أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي في 25 يناير الماضي إنهاء اتفاق السلام والمصالحة الذي رعته الجزائر في عام 2015، وقد أرجع المجلس سبب ذلك إلى التغير في مواقف بعض جماعات المعارضة الموقعة عليه “الحركات الأزوادية المسلحة”، بالإضافة إلى ذلك أعلن المجلس عن تشكيل لجنة لتنظيم حوار سلام وطني داخلي مع القوى الموجودة في الشمال، الأمر الذي يثير المخاوف بشأن مآلات تجدد التوتر في العلاقات بين الجزائر ومالي.
تهدئة حذرة:
شهدت العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومالي تهدئة نسبية بعدما سعت الجزائر لتجاوز فرص التصعيد السياسي مع مالي، حرصًا منها على مواصلة التنسيق لتحقيق الاستقرار داخل المنطقة الحدودية المشتركة للبلدين، حيث استأنفت الخارجية الجزائرية من جانب واحد المهام الرسمية لسفيرها في مالي “الحواس رياش” في 5 يناير الماضي، وذلك بعد أيام من تبادل البلدين استدعاء سفيريهما في ديسمبر الماضي، إثر احتجاج مالي على تحركات جزائرية على صعيد وساطتها المعهودة منذ سنوات بين أطراف النزاع حول إقليم شمال مالي بين الجيش المالي وحركات المعارضة الأزوادية.
وعلى الجانب الآخر، لم تُقرر مالي بعد موعدًا لعودة سفيرها إلى الجزائر “ماهامان أمادو مايغا”، الأمر الذي أثار تكهنات بأن التوتر سيكون سيد الموقف في العلاقات بين البلدين، لا سيما أن مالي قد انتقدت عقد الجزائر اجتماعات رفيعة المستوى مع ممثلين عن الحركات الأزوادية المعارضة، منهم: الإمام “محمود ديكو” المعروف بخلافه العلني مع المجلس العسكري الحاكم في مالي، وذلك بدعوى أنه من أكثر النخب التي يتجاوز تأثيرها المجال الديني، وهو ما اعتبرته مالي تدخلًا في شئونها، مما دفع وزير خارجية مالي “عبد الله ديوب” إلى استدعاء سفير الجزائر للاحتجاج وذلك في 20 ديسمبر الماضي.
تريث جزائري:
قابلت الجزائر الموقف المتأزم في علاقتها الدبلوماسية مع مالي بالتأكيد على أن تحركاتها تأتي في إطار دعم اتفاق المصالحة، لا سيما أن الجزائر تهتم بالترويج لنفسها باعتبارها فاعل مؤثر في عمليات الوساطة وإحلال السلام والاستقرار إقليميًا، سواء في مالي أم غيرها من دول الساحل والصحراء، وتتخوف الجزائر من التداعيات المحتملة لانهيار الاتفاق المذكور، إلا أن الجزائر لم تُخف الحديث حول السيناريوهات التي ربما حكمت ملابسات التوتر في العلاقات مع مالي، إذ رجحت إمكانية تدخل أطراف إقليمية (لم تسمها)، أو أن السلطة في باماكو ترغب في تشتيت الانتباه عن أزمات الداخل، عبر افتعال أزمات في الخارج.
وساعد على تهدئة الأجواء خروج محمود ديكو لتفسير فحوى زيارته إلى الجزائر، وهو أن الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” يسعى لإحياء مفاوضات السلام بين السلطة المالية وحركات الأزواد، فضلًا عن مشاركته في جهود تنشيط العمل الدعوي داخل “جامع الجزائر الأعظم”، يُضاف إلى ذلك الوساطة النيجرية المحتملة بين مالي والجزائر، حيث يُرجح أن وزير خارجية النيجر “باكاري ياوو سانجاري” قد سارع بالتوسط بين البلدين، وذلك بعد يومين من بروز مؤشرات التوتر بينهما، مع حرص سانجاري على الإشادة بدور الجزائر الإقليمي في دعم الخروج من الأزمات داخل دول الساحل والصحراء.
عوامل استمرار التوتر:
من المرجح أن يظل التوتر هو السمة السائدة في العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومالي، ويتأسس ذلك على ما يلي:
1.إصرار مالي على توصيف التحركات الجزائرية بالعدائية علمًا بأن الجزائر تُعتبر وسيطًا معترف به من قبل مالي والحركات الأزوادية السياسية والمسلحة منذ التوصل لاتفاق السلام والمصالحة في عام 2015، والذي استهدف التزام الأطراف بمكافحة الإرهاب، ومن ثم فقد عقدت الجزائر لقاءات مختلفة معهم لإعادة الاستقرار، لكن لم تقابل مالي بادرة حسن النوايا التي اتخذتها الجزائر حيالها بإعادة السفير، بينما عمدت باماكو إلى الإبقاء على سفيرها لديها، ورفضت – دون إعلان – إعادته إلى الجزائر لمتابعة مهامه مجدداً.
2.محاولة السلطة الحاكمة في مالي تحديد آليات سياستها الخارجية الجديدة تجاه سبل تحقيق الاستقرار على حدودها وفي محيطها الإقليمي، من خلال انسحابها من “القوة الإقليمية المناهضة للإرهاب” لتحالف الساحل والصحراء في مايو 2022، ثم السعي لإثبات أهمية حلفها الدفاعي الجديد مع كل من النيجر وبوركينافاسو فيما بات يُعرف “ليبتاكو – غورما”، والذي يشير إلى منطقة المثلث الحدودي المشترك بين البلدان الثلاثة، والذي يستهدف تعزيز التعاون الأمني والعسكري بينهم في مجالات مكافحة التهديدات الإرهابية ومواجهة محاولات التدخل العسكري الخارجي لإسقاط الحكم في النيجر أو أي من أعضاء الحلف.
3.تطلع السلطة الحاكمة في مالي – وكذا النيجر وبوركينافاسو – لتعزيز علاقاتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية مع روسيا، والتي دعمت الحكومة المركزية في مالي منذ سنوات في مكافحة الإرهاب، بجانب العمل في مجال التنقيب عن المعادن.
4.تغيير خريطة الاستحواذ والسيطرة بإقليم شمال مالي المُحاذي للحدود مع الجزائر – والذي تنشط فيه الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيمي داعش والقاعدة – وتبني مقاربات لتأكيد وحفظ السيادة الوطنية، منها ما يتعلق بمحاولة إنهاء الوجود الأجنبي داخل أرضيها، الأمر الذي امتد ليشمل الشركات الفرنسية العاملة في مجالات التنقيب عن الثروات النفطية والمعدنية، وكذلك إنهاء مهام البعثة الأممية بمالي (مينوسما)، بل ووصل الأمر إلى إلغاء عدد من الاتفاقيات الدفاعية مع الغرب[1]، وقد توالى انسحاب القوات الغربية من مالي، حيث أعلنت ألمانيا سحب قواتها من مهمة التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي (تاكوبا)، كما أعلنت فرنسا هي الأخرى سحب قواتها، فيما أعاد الجيش المالي السيطرة على عدد من المدن في الشمال، والتي كانت تستحوذ عليها الأزواد، بجانب مقار البعثة الأممية.
خلاصة القول، إن توتر علاقات الجزائر ومالي يشكل جانبًا من التحولات الجيوستراتيجية في المنطقة، وذلك بعد انحصار النفوذ الفرنسي، وتطلع قوى دولية أخرى مثل إيطاليا وروسيا لملء الفراغ الحاصل، وفق مقاربات أمنية وتنموية، وهو ما دفع مالي لتوسيع نطاق سيطرتها، ومحاولة التملص من أي التزامات فرضها اتفاق السلام مع الحركات الأزوادية، إلا أن أي خطوات ستتخذها السلطات في مالي تؤثر على المصالح الاستراتيجية للجزائر، أو تصاعد مخاطر عدم الاستقرار في المنطقة الحدودية بين مالي والجزائر، ستدفع الأخيرة نحو تبني المزيد من الخطوات لتدعيم شراكاتها مع جوارها الإقليمي، في محاولة استباقية لتقويض أي مخاطر على حدودها.
[1] ومن بين هذه الاتفاقيات كل من الاتفاق الخاص بالقوات الفرنسية التي تمركزت في مالي، والبروتوكول الإضافي المنظم لعمل القوات الخاصة الأوروبية ضمن عملية “تاكوبا” لمكافحة الإرهاب في مالي، واتفاقية التعاون الدفاعي المشتركة بين مالي وفرنسا.