تواجه عملية إعادة إعمار قطاع غزة – والتي تزايد الحديث عنها مؤخرًا – العديد من التحديات في ضوء عدم وضوح مآلات الحرب الحالية، ومع صدور تقديرات أولية بضخامة التمويل اللازم، بما يتطلب اتخاذ خطوات أكثر فاعلية لتقييم الخسائر، وتحديد تصور لعملية إعادة الإعمار للبدء فيها بعد انتهاء الحرب.
تدمير البنية التحتية:
تتبنى إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة سياسة التدمير الممنهج للبنية التحتية ليصبح القطاع غير صالح للحياة، وكلما زادة حجم الدمار كلما عرقل ذلك إمكانية جمع التمويل اللازم لإعادة إعمار المناطق المتضررة، وهي بذلك ترتكب ما يطلق عليه الـ Domicide، والذي يُعرف بأنه التدمير المتعمد والشامل للمساكن لجعل المنطقة غير صالحة للسكن، وعليه قد يتحقق المخطط الإسرائيلي بقيام سكان غزة بالهجرة الطوعية بعدما تعرقلت جهود تهجيرهم قسريًا.
ينصب التركيز الإسرائيلي على تدمير المنشآت التي تقدم الخدمات الحيوية اللازمة لمقومات الحياة الأساسية في غزة، مثل المستشفيات، وهو ما دفع المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الصحة “تلالينج موفوكينج” إلى التأكيد في ديسمبر 2023 أن البنية التحتية للرعاية الصحية في قطاع غزة تعرضت للتدمير بشكل كامل، كما يشير بعض المسئولين الفلسطينيين إلى ان شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي دُمرت بشكل شبه كامل، بما يدلل على طبيعة السياسة الإسرائيلية القائمة على استهداف كافة أنواع البنية التحتية.
كما تم استهداف الأنشطة الاقتصادية بما يؤثر سلبًا على سبل العيش، ويجعل سكان القطاع في حاجة مستدامة للمساعدات الخارجية، وفي حاجة ماسة لعودة تلك الأنشطة لضمان توليد الوظائف لإعادة تسيير الدورة الاقتصادية وتوفير الحاجات الأساسية، ويُشار إلى تراجع كثافة الأراضي الصالحة للزراعة بسبب الحرب المستمرة في غزة وفقًا لمركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، مما يؤثر على نشاط السكان الزراعي في القطاع، والذي كانوا يعتمدون عليه في توفير الغذاء.
نظرة مقارنة:
لا تتوافر حاليًا إحصاءات دقيقة حول حجم الخسائر التي لحقت بالقطاع في ضوء الاستهداف المستمر للمنشآت، وعليه تم إصدار تقديرات متفاوتة بشأن المبالغ المطلوبة، والتي تُعد في حدها الأدنى، فعلى سبيل المثال، يرى رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني أن القطاع بحاجة إلى بناء 150 ألف وحدة سكنية بتكلفة تصل إلى نحو 15 مليار دولار، لافتًا إلى تعرض 350 ألف وحدة سكنية لدمار كلي أو جزئي، وبالتالي فإن الدعم المطلوب يعتبر في حده الأدنى كما سلف الذكر، كما تتفاوت التقديرات الصادرة عن الجهات المختلفة، والتي تشير إلى حاجة القطاع ما بين 41 و50 مليار دولار لإعادة الإعمار، بل وتصل تقديرات أخرى إلى نحو 100 مليار دولار.
وتعد الحرب الحالية على غزة هي الأكبر من حيث حجم التدمير والخسائر البشرية، وذلك قياسًا بالحروب الإسرائيلية السابقة على غزة، والتي كان أبرزها حرب 2014، حيث قدر خبراء المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار الأموال اللازمة لجهود إعادة الإعمار وقتها بنحو 8 مليار دولار، وذلك نتيجة للأعمال العسكرية التي دامت لمدة 51 يوم، ومع الأخذ في الاعتبار ارتفاع معدلات التضخم الناتجة عن ارتفاع أسعار السلع منذ عام 2014، حيث ارتفعت أسعار مواد البناء بنحو 50% بين عامي 2016 و2023 (وفقًا للرابطة الأمريكية الوطنية لبناة المنازل)، فإن غزة تحتاج إلى أضعاف ذلك المبلغ.
طرح عملية إعادة الإعمار:
إن النقاش حول عملية إعادة إعمار غزة في الوقت الراهن قد يراه البعض غير مجد في ضوء ضبابية مشهد الصراع الحالي، إلا أن وضع الخطوط الرئيسية لتلك العملية، وفي حالة غزة تحديدًا، يعد أمرًا مهمًا كأحد سبل مواجهة الكارثة الإنسانية التي يواجها سكان القطاع، والتي لن تنتظر مزيدًا من الوقت بعد انتهاء الحرب لتحديد ملامحها، كما أن هناك العديد من الصراعات حول العالم التي شهدت بحث جهود إعادة إعمار المناطق المتضررة حتى في حالة عدم انتهاء الأعمال العسكرية، يتمثل أخرها في الحرب الراهنة في أوكرانيا.
وتتبنى الولايات المتحدة التحركات الحالية بشأن إعادة الإعمار، وهو ما أتضح خلال المناقشات التي دارت في بداية عام 2024 أثناء جولة وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” للشرق الأوسط، والتي تناولت بحث البدء في التخطيط لإعادة إعمار غزة وإدارتها بمجرد انتهاء الحرب، ولكنه أشار على هامش مؤتمر “دافوس” الذي عُقد في يناير 2024، إلى أن العديد من الدول العربية ليست حريصة على المشاركة في إعادة إعمار غزة إذا كان القطاع الفلسطيني “سيُسوى بالأرض” مجددًا في بضعة أعوام، الأمر الذي يؤكد على أهمية التوصل لسلام دائم يضمن عدم تجدد الأعمال العسكرية في القطاع، وبضمانات فعالة من قوى المجتمع الدولي.
وستصبح حينها عملية إعادة الإعمار عملية مستدامة، تستمر لعدة سنوات من البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ليشمل ذك استحداث مؤسسات لدولة فلسطينية ذات سيادة، وطبقًا لمفهوم إعادة الإعمار، فإن تلك العملية تستهدف تفادي حدوث صدام عسكري جديد بين طرفي الصراع الرئيسيين، وذلك من خلال الدعم المستمر لإحلال السلام بينهما، مع العمل على تحقيق “سلام اقتصادي” يتجاوز الرؤية التوسعية لإسرائيل، وهو الأمر الذي ما تزال ترفضه تل أبيب، لذلك تبرز الحاجة إلى ممارسة المجتمع الدولي ضغوط على الجانب الإسرائيلي لتهيئة الفرصة لتحقيق سلام اقتصادي كأولوية، وأن تكون الأبعاد السياسية والعسكرية ركائز داعمة لتحقيق ذلك السلام.
فرص إنجاح الإعمار:
قد يدفع الضغط الدولي المستمر على إسرائيل إلى قبولها برؤية غير مبالغ فيها لعملية إعادة إعمار غزة بعد انتهاء الحرب، وبشروط محددة تسهم تل أبيب في وضعها، إلا أن تبني إسرائيل سياسة تدخلية للهيمنة على عملية إعادة الإعمار قد يقوّض من فاعلية تلك العملية، حيث سبق لها ممارسة هذا النهج خلال السنوات الماضية لإبطاء إعادة إعمار القطاع، وذلك من خلال التدخل في تحديد كمية مواد الإعمار، وقد تكون “آلية إعادة إعمار قطاع غزة” التي تم الاتفاق عليها بعد حرب 2014 إحدى الأدوات التي توفر لإسرائيل التحكم في مقدرات سكان القطاع، وبالتالي فإن البحث عن حلول عملية حقيقية يتطلب ابتداءً تجاوز تلك الآلية وأي آلية مماثلة قد يتم توظيفها لوضع قيود على دخول مواد البناء، مثل تعطيل إسرائيل حاليًا دخول المساعدات الإنسانية للقطاع.
وبالرغم من أهمية مساعدات المانحين لسكان غزة، ينبغي عدم اعتبارها بديلًا عن إنهاء القيود والحصار المفروض على غزة وكافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنه وفق المفاهيم الاقتصادية المتداولة، هناك حاجة لما يسمى “الحرية الاقتصادية”، والتي تركز بالأساس على ممارسة النشاط الاقتصادي بدون معوقات داخلية تحت مظلة الحقوق والحريات الممنوحة للأفراد، وبالطبع يجب أن ينصرف ذلك إلى التعامل مع الحصار الإسرائيلي، مع الأخذ في الاعتبار أن عدم تمتع الفلسطينيين بتلك الحقوق يعني تقويض التنمية والازدهار في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
إن حدوث حالة من التوافق داخل المجتمع الدولي يمثل عاملًا محفزًا لإنهاء الحرب والبدء في عملية إعادة الإعمار، لا سيما في ضوء الحاجة لتمويل من أكبر عدد ممكن من الدول في مواجهة ارتفاع تكلفة إعادة الإعمار بسبب التدمير الإسرائيلي الممنهج، وفي ضوء التطورات الاقتصادية العالمية الراهنة التي تدفع بالعديد من الدول لتقليص نفقاتها، خاصةً الموجهة لدعم سياستها الخارجية، وفي هذا الإطار فإنه من المهم أن يتحول بحث إعادة إعمار غزة من النقاش في الإطار المحدود الحالي إلى إطار أكثر اتساعًا، أسوةً بالعديد من المؤتمرات التي جرى عقدها سابقًا.
وختامًا، إن وضع عملية إعادة إعمار قطاع غزة على قائمة أولويات المجتمع الدولي في المرحلة الراهنة، ووضع تصور وإجراءات تنفيذية لها بل والبدء فيها إن أمكن، يعد أمرًا مهمًا للتأكيد على أن نموذج استخدام القوة والعدوان لتحقيق مصالح خاصة تتعارض مع القانون الدولي الإنساني (مثل التهجير القسري)، لا يُحقق المستهدف منه، بل ينشأ عنه ضرر مستدام للدول التي تشن ذلك العدوان، حتى لو كان الضرر دبلوماسيًا ومعنويًا على أقل تقدير، لذلك فإن المبادرة بطرح مؤتمر لتقييم الخسائر وإعادة إعمار غزة قد تكون الخطوة الأولى الصحيحة في مسار تحقيق “سلام اقتصادي” بالشرق الأوسط.