أجلت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، اللقاء التحضيري لممثلي الأطراف المؤسسية الرئيسية الخمسة في ليبيا إلى يناير 2024، وسط تباين في مواقف الجهات المحلية بشأن الاجتماع الذي اقترحه الممثل الخاص للأمين العام “عبد الله باتيلي”، لبحث الخطوات المقبلة لتنفيذ الانتخابات التي يتعين أن تتوج العملية السياسية، حيث انتهي عام 2023 دون إحراز تقدم ملموس نحو هذا الهدف، وهو ما يفتح باب التوقعات بشأن الاتجاهات المحتملة للعملية السياسية خلال عام 2024.
الوضع الراهن للعملية السياسية:
قام باتيلي بإبلاغ مجلس الأمن في 18 ديسمبر 2023، بالوضع الذي انتهت إليه العملية السياسية في ليبيا خلال عام 2023، بعد مشاوراته واتصالاته المكثفة مع مختلف الأطراف، والتعرف على مواقف الأطراف الليبية المؤسسية الخمسة من دعوته التي وجهها إليهم في شهر نوفمبر 2023 لعقد اجتماع مشترك لبحث الخطوات المقبلة لتنفيذ العملية الانتخابية.
وقد لخص باتيلي لمجلس الأمن الوضع الراهن في ليبيا وأسباب الجمود السياسي وتعذر إجراء الانتخابات في نقطتين رئيسيتين هما كالتالي:
1-غياب التسوية السياسية حتى الآن، والتي تحول دون تنفيذ العملية الانتخابية بالرغم من إقرار إطارها الدستوري والقانوني القابل للتنفيذ من الناحية الفنية.
2-استمرار التنافس وانعدام الثقة بين الأطراف الليبية الرئيسية، وهو ما يؤدي إلى استمرار حالة الانسداد ويكرس الانقسام الراهن في البلاد.
مواقف القوى الدولية:
أبدت القوى الخمس الكبرى في مجلس الأمن دعمها لخطة باتيلي الرامية لإعادة تنشيط العملية السياسية في ليبيا، وجاءت مواقفها بشأن الترتيبات المقترحة للتقدم إلى الأمام متباينة على النحو التالي:
1-الولايات المتحدة: لمست “تحديًا خاصًا” في مبادرة باتيلي يتعلق بتشكيل حكومة تصريف أعمال ووضع خارطة طريق للانتخابات، ورأت أن ذلك يتطلب اجتماع الأطراف الرئيسية على طاولة المفاوضات وجهًا لوجه للاتفاق بشأنها، وحذرت من يواصلون تأخير العملية السياسية بتحمل “القسم الأكبر من اللوم إذا مر الوقت دون انتخابات ودون تشكيل حكومة موحدة”.
2-بريطانيا: حثت القادة الليبيين على ضرورة الاستجابة لدعوة باتيلي بشكل بناء وبحسن نية ودون شروط مسبقة، ورأت أن الاجتماع التحضيري للقاء الخماسي المرتقب من شأنه أن “يوفر الفرصة أمام الجميع للتعبير عن شواغلهم”، مما قد يمهد لاتفاق بين الأطراف الرئيسية بشأن المضي قدمًا في العملية السياسية.
3-فرنسا: أكدت دعمها لمبادة باتيلي، واقترحت عليه “إعداد جدول زمني” لعملية الحوار وتمكين أطرافه من التوصل إلى حل للإشكاليات المتعلقة بتنفيذ الانتخابات، وأيدت “تغليب اتفاق ليبي لتشكيل سلطة تنفيذية انتقالية موحدة، تكون لها ولاية واضحة وتسمح بوصول ليبيا إلى الاستحقاق الانتخابي”، وحذرت من أن الفراغ السياسي الحالي من شأنه أن “يزكي التدخل الأجنبي الذي يزعزع استقرار البلاد والمنطقة كلها”.
4-الصين: دعت الأطراف الليبية إلى تنحية خلافاتها جانبًا ومواصلة الحوار للبناء على التقدم المحرز في المسار السياسي، وحذرت من أن التدخل الأجنبي والحلول المفروضة من الخارج “لن يجلب سلامًا أو استقرارًا”، كما اعتبرت أن الحل الأوحد يكمن في احترام ليبيا وسيادتها، وأن يقتصر الدور الأممي على مساعدة الأطراف الليبية في الوصول إلى التسوية.
5-روسيا: تحفظت على مبادرة باتيلي، واعتبرت أن الوضع الراهن على الأرض قد يفشل المبادرة الأممية، ويفضي إلى مزيد من التقسيم داخل المجتمع الليبي، ودعت مجلسي النواب والدولة إلى مواصلة التفاوض حول الأساس الدستوري والتشريعي للانتخابات، لضمان فاعلية أي مبادرة دولية لتسوية الأزمة.
ويشير هذا الخلاف بين القوى الكبرى إلى مخاوفها من أن تفضي أي ترتيبات جديدة إلى تقويض مصالحها الاستراتيجية في ليبيا، لا سيما من جانب فرنسا التي ترغب في تنظيم وجدولة عملية الحوار الليبي، وروسيا التي شرعت في تنشيط اتصالاتها مع مختلف الأطراف الفاعلة في شرق وغرب ليبيا بعد إعادة فتح سفارتها في طرابلس، في حين تتمسك الولايات المتحدة وبريطانيا بضرورة أن تتوج العملية السياسية بإجراء الانتخابات.
الاتجاهات المحتملة للعملية السياسية عام 2024:
ثمة مجموعة من الأسباب العملية التي أعاقت تقدم المسار السياسي في ليبيا على مدى عام 2023، رغم التحركات الفاعلة من طرف الرعاة الأجانب للعملية السياسية – بما فيها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أو مجموعة الاتصال الدولية المعنية بليبيا – والتي يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1-اختلاف أولويات الدول المعنية بالأزمة الليبية تجاه العملية السياسية، حيث تتطلع الولايات المتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة إلى تتويج العملية السياسية بالانتخابات في حين لا يحظى هذا الاستحقاق بأولوية لدى دول أخرى مثل فرنسا وروسيا.
2-عدم وجود بيئة مواتية لتنفيذ العملية الانتخابية، حيث تشكك العديد من الدول المعنية بالأزمة الليبية في قدرة البلاد وجاهزيتها على تنفيذ هذا الاستحقاق في ظل الانقسام السياسي والمؤسسي، وقد عبرت تلك الدول عن ذلك صراحةً في بيانات مشتركة أو منفردة خلال العام الماضي.
3-تباين مواقف القوى الأجنبية من الأطراف الليبية الفاعلة، إذ يرى بعضها أنه من الضروري الحفاظ على حلفائها المحليين لدعم وتعزيز مصالحها الاستراتيجية في ليبيا، وبالتالي إرجاء أي ترتيبات سياسية لا تخدم هذه الغاية، والبعض الآخر يدفع نحو استبدال الطبقة السياسية الحالية في ليبيا عبر الانتخابات.
4-التنافس الدولي حول ليبيا خاصةً بين القوى الرئيسية ممثلة في الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة، والصين وروسيا المتطلعتين إلى لعب أدوار متقدمة في ليبيا خلال الفترة المقبلة من جهة أخرى.
ويمكن القول إن هناك ثلاثة اتجاهات يتم الدفع نحو تبنيها من قبل الجهات الفاعلة في الأزمة الليبية، محليًا وخارجيًا، والمتمثلة فيما يلي:
1- توسيع المشاركة في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، ويدفع نحو هذا الاتجاه أنصار النظام السابق وعدد من القوى السياسية والاجتماعية، المتطلعة إلى المشاركة في أي ترتيبات سياسية يجري التوافق عليها سواء عبر الانتخابات أو المفاوضات، بحيث تضمن أي عملية سياسية تمثيل مقنع لهم في السلطة السياسية، وتدعم هذا الاتجاه روسيا والصين وفرنسا.
2- إعادة التفاوض على تشكيل السلطة التنفيذية، ويضم هذا الاتجاه كل من رئيس مجلس النواب “عقيلة صالح”، وقائد الجيش الوطني المشير “خليفة حفتر” في الشرق، والقوى المستبعدة من المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية بالمنطقة الغربية بما فيها فريق الحزب الديمقراطي برئاسة “محمد صوان” ورئيس الحكومة – الموقوف – المكلفة من مجلس النواب “فتحي باشاغا”، وبعض الجهات الفاعلة في مصراتة والزاوية وغريان وطرابلس.
3- تغيير الطبقة السياسية عبر الانتخابات، ويؤيد هذا الاتجاه رئيس حكومة الوحدة الوطنية برئاسة “عبد الحميد الدبيبة”، ومعه رئيس المجلس الأعلى للدولة “محمد تكالة”، إلى جانب طيف سياسي واجتماعي متنوع في الغرب والشرق والجنوب من بين أنصار فبراير والنظام السابق، ويحظى هذا الاتجاه بدعم أمريكي وبريطاني.
وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إن العملية السياسية في ليبيا في بدايات عام 2024، ستستمر برعاية الأمم المتحدة دون تغيير في آليات عملها، ما لم يحدث أي تطور ميداني يفرض تغييرًا جوهريًا على تلك العملية، وهو ما يعني أن الأمم المتحدة ستمضي خلال عام 2024 في دعوة الأطراف الرئيسية الخمسة للحوار من أجل انتزاع توافقات بشأن الترتيبات اللازمة للعملية الانتخابية، غير أن إقرار وتفعيل مخرجات هذا الاجتماع المرتقب لن تكون ممكنة بسهولة دون توافق الجهات الأجنبية المعنية بالأزمة، وهو ما قد يسبقه عقد مؤتمر دولي بين تلك الجهات لدعم الخطوات المقبلة للعملية السياسية.