على ما سبق، من المتوقع أن ينعكس ذلك بالإيجاب على التجارة البينية العربية التي لم تشهد تطورات كبيرة خلال العقد الماضي، وهو ما يوضحه التذبذب في إجمالي الصادرات البينية العربية وعدم ارتفاعه، بالرغم من تزايد المتطلبات نتيجة النمو السكاني وتزايد النشاط الاقتصادي.

تطور حجم الصادرات البينية العربية بين عامي 2013 و2021(بالمليار دولار)

 (تم استيفاء البيانات من تقارير “الاقتصاد العربي الموحد”، صندوق النقد العربي)

وبالتالي، فإن تعزيز التعاملات البينية في المنطقة عبر العملات المحلية يعتبر عنصرًا مهمًا يمكن من خلاله البدء في إعادة التفكير في صياغة رؤية جديدة لتحقيق هدف الوصول لتكامل اقتصادي إقليمي، والذي يتضمن عدة مراحل تدريجية، بدءًا من إقامة منطقة تجارة حرة ووصولًا إلى التكامل الاقتصادي الشامل، حيث يعتبر تيسير التجارة محركًا أساسيًا لتطوير العلاقات البينية، وقد يدعم من تلك المقاربة أن العديد من دول المنطقة تسعى لإعادة هيكلة اقتصاداتها نحو مزيد من التنوع، وهو ما قد يتجاوز إشكالية تشابه هياكل الإنتاج التي تعرقل التبادل التجاري والتكامل الاقتصادي بشكل عام.

ومن المهم دراسة إمكانية إبرام دول الشرق الأوسط – خاصةً الدول العربية – اتفاقات ثنائية أو متعددة الأطراف لتسوية التجارة بالعملات المحلية، وأن يتم ذلك تدريجيًا، مثل تحديد نسبة من إجمالي حجم التبادل التجاري (كأن يتم تسوية 15% من إجمالي حجم التجارة بالعملات المحلية، على أن تزداد تلك النسبة تدريجيًا)، مما يمهد لمزيد من التعاون البيني في العديد من القطاعات وليس التجارة فحسب، ويمكن للدول المهتمة بتلك الآلية المبادرة بصياغة اتفاق متعدد الأطراف لاعتماد ذلك النهج.

وختامًا، يلزم التأكيد على أن اختلاف التوجهات والأوضاع الاقتصادية بدول الشرق الأوسط قد دفع بعضها لتسوية التجارة بالعملات المحلية، وبما يفتح المجال أمام نظام “المقايضة” في السلع، ولذلك لا يُستبعد أن تشهد السنوات القليلة المقبلة تغير هيكل المعاملات المالية الإقليمية والدولية، وذلك في مواجهة استخدام الدولار الذي تزايد الاعتماد عليه كأداة من أدوات الضغط، سواء من خلال ربطه بالعقوبات، أو فيما يتعلق بعدم توافره لإتمام المعاملات المالية الدولية، وبما يدفع الدول للاستدانة من الخارج بسعر فائدة مرتفع وبشروط قد تؤثر على أوضاعها الداخلية، وهو الأمر الذي يمكن تجاوزه عبر تنويع سلة العملات لسداد المدفوعات العابرة للحدود.  

ecopeace
السلام الاقتصادي وتسوية الصراعات في الشرق الأوسط
usd
تحولات مستجدة: هل تتراجع هيمنة الدولار عالميًا؟
WFP
لماذا تتزايد تهديدات أمن الغذاء العالمي؟
sanctions
هل يؤثر الاستخدام المتزايد للعقوبات على الاقتصاد العالمي؟
Scroll to Top