في إطار سلطتها بالأمر باتخاذ إجراءات أو تدابير وقتية أو عاجلة، تراها ضرورية ولازمة ولا تحتمل التأجيل حتى الانتهاء من الحكم الموضوعي في القضية المطروحة، والذي قد يستغرق حتى صدوره سنوات طويلة، وذلك إعمالًا للمادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة، والتي أعطت المحكمة الحق في أن تبين “إذا رأت أن الظروف تتطلب ذلك، التدابير المؤقتة التي يتعين اتخاذها لضمان الحقوق الخاصة بكل طرف”، مع الإبلاغ الفوري بالتدابير المقترحة إلى الأطراف ومجلس الأمن في انتظار الحكم النهائي. أصدرت محكمة العدل الدولية في 26 يناير الجاري قرارًا ابتدائيا طارئًا ضد إسرائيل في الدعوي القضائية التي أقامتها جنوب إفريقيا ضدها، متهمة إياها بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1946، وذلك بمناسبة عدوانها الغاشم على غزة.
ويتضمن القرار المشار إليه اتخاذ جميع التدابير لمنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية (وفقًا لتعريف جريمة الإبادة الجماعية كما ورد في الاتفاقية)، وضمان عدم قيام الجيش الإسرائيلي بأي أعمال إبادة، ومنع ومعاقبة أي تصريحات أو تعليقات عامة يمكن أن تحرض على ارتكاب إبادة جماعية في غزة، واتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع، وعدم التخلص من أي دليل يمكن أن يستخدم في القضية المرفوعة ضد إسرائيل، وتقديم تقرير للمحكمة خلال شهر بمدى تطبيقها لهذه التدابير والإجراءات.
وعلى الرغم من عدم إصدار المحكمة أمرًا صريحًا ومباشرًا بوقف إطلاق النار، فإن التدابير والإجراءات التي أمرت بها تفترض ضمنًا وقفًا لإطلاق النار، وإلا فقدت معناها.
والحق أن القيمة القانونية لقرار المحكمة هذا إنما تنبع من كونه قرارًا قضائيًا نهائيًا لا يجوز الطعن عليه، شأنه في هذا شأن الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة العدل الدولية وفقًا للمادة 60 من نظامها الأساسي. فضلًا عن كونه ملزمًا باعتبار أن المحكمة تستمد ولايتها في شأنه من نص الفقرة الأولى من المادة 36 من نظامها الأساسي، التي قضت بأن تشمل ولاية المحكمة جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق الأمم المتحدة أو في المعاهدات والاتفاقيات المعمول بها. وقد تقرر اختصاص المحكمة في القضية محل النظر بنص المادة 9 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فضلًا عن إعلان إسرائيل، عند انضمامها إلى الاتفاقية، قبولها لاختصاص المحكمة في شأنها.
وإعمالًا للمادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة سالفة الإشارة، فإنه يتعين على الأمين العام للأمم المتحدة إبلاغ مجلس الأمن بالتدابير المؤقتة التي أمرت بها.
وإذا كانت الفقرة الثانية من المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة قد خوّلت مجلس الأمن، حال امتناع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، إذا رأي ضرورة لذلك، أن يقدم توصياته، أو يصدر قرارًا بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم. وهو ما قد يفهم منه ضمنًا أن توصيات مجلس الأمن أو قراراته في هذا الصدد تقتصر فقط على أحكام المحكمة دون قراراتها بالتدابير المؤقتة، وإن استثناء هذه التدابير من سلطة المجلس في التوصية أو اتخاذ القرار يفقد هذه التدابير كل قيمة ومعنى إذا لم يقم الطرف المخاطب بتنفيذها من تلقاء نفسه، أو تم إجباره بقرار من مجلس الأمن على التنفيذ.
وعلى هذا فإن قيام الأمين العام بإخطار مجلس الأمن بالتدابير التي أمرت بها المحكمة إنما يهدف إلى دفع إسرائيل إلى تنفيذها من تلقاء نفسها، أو إجبارها على هذا بقرار من المجلس. وإن كان من المتوقع أن تحول الولايات المتحدة عبر استخدامها لحق النقض “الفيتو” دون إصداره لقرار ضد إسرائيل في هذا الصدد، حيث سارع المتحدث باسم خارجيتها إلى التصريح بأن بلاده لا ترى أعمال إبادة جماعية فيما يحدث في غزة.
وهنا فقد يكون البديل هو اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، استنادًا إلى قرار الاتحاد من أجل السلام رقم 377 لسنة 1950، مع مراعاة أن ما قد تصدره الجمعية العامة هنا بأغلبية الثلثين سيكون توصية غير ملزمة، وإن كانت تشكل ضغطًا أدبيًا وأخلاقيًا كبيرًا على إسرائيل والدول التي تُناصرها.