مع قرب مرور عامين على بدء الحرب الروسية الأوكرانية، تُجرى خلال شهر فبراير 2024 وفي مناطق عدة من دول شرق أوروبا (إستونيا – لاتفيا – لتوانيا – بولندا – رومانيا) مناورات مشتركة للدول الأعضاء بحلف شمال الأطلنطي الـ 31، بمشاركة الأفرع الرئيسية لقوات تلك الدول (برية – جوية – بحرية – د/جو) كتدريبات معركة الأسلحة المشتركة، تحت مسمى “المدافع الصامد 2024” ، كما يُشارك فيها حوالي 90 ألف فرد، وتتضمن استخدام 1100 عربة قتال رئيسية مدرعة، وعدد 50 قطعة بحرية مختلفة الأغراض والطرازات، منها حاملتي طائرات أمريكية وبريطانية، بالإضافة إلى 80 طائرة مقاتلة مختلفة الطرازات والأنواع، وتستمر تلك التدريبات إلى شهر مايو 2024، حيث تعتبر من أكبر التدريبات التي ينظمها ويجريها الحلف منذ عام 1988.
كما يجرى بالتوازي في نفس إطار تلك المناورات سلسلة مناورات أصغر منفردة بقارة أمريكا الشمالية بمشاركة قوات من كندا والولايات المتحدة، لتنفيذ رماية بالمدفعية ولمشاة القوات البرية، كما وتشمل تدريبات للطائرات المقاتلة على مناورات الاعتراض والقذف وسباق الضاحية، وكلها مصممة لمحاكاة الرد على هجوم من قبل خصم محتمل، كما من المقرر أن تتضمن المناورات تدريبًا فعليًا على نقل تلك القوات التي نفذت التمرينات إلى شرق أوروبا، وصولًا إلى الخاصرة الشرقية للناتو قرب الحدود الروسية.
ويستهدف الحلف من وراء هذه المناورات استعراض واختبار قدراته العسكرية واللوجستية على تعزيز الأنشطة الدفاعية بين ضفتيه الأطلنطية “الأوروبية والأمريكية”، والتنسيق فيما بينهما من خلال تحريك ونقل قوات بمعداتها وأسلحتها من القواعد الجوية والبحرية الكندية والأمريكية إلى أوروبا، في عمليات تحريك ونقل قوات بأسلحة ومعدات، لم تحدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ويستهدف أيضًا تدريب مراكز القيادة والسيطرة للوحدات المشاركة على التنسيق المشترك بينها على مهام وواجبات الدفاع والتصدي للتهديدات والعدائيات المحتملة للضفة الشرقية للحلف في أوروبا من جانب، ومن ثم التحول المحتمل لمهام الهجوم لدرء هذه التهديدات من جانب أخر. فضلًا عن استخدام مسرح العمليات الفعلي المحتمل للتدريب على الأرض (دول شرق أوروبا كمنطقة تهديدات وعدائيات متوقعة من قيادة الحلف) لاختبار ورفع قدرات قوات الدول الأعضاء، خاصةً القوات البرية على المواجهات والاشتباكات الفعلية لمواجهة خصمها التقليدي على الأرض (روسيا – روسيا البيضاء).
يُضاف إلى ذلك رغبة الناتو في اختبار دفاعاته، لا سيما أن هناك قوات للحلف لم تُجر تدريبات في أراضي القارة الأوروبية لبعض دول التحالف، إلى جانب اختبار قدرة استجابة قوات الحلف للوضع العسكري المتصاعد على جناحه الشرقي، والمتمثل في استمرار الحرب الروسية الأوكرانية للعام الثاني، وضعف القدرات العسكرية الأوكرانية وصعوبة تقدم وحسم قواتها البرية في الهجوم المضاد لها أمام القوات الروسية، فضلًا عن مواجهة أي تداعيات قد تنتج عن تلك الحرب على أراضي دول جوار أوكرانيا الأعضاء بالحلف (بولندا – رومانيا – لتوانيا)، والتي يعتبرها مناطق للصراع والاشتباك المحتمل مع روسيا.
وتركز تلك المناورات أيضًا على مواجهة التهديد من الخصوم المماثلين، وكذلك المنظمات الإرهابية، كما ستختبر قدرات الناتو عبر محاكاة سيناريو صراع ناشئ مع خصم مماثل، وستكون مصممة لمحاكاة الصدام مع تحالف وهمي يُسمى “أوكاسوس”[1]، ويشير ذلك إلى سعي الناتو للتكيف مع المشهد الأمني العالمي المتطور حاليًا، وهو أمر حاسم لأهمية الناتو وفعاليته في حماية أعضائه.
وجدير بالذكر أن هذه المناورات تأتي في ظل تمتع الحلف بوجود عسكري فعلي في شرق أوروبا، حيث تُظهر خرائط الانتشار العسكري وأشكاله في هذه المنطقة أن بولندا تخصص للحلف قوات يُقدر تعدادها بحوالي 120 ألف جندي، ويتمركز فيها قوة عسكرية تتكون من حوالي 10500 فرد وتتشكل من قوات برية وجوية من دول التحالف (الولايات المتحدة – بريطانيا – كرواتيا – بلجيكا)، وذلك تحت قيادة عسكرية أمريكية، فيما تخصص رومانيا للحلف قوات يقدر تعدادها بحوالي 76 ألف جندي، ويتمركز فيها قوة عسكرية من الحلف تتشكل من حوالي 3300 فرد وتتشكل من قوات برية من دول التحالف (هولندا – الولايات المتحدة – إيطاليا – فرنسا – بلجيكا – بولندا)، وذلك تحت قيادة عسكرية هولندية.
أما بلغاريا فتخصص للحلف قوات يقدر تعدادها بحوالي 26 ألف جندي، ويتمركز فيها حوالي 900 فرد من القوات البرية الأمريكية، وتخصص المجر للحلف قوات يقدر تعدادها بحوالي 24 ألف جندي، ويتمركز فيها حوالي 800 فرد من القوات البرية الكرواتية، كما تخصص سلوفاكيا للحلف قوات يقدر تعدادها بحوالي 13 ألف جندي، ويتمركز فيها حوالي 2100 فرد، يشكلون قوات برية وقوات دفاع جوى من دول التحالف (التشيك – الولايات المتحدة – ألمانيا – هولندا – بولندا – سلوفينيا)، وذلك تحت قيادة عسكرية تشيكية.
وتخصص لتوانيا للحلف قوات يقدر تعدادها بحوالي 16800 جندي، ويتمركز فيها قوة عسكرية مشكلة من حوالي 4 ألاف فرد، تضم قوات برية وقوات جوية من دول التحالف (ألمانيا – الولايات المتحدة – التشيك – النرويج – أيسلندا – هولندا – بلجيكا – لوكسمبرج)، وذلك تحت قيادة عسكرية ألمانية، أما لا تفيا فتخصص للحلف قوات يقدر تعدادها بحوالي 7400 جندي، ويتمركز فيها حوالي 1700 فرد من قوات برية وجوية من دول التحالف (كندا – الولايات المتحدة – إيطاليا – إسبانيا – الجبل الاسود – ألبانيا – سلوفينيا – التشيك – سلوفاكيا)، وذلك تحت قيادة عسكرية كندية.
كما تخصص إستونيا للحلف قوات يقدر تعدادها بحوالي 7 ألاف جندي، ويتمركز فيها حوالي 2000 فرد من القوات البرية والجوية لدول التحالف (بريطانيا – الولايات المتحدة – فرنسا – أيسلندا – الدنمارك)، وذلك تحت قيادة عسكرية بريطانية، كما يتواجد بالشمال الأوروبي بالنرويج تمركزات لعدد حوالى 30 ألف جندي، يندرجون ضمن وحدات متنوعة من التخصصات والأسلحة المختلفة لقوات 27 دولة من الدول الأعضاء بالحلف، وتعمل تلك القوات تحت مسمى “قوات الاستجابة الباردة”، كقوات احتياطية عند الحاجة، وتقع تحت القيادة العسكرية المباشرة للحلف في بروكسل.
وتمثل تلك التدريبات اختبارًا على أرض الواقع للمفاهيم الاستراتيجية الجديدة التي أقرتها قمة الحلف في منتصف عام 2022، وذلك بعد الحرب في أوكرانيا، حيث تم تسليط الضوء حينها على التحولات في أولويات الحلف مع احتدام الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتوسع النفوذ الصيني في آسيا، وانتشار وتوسع الإرهاب الدولي، وكذا التغيرات المناخية، كما تم إقرار مفاهيم عسكرية عديدة تتصل بالاستراتيجية الدفاعية للحلف، منها تحديات الحرب الحديثة، والتي اهتمت مؤخرًا بالوسائل المحدثة المضادة للحرب الإلكترونية، مثل الإجراءات المتطورة للتشويش والإعاقة الإلكترونية والإشارية والرادارية، وكذا التوسع في استخدام الطائرات المسيرة في الهجوم والدفاع، وتجارب استخدام أشعة الليزر كسلاح للدفاع الجوي ضد الطائرات والصواريخ والمسيرات.
وختامًا، تجرى تلك المناورات الواسعة في الوقت الحرج الذي تتقدم فيه القوات الروسية على الأرض وتحت سيطرتها الكاملة معظم الأراضي شرق نهر دنيبرو، وفي ظل عدم قدرة القوات الأوكرانية على استعادة الأراضي التي سيطر عليها الجيش الروسي، وكذا فشل القوات الأوكرانية في تنفيذ هجومها المضاد منذ عدة شهور حتى الأن، وذلك رغم الدعم الواسع الذي قدمته الولايات المتحدة والدول الأوروبية لأوكرانيا، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وتشير طريقة صياغة تلك المناورات وخطواتها وإجراءاتها وقوامها إلى أنها قد تصبح جزءًا من استعدادات حلف الاطلنطي لسيناريو حدوث صدام عسكري مباشر تقليدي مع روسيا.
[1] أوكاسوس “Occāsus” في اللغة اللاتينية القديمة تعنى غروب الشمس، ومن الناحية المجازية، فإن الغروب يعني مرحلة الانحدار أو التراجع أو التضاؤل أو فقدان القوة أو الأهمية أو المرحلة النهائية أو نهاية الشيء، وتم اختيار هذا المسمى للعدو الافتراضي للمناورة بعناية وبقصد لتوضيح النهاية المجازية للعدائيات والتهديدات المحتملة للحلف في هذه المناورات.