اكتسبت المنطقة الجغرافية لجنوب البحر الأحمر أهميةً كبرى عقب حرب أكتوبر 1973، وكان لإغلاق مضيق باب المندب بواسطة سفن وغواصات البحرية المصرية دورًا جوهريًا ومؤثرًا على مجريات الحرب المصرية الإسرائيلية، حيث قُطعت خلالها حركة مواصلات السفن التجارية المتجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وهو ما لفت الانتباه إلى أهمية هذا المضيق في التأثير على واقع دول المنطقة بصفة عامة، وعلى أمن البحر الأحمر بصفة خاصة.
وتتمتع الدول المطلة على خليج عدن ومضيق باب المندب بمميزات جيوسياسية، باعتبارها نافذة تطل بها على مدخل البحر الأحمر، فضلًا عن مميزات استراتيجية عديدة، منها الجزر المنتشرة غير المأهولة، وثروات البترول والغاز الكامنة في حوض البحر الأحمر، كما تتحكم تلك المنطقة الجغرافية في حركة التجارة العالمية، خاصةً النفط القادم من منطقة الخليج العربي والمتجه إلى أوروبا، وكذا السفن المتجهة من موانئ دول الخليج العربي ودول جنوب شرق أسيا، إلى الدول المطلة على البحر المتوسط والقارة الأوروبية عبر قناة السويس.
يُذكر أن أهمية مضيق باب المندب كانت محدودة وذلك حتى الافتتاح الأول لقناة السويس عام 1869 وبدء تشغيل الملاحة فيها، حيث تحول المضيق بعدها ليصبح واحدًا من أهم الممرات والمضايق الملاحية في العالم، عبر ربطه لخطوط المواصلات التجارية بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، عن طريق دمج خطوط الملاحة البحرية بين الدول الأوروبية ودول البحر الأحمر من جانب، وكذا بين دول المحيط الهندي ودول جنوب شرق أسيا ودول البحر المتوسط مرورًا إلى المحيط الأطلنطي وشمال غرب أوروبا من جانب آخر، وتم الاستغناء حينها عن طريق رأس الرجاء الصالح، المكلف ماديًا وزمنيًا.
وبالنظر إلى البيئة الجغرافية للمضيق، نجد أن له قناتان لمرور السفن، الأولى وتقع بين الساحل اليمني وبين جزيرة “بريم” اليمنية (لها مسمى أخر وهو “ميون”)، ويبلغ عرضها حوالى 3 كم، ويتراوح عمقها الأقصى (في المنتصف تقريبًا) بين 20 إلى 30 متر، وتتجنب غالبية السفن الدولية الكبيرة التحرك عبر هذه القناة، أما القناة الثانية وهي الأكبر، فتقع بين جزيرة بريم اليمنية وبين الساحل الجيبوتي الأفريقي، ويبلغ عرضها حوالى 22 كم تقريبًا، ويبلغ عمقها حوالى 280 متر، مما يسمح لمختلف السفن وناقلات النفط بعبور هذا الممر بسهولة ويسر على محورين متعاكسين ومتباعدين، كما تقع بداخل الجزيرة محطة أرصاد جوية لإذاعة حالة البحر والطقس، ويتواجد عليها فنار لإرشاد السفن العابرة للمضيق.
كما ينتشر العديد من الجزر في البحر الأحمر، بواقع 40 جزيرة كبيرة الحجم، و380 جزيرة متوسطة الحجم، والتي لا تشكل إجمالًا أي خطر على الملاحة البحرية الدولية، لأنها ظاهرة وواضحة وموقعة على الخرائط الملاحية، ولا تتأثر بأحوال المد والجزر طوال فصول العام، إلا أنه توجد جزر أخرى صغيرة، تقدر بنحو 1400 جزيرة تقريبًا، تشكل بعض المخاطر على الملاحة بالبحر الأحمر، حيث لا تتعدى الأعماق حول معظمها حوالي 15 متر، بل وأقل من ذلك على حسب أحوال المد والجزر طوال فصول العام، كما أن الجزر – خاصةً غير المأهولة – قد تستغل لممارسة أنشطة إجرامية، كتهريب المخدرات والسلاح، والقرصنة واختطاف السفن.
وتنبع الأهمية الاستراتيجية للجزر المنتشرة بالبحر الأحمر في أنها تعتبر ذراع طويلة وقواعد متقدمة لسواحل الدول التي تتبعها تلك الجزر (اليمن، وجيبوتي، وإريتريا) وإمكانية استغلالها كنقاط للمراقبة والاستطلاع البحري، مع الوضع في الاعتبار أن كثافة انتشار الجزر في تلك المنطقة تؤدى إلى تقييد الملاحة البحرية هناك، وتزيد من قرب وإحكام سيطرة اليابس على الماء باعتبار تلك الجُزر امتداد تحكم الدول على ساحلها بالعمق داخل البحر، مما يجعلها مطمعًا للقوى الكبرى.
وتنفرد بعض الدول الواقعة بمنطقة جنوب البحر الأحمر (اليمن، وجيبوتي، وإريتريا، والصومال) والمطلة على مضيق باب المندب بميزة استراتيجية، لإطلالها على مداخل ومخارج المضيق ومن ثم إمكانية التحكم فيه، حيث تسمى “عنق الزجاجة الاستراتيجي” إلا أن القوى الكبرى وحليفاتها قد حرصت على إقامة قواعد عسكرية بالقرب من المضيق وحوله، وذلك لأهميته العالمية في حركة التجارة والنقل.
وتتمتع اليمن بأفضلية استراتيجية في السيطرة على مضيق باب المندب لامتلاكها جزيرة بريم الواقعة عند مدخل البحر الأحمر تمامًا، كما تمتلك مجموعةً من الجزر الأخرى، والتي تنتشر على امتداد كل من البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، ويبلغ إجمالي عدد الجزر اليمنية حوالي 186 جزيرة، منها 150 جزيرة في البحر الأحمر، ومن أهم وأكبر الجزر التي يقطنها السكان في اليمن هي: بريم، وحنيش، وزقر، وكمران، وسقطرى (في خليج عدن).
فيما تتبع دولة إريتريا 126 جزيرة، من أهمها: جزر حالب وفاطمة ونهلق ونورا وحرمل، ومجموعة أرخبيل جزر دهلك، والتي تتشكل من حوالي 100 جزيرة، أكبرها دهلك الكبرى، ويبلغ إجمالي مساحة جزر الأرخبيل نحو 700 كم مربع، وتبعد عن الساحل حوالي 40 كم، أما بالنسبة لجيبوتي، فتستحوذ على عدد من الجزر، مثل: السوابع (وهي عبارة عن سبع جزر صغيرة تنتشر قبل بداية مدخل مضيق باب المندب باتجاه الغرب من خليج عدن)، إلى جانب جزر موشا، وكاليدا، وسكادا دين، وأبو مايا.
ولقد شهدت منطقة جنوب البحر الأحمر عبر التاريخ تنافسًا على التواجد العسكري بين القوى الكبرى – خاصةً فيما يتعلق باحتلال أو السيطرة على الجزر هناك، لأن ذلك يتيح لها إحكام السيطرة على المجرى الملاحي لجنوب ووسط البحر الأحمر – بدايةً من التنافس بين القوى الاستعمارية التقليدية، مثل: إسبانيا، والبرتغال، وبريطانيا وإيطاليا، وفرنسا، ومرورًا بفترة الحرب الباردة التي قام خلالها الاتحاد السوفيتي بإنشاء قاعدة عسكرية في بربرة في الصومال، إلا أنه سرعان ما انتهى وجود تلك القاعدة عقب انهيار العلاقات بين الاتحاد السوفيتي والصومال نتيجةً لدعمه لإثيوبيا في حربها ضد الصومال في ذلك الوقت.
وتشهد تلك المنطقة في الوقت الراهن تناميًا في حالة التنافس العالمي والإقليمي، حيث أصبحت من أكثر مناطق العالم احتواءً على القواعد العسكرية، حيث تنتشر بها قواعد لدول: فرنسا، والولايات المتحدة، واليابان، والصين، وروسيا، وتركيا، وإسرائيل، والاتحاد الأوروبي (سفن وقطع حربية من عدد من الدول، مثل ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، واليونان … إلخ)، وتتنوع وتختلف مهام ومسئوليات القوات الأجنبية فى قواعد تلك الدول، من حيث العمل على مكافحة وتطويق جرائم القرصنة في خليج عدن ومضيق باب المندب، كما تتولى مراقبة حركة السفن التجارية بجنوب البحر الأحمر وحمايتها، وذلك بناءً على اتفاقيات مع حكومات دول مقر القاعدة، تحصل بموجبها الأخيرة على محفزات أو تسهيلات مادية أو عسكرية أو فنية أو مدنية.
إن التواجد العسكري البحري الأجنبي في جنوب البحر الأحمر سلاح ردع ذو حدين، فقد يؤدى في حال تصاعد احتدام تعارض المصالح السياسية أو الاقتصادية أو ظهور أزمة بين تلك القوى الدولية والإقليمية، وبين الدول المشاطئة للبحر الأحمر، مثل أزمة الاعتداءات على السفن التجارية حاليًا بجنوب البحر الاحمر، إلى اتساع الصراع ودخول أطراف أخرى فيه لمحاولة فرض إرادتها أيضًا وسيطرتها على مضيق باب المندب والحركة فيه ومن ثم إمكانية غلقه بحريًا، وبالتالي إفراز المزيد من التعقيدات والأزمات فى تلك المنطقة، وما يستتبعه ذلك من تأثيرات سلبية على حركة التجارة الدولية والاقتصاد العالمي، وكذا على أمن دول تلك المنطقة.
وبالوصول لهذا الوضع، لن يكون هناك أي فائز في المعركة، بل سيتعرض كل الأطراف للخسارة، لذلك، يستوجب على الدول المطلة على البحر الأحمر السعي الجماعي بالتوافق نحو تعزيز علاقات التعاون، والبحث عن المصالح المشتركة بينها، بأشكالها كافة (سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا، وعسكريًا).
وإجمالًا، يمكن التأكيد على أن أمن واستقرار مضيق باب المندب يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمن البحر الأحمر، إلى جانب بقاء واستمرار قناة السويس مفتوحة للملاحة الدولية في المقام الأول، حيث يعتبر أمنهما وسلامتهما، واستمرار الملاحة فيهما، من أهم عوامل استقرار وأمن حركة السفن التجارية وناقلات النفط حول العالم، وكذا استقرار سريان سلاسل الإمداد التجارية العالمية فى طريقها المعتاد والطبيعي بين دول الشرق والغرب، ومن المتوقع أن تعود السفن التجارية، التي اتخذت طريق رأس الرجاء الصالح، إلى البحر الأحمر وقناة السويس من جديد، وذلك بعد انتهاء التهديدات والتصعيد الراهن، في ظل الإدراك الدولي بأن قناة السويس هي الطريق الحيوي والعبقري الذي لا غنى عنه للسفن التجارية الدولية حول العالم.