تعتبر سندات وأذون الخزانة الأمريكية استثمارًا منخفض المخاطر، لأنها مدعومة من حكومة الولايات المتحدة، وعلى الرغم من ذلك، قامت العديد من الدول بالتخارج بشكل ملحوظ منها لأسباب اقتصادية وسياسية، خاصةً الدول التي تمتلك استثمارات كبيرة في الولايات المتحدة، الأمر الذي يسلط الضوء على التخوف من حدوث صدمة في سوق الدين الأمريكي، والذي سيرتد بدوره على الاقتصاد الداخلي الأمريكي والعالمي.
محددات الطلب:
بلغ إجمالي قيمة سندات الخزانة الأمريكية حوالي 7.3 تريليون دولار في نهاية عام 2022 (وفقًا لوزارة الخزانة الأمريكية)، وهو ما يمثل حوالي 23.6% من إجمالي الدين العام الأمريكي البالغ نحو 30.985 تريليون دولار في العام نفسه، وتمثل قيمة السندات الأمريكية حوالي 8% من إجمالي الدين العام العالمي البالغ نحو 92 تريليون دولار في عام 2022 (وفقًا لبيانات منظمة الأونكتاد)[1]، ومع ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي، ارتفع حجم الاستحواذات على تلك السندات بنسبة 7.6% في نوفمبر 2023 مقابل نفس الشهر من عام 2022، على اعتبار أنها من الملاذات الآمنة.
يعتبر ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم في الولايات المتحدة وسط مخاوف حدوث ركود وصدمات بالسوق الأمريكي (هذا بخلاف ما تمر به الولايات المتحدة من انقسام سياسي وحزبي في الوقت الحالي) من أبرز العوامل التي أثرت في سوق سندات الخزانة الأمريكية في عام 2023، ومن المرجح أن يستمر تأثيرها في عام 2024، لا سيما مع استمرار خطط الاقتراض الضخمة التي تقوم بها الحكومة الأمريكية[2]، والرامية لسد العجز الكبير في الموازنة، والتي تؤدي إلى هبوط قيمة سندات الخزانة الأمريكية، وبالتبعية ارتفاع عوائدها وزيادة الإقبال عليها من بعض الدول.
وتلجأ بعض الدول من أجل الحفاظ على قيمة احتياطاتها من الدولار إلى تحويل الدولارات الأمريكية إلى ديون أمريكية للحصول على كسب متواضع من الفوائد، ومع تزايد المخاوف بشأن تفاقم المخاطر الجيوسياسية العالمية، فقد أدى ذلك إلى زيادة إقبال المستثمرين على شراء سندات الخزانة الأمريكية في أسواق المال العالمية لاعتبارها من الملاذات الآمنة، وفي نفس الوقت، قامت بعض الدول بتقليص وسحب استثماراتها من سوق سندات الخزانة الأمريكية، خاصةً الدول التي تمتلك استثمارات كبيرة في الولايات المتحدة، أو التي تتخوف من استخدام واشنطن أداة استثمارات السندات كوسيلة للضغط عليها، لا سيما في ضوء العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على بعض الدول.
تراجع الاستحواذات:
اليابان: سجلت استحواذات اليابان من سندات الخزانة الأمريكية نحو 1.128 تريليون دولار في نوفمبر 2023، مقابل 1.299 تريليون دولار في يناير 2022، بمعدل انخفاض نحو 15.1%[3]، وذلك بسبب سعي اليابان إلى تعزيز الين الياباني بعد تراجع قيمته في السوق العالمي، نظرًا لتراجع الطلب عليه في مقابل تزايد الطلب علي الدولار لشراء السندات الأمريكية[4]، وبالتالي اتجهت طوكيو إلى تقليص استثماراتها في السندات الأمريكية لصالح عملتها، إذ تشير التقديرات إلى أن الين الياباني قد فقد أمام الدولار أكثر من 23% من قيمته منذ أن بدأ البنك الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة بشكل سريع منذ بداية عام 2022 لمكافحة التضخم المرتفع (وفقا لمؤشر نيكاي).
الصين: تعد الصين ثاني أكبر مستثمر أجنبي في السندات الأمريكية بعد اليابان (وفق بيانات نوفمبر 2023)، ومع تزايد التوترات مع واشنطن، والتراجع في بعض مؤشرات الاقتصاد الصيني، وبالتالي الحاجة إلى موارد مالية لدعم الاقتصاد، اتجهت بكين لتقليل استثماراتها تدريجيًا في سندات الخزانة الأمريكية والحد من تعرضها للأخطار التي تهدد الدين الأمريكي، فضلًا عن شكوى بعض الشركات الصينية من القيود المالية التي تفرضها الولايات المتحدة، بما يبرز البعد السياسي في قرارات الصين تجاه الاستثمار في السندات الأمريكية، ونظرًا لحجم الممتلكات الصينية من الديون الأمريكية، فإن مبيعات بكين من السندات تستهدف دعم عملتها المحلية، لا سيما بعد ارتفاع وتيرة تخارج رؤوس الأموال بنحو 50 مليار دولار شهريًا من الصين العام الماضي، ومع ذلك، فإن هذه الخطوات تهدد بزعزعة سوق السندات الأمريكية [5].
ومن المعروف أن بكين تقلصت حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية حتى وصلت إلى 782 مليار دولار في نوفمبر 2023، بمعدل انخفاض نحو 24.35% بعد أن كسرت حاجز التريليون دولار في يناير2022[6]، حيث بدأت الصين حديثُا في تحويل استثماراتها من السندات إلى الاستثمار في الذهب، إذ تسعي للتحوط ضد التضخم وتقليل اعتمادها على الدولار، وبالتالي تنظر للذهب باعتباره استثمارًا مستقرًا نسبيًا، وبرزت الصين كأكبر مشتري للذهب عام 2023، حيث أشار بنك الشعبي الصيني (البنك المركزي) إلى شراء 181 طنًا عام 2023، مما رفع حيازات الذهب إلى 4% من احتياطاته[7].
روسيا: وصل الدين الأمريكي الذي تحتفظ به روسيا إلى مستوي قياسي بلغ 176.3 مليار دولار في أكتوبر 2010، مما جعل روسيا واحدة من أكبر 10 مستثمرين في سندات الخزانة الأمريكية حينها، وبعد تزايد التوترات مع الولايات المتحدة، وتحديدًا منذ عام 2017، بدأت روسيا في تسريع مبيعاتها من سندات الخزانة الأمريكية، حيث خفضت روسيا حيازتها من تلك السندات حتى وصلت إلى 8 مليار دولار، بنسبة انخفاض قُدرت بنحو 95%، بحلول منتصف عام 2018، كما تخلت روسيا بشكل شبه كامل عن سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل في فبراير 2021[8].
الدول العربية: اتجهت بعض الدول العربية خاصةً دول مجلس التعاون الخليجي إلى الاستثمار في سوق المال العالمي لا سيما سندات الخزانة الأمريكية وذلك في الفترة التي سبقت جائحة كورونا، ولكن استثماراتها قد انخفضت بشكل حاد في الأشهر الأولى من عام 2020، لتستقر عند مستوى أقل في السنوات التالية، إذ أنه في الفترة من يناير 2022 إلى يناير 2023، انخفضت استثمارات السعودية في سندات الخزانة الأمريكية بنسبة 7% لتسجل 111 مليار دولار في يناير 2023، وانخفضت استثمارات الكويت بنسبة 14.4% لتسجل 43.3 مليار دولار في يناير 2023، بينما ارتفعت استثمارات الإمارات بنسبة 44.5% لتسجل 64.9 مليار دولار في يناير 2023[9]، ويُشار إلى أن دول الخليج قد خسرت مليارات الدولارات في الأزمة المالية العالمية عام 2008 جراء استثمارها في أسواق المال الغربية (وفق بعض التقديرات)، مما يُبرر تقليص استثماراتها في السندات الأمريكية تحسبًا من حدوث سيناريو مماثل.
وختامًا، تتباين التوقعات حول مستقبل الاقتصاد الأمريكي، وهو ما يؤثر علي عملية التخارج أو الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية، فمن ناحية، تتزايد الشكوك حول مصير الدولار بوصفه عملة عالمية رئيسية، مما يقلص من جاذبية الاستثمار في السندات الأمريكية (نسبيًا)، وعلى جانب أخر تستمر الدول في الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية خاصةً بعد تصريحات وكالة “موديز” في مايو 2023 بأن العملة الخضراء ستستمر في الحفاظ علي هيمنتها علي الرغم من شكوك ومخاوف دول العالم، حيث تتميز السندات الأمريكية بالجاذبية لانخفاض مستوى مخاطرة عدم السداد مما يزيد مستوى الإقبال عليها، خاصةً من الدول الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا ولوكسمبورج، بينما تتجه الصين واليابان وبعض الدول الخليجية إلى تقليص استثماراتها.
[1] UNCTAD Official Website: https://unctad.org/publication/world-of-debt
[2] سجل الدين العام للحكومة الأمريكية الفيدرالية 34 تريليون دولار في مطلع عام 2024 (وفقًا لوزارة الخزانة الأمريكية)، ارتفاعًا من 23.4 تريليون دولار في فبراير 2020، بنسبة ارتفاع 45% (وفق بيانات لجنة الميزانية الفيدرالية)، مما يفاقم الأعباء على ميزانية الحكومة الأمريكية خلال السنوات المقبلة.
[3] US Department of Treasury, Available at https://ticdata.treasury.gov/resource-center/data-chart-center/tic/Documents/slt_table5.html
[4] منذ التعديل الأخير لسياسة البنك الياباني في 28 يوليو 2023، ارتفعت عائدات سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات بمقدار 100 نقطة أساس، في حين ارتفعت عائدات سندات الحكومة اليابانية لأجل 10 سنوات بنحو 50 نقطة أساس، مما أدى إلى تقليل جاذبية شراء السندات اليابانية.
[5] Keith Bradsher and Joy Dong, “Gold Bars and Tokyo Apartments: How Money Is Flowing Out of China”, The New York Times. 28 November 2023. Available at https://www.nytimes.com/2023/11/28/business/china-money-overseas.html
[6]US Department of Treasury, Available at https://ticdata.treasury.gov/resource-center/data-chart-center/tic/Documents/slt_table5.html
[7] Harry Dempsey, “China leads record central bank gold buying in first nine months of year”. Financial Times. 31 October 2023. Available at https://www.ft.com/content/abc39431-1755-4906-b11e-ee9e53baadfe
[8]” Dedollarization as a Direction of Russia’s Financial Policy in Current Conditions”, National Center for Biotechnology Information. 4 April 2023. Available at https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC10072797/
[9] US Department of Treasury, Available at https://ticdata.treasury.gov/Publish/mfh.txt