من المرتقب أن تكون تونس على وقع حراك سياسي أكثر قوة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التي ستُعقد خلال العام الجاري، والتي ستختبر مدى إمكانية حماية المسار الديمقراطي، وسط منطقة باتت مُهددة بالاضطرابات السياسية والأمنية، وفي ظل العقبات التي تفرضها الأزمة الاقتصادية في البلاد، وتصاعد التساؤلات حول هوية الرئيس القادم، وما إذا كان الرئيس “قيس سعيد” سيخوض التجربة ثانية، أم لا.
تفاهمات حرجة:
يتسم المناخ المحيط بالعملية السياسية التونسية بتصاعد تحركات الاستعداد للانتخابات الرئاسية التي أكدت الهيئة العليا للانتخابات أنها لن تتأجل، ردًا على تشكيك بعض القوى السياسية والحزبية، حيث أكدت الهيئة أن الانتخابات الرئاسية سيتم تنظميها خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من المدة الرئاسية للرئيس “قيس سعيد”، والتي تنتهي في أكتوبر القادم، ووفق القانون الأساسي لعام 2014، والذي لم يُعلن بعد ما إذا كان سيتم تعديله أم لا.
وتنشغل بعض قوى المعارضة على اختلاف توجهاتها وثقلها السياسي في الفترة الأخيرة بترتيب صفوفها ووضع تصوراتها عن فرص المواجهة الانتخابية المحتملة في الانتخابات الرئاسية القادمة، لا سيما حال ترشح الرئيس سعيد فعليًا وبصفته مستقلاً عن أي كيان سياسي أو حزبي، حيث تتوقع أن يمثل ترشح الرئيس تحديًا قويًا أمام مستقبلها الانتخابي، لذا فإنها تبحث عن كيفية تقديم مرشح توافقي مناسب، وإن تأخر وصول هذه القوى كما هو مُرجح إلى الاتفاق على شخصية المرشح المنافس قبل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، يتوقع أن تضطر إلى ذلك في الجولة الثانية من الانتخابات.
وقد تمثلت أهم القوى الساعية نحو إيجاد مرشح توافقي فيما يلي:
ائتلاف “صمود”: الذي يضم أحزاب يسارية وسبق أن تحفظ على بعض إجراءات مسار التصحيح، بيد أن الائتلاف طرح مبادرةللانخراط في الانتخابات القادمة، إذ يشجع على دعم مرشح توافقي، لكن الائتلاف عجز عن توحيد صفوف القوى السياسية والمدنية حول مبادرته، إذ حاول الدخول في تفاهمات حول أولويات الفترة القادمة مع الأحزاب الوسطية (مثل أحزاب: المسار، والاجتماعي التحرري، وآفاق تونس، ومشروع تونس، والاشتراكي)، حيث استهدف من وراء المبادرة منع تشتيت أصوات المعارضة، والحيلولة دون تعثر فرصها التنافسية بالانتخابات القادمة، وقد قدم بعض الأسماء التي يراها مناسبة للترشح في الانتخابات، منهم: “حاتم بن سالم” الذي تولى مناصب وزارية قبل وبعد الثورة، و”حكيم بن حمودة” الذي سبق له تولي منصب وزير الاقتصاد والمالية، و”مصطفى كمال النابلي” محافظ البنك المركزي سابقًا، و”عبد الكريم الزبيدي” وزير الدفاع سابقًا، و”منذر الزنايدي”، وهو وزير سابق إبان حكم الرئيس بن علي.
حزب الائتلاف الوطني التونسي: وهو حزب وسطي حديث النشأة، وقد طرح مؤخرًا مبادرة للمشاركة بمرشح رئاسي توافقي، وهو ما أكد عليه “ناجي جلول” رئيس الحزب حينما قال “سنترشح للانتخابات الرئاسية إما بترشيح رئيس الحزب أو من نراه قادرًا على الفوز ويحمل أفكار الحزب”، كما دعا مختلف القوى السياسية إلى الاعتراف بمسار 25 يوليو التصحيحي، وقد ناقش مبادرته مع بعض النخب لكن لم يتضح مدى التجاوب السياسي مع المبادرة، وهو ما يمكن إرجاعه إلى ما يلي:
1-طموحات بعض هذه النخب للترشح في الانتخابات الرئاسية، مثل فاضل عبد الكافي” الرئيس السابق لحزب آفاق تونس، و”ألفة الحامدي” رئيس حزب الجمهورية الثالثة، و”نزار الشعري” رئيس حزب قرطاج الجديدة، و”لطفي المرايحي” رئيس حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري.
2-اتجاه بعض الأحزاب إلى الاندماج في أحزاب جديدة، مثل حزب حركة حق الذي يضم ثلاثة كيانات (هي: حركة مشروع تونس، وشباب البديل، وحراك درع الوطن)، حيث اختار عدم الترشح في أي انتخابات مقبلة، نظرًا لأهمية التركيز على عملية البناء الداخلي، وهو ما تجسد في ابتكاره آلية ديموقراطية جديدة لتحديد قيادة الحزب، حيث أصبحت تتم وفقًا للنمط الأفقي الجماعي بدلًا من القيادة الرأسية، الأمر الذي يحاول الحزب من خلاله طرح نموذجًا جديدًا للتنظيمات السياسية، وتجاوز الإشكاليات التقليدية التي عرفتها مختلف الأحزاب التونسية.
حسم القيادات:
تسارع قوى المعارضة الرئيسية الخطى من أجل حسم خلافاتها على مستوى القيادة، عبر اللجوء إلى خيار تصعيد كوادرها (بالانتخابات أو التزكية) تمهيدًا لتحديد موقفها من الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، ومن بين هذه القوى ما يلي:
حركة النهضة: وهي من أبرز التنظيمات السياسية المعارضة في البلاد، وقد زكت “العجمي الوريمي” في نوفمبر الماضي أمينًا عامًا بصلاحيات جديدة لم يُكشف عنها، ربما لتكون مؤقتة بعد اعتقال كل من زعيمها “راشد الغنوشي” ورئيسها بالوكالة “منذر الونيسي”. وقد كشفت القيادة الجديدة أن الحركة تمر بمرحلة “الانتقال القيادي المُتدرج”، علاوةً على ذلك، فإن تأخر عقد المؤتمر العام للحركة يرجع إلى غياب التوافقات بين كوادرها بشأن أمور داخلية عدة، بجانب استمرار تحركاتها للبحث عن “مشتركات مع القوى الديمقراطية والمدنية”، وربما يتصل ذلك بإعداد الحركة للانتخابات القادمة، حيث مازالت الحركة تتسمك بأسلوبها التقليدي في المناورات السياسية، وهو الأمر الذي لم يعد مقبولاً لدى غالبية القوى السياسية، إذ عادةً ما تطرح الحركة تغييرات شكلية سواء على مستوى أدائها السياسي – عبر قيادة تحالفات سياسية من وراء الستار، مثل جبهة الخلاص الوطني– أو على مستوى الهيراركية الداخلية للحركة.
حزب الائتلاف الوطني: الذي بدأ في تنظيم انتخابات المنسقين المحليين الذين سيتولون انتخاب قيادة الحزب خلال فترة الأربعة أشهر القادمة، كما طرح جانبًا من برنامجه الانتخابي وتعهد بتقديم مقترح للفريق الحكومي إذا وصل رئيسه إلى السلطة.
حزب آفاق تونس: الذي تمكن من انتخاب “ريم محجوب” كرئيس جديد له في 10 ديسمبر الماضي، عبر انتخابات داخلية، وذلك إثر استقالة رئيسه السابق “فاضل عبد الكافي” في أكتوبر الماضي.
مراجعات سياسية:
وجدت بعض قوى المعارضة في تونس ضرورة مراجعة مواقفها المعارضة للسلطة، فبعد أن ظلت رافضة للمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة (الاستفتاء والانتخابات التشريعية والمحلية) وفق المرحلة الانتقالية في البلاد، بل وحرضت المواطنين على أن تحذو حذوها في المقاطعة، إلا أن الفترة الأخيرة قد شهدت ظهور تحول في هذه المواقف، خاصةً من قبل جبهة الخلاص الوطني، وهي من ضمن التنظيمات المعارضة، وتضم قوى رئيسية كحركة النهضة، وتستهدف من هذه المراجعة إعادة إحياء الحركة سياسيًا، حيث بدأت الجبهة في التعبير عن ضرورة المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة وأن هذه المسألة ستكون محلًا للنقاش – وإن كانت قد اشترطت وجود حكومة تقودها شخصية وطنية متفق عليها – وهو نفس الموقف الذي عبرت عنه حركة النهضة حينما أعلنت عن نيتها المشاركة في الانتخابات الرئاسية من خلال دعم مرشح واحد.
وإجمالًا، يبدو أن القوى السياسية التونسية أصبحت أكثر سعيًا وتقبلًا نحو إيجاد السبيل المناسب للانخراط من جديد في العملية السياسية وذلك من خلال الاستعداد للمشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة، الأمر الذي يعزز توسيع المجال السياسي لتكريس المسار الديمقراطي في تونس، وربما قد يؤدي الترشح المحتمل للرئيس قيس سعيد، إلى فوزه في الانتخابات بسبب غياب التوافق بين قوى المعارضة حتى الآن على شخصية المرشح المنافس، لكن ذلك ربما لن يمنع المعارضة من الحشد ضد الرئيس، أو غيره من المرشحين المستقلين المحتملين في الجولة الأولى من الانتخابات، والسعي نحو التركيز على مدى الالتزام بمعايير الشفافية في العملية الانتخابية.