قضت محكمة النقض العليا الإيطالية في 17 فبراير 2024 بأن تسليم اللاجئين والمهاجرين الذين يتم إنقاذهم في البحر المتوسط إلى ليبيا يعد “جريمة”، كونها ليست ملاذًا آمنًا للمهاجرين واللاجئين الذين يحاولون عبور شواطئ شمال أفريقيا قاصدين أوروبا، وهو قرار من شأنه وضع اتفاقيتي الهجرة الموقعتين بين الحكومة الإيطالية وليبيا في فبراير 2017 وتونس في 2023 على المحك، ويُقوض خطط حكومة رئيسة الوزراء “جورجيا ميلوني” للحد من تدفقات الهجرة القادمة من سواحل البلدين نحو أراضيها، كما يثير تساؤلات بشأن الخيارات المتاحة أمام ميلوني للتعامل مع الواقع الجديد الناجم عن الإجراء الصادر من أعلى سلطة قضائية في روما.
تفاصيل القرار القضائي:
قضت محكمة النقض العليا الإيطالية بإدانة نهائية لقائد السفينة الإيطالية الخاصة “آسو 28″، التي أنقذت في يوليو 2018 نحو 101 مهاجرًا في منتصف البحر المتوسط، وسلمتهم إلى خفر السواحل الليبي الذي أعادهم إلى ليبيا، وذلك بالسجن عامًا واحدًا، لارتكابه “جرائم إهمال ضد قُصّر أو ضعفاء”، والإنزال التعسفي من على متن سفينة، والإهمال المتعمد للأفراد. وقد بررت المحكمة قرارها بشأن الحادثة بأن “تسهيل اعتراض المهاجرين واللاجئين من قِبل خفر السواحل الليبي يندرج تحت جريمة التخلي عن القُصّر أو الأشخاص ذوي الإعاقة في حالة خطر والإنزال التعسفي والتخلي عن الأشخاص”، وهو ما يشكل انتهاكًا للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وهما وثيقتان لا تسمحان بإعادة المهاجرين قسرًا إلى بُلدان يواجهون فيها إساءة المعاملة.
كما يدين الحكم من يتعامل من خفر السواحل والقوات البحرية الإيطالية والبحارة مع خفر السواحل الليبي بتسليم المهاجرين إليه، وهي خطوة تعني وقف عمليات الإنقاذ من قبل القوات الإيطالية في البحر المتوسط، وتتيح المجال واسعًا أمام عمل المنظمات الإنسانية التي سيتعين عليها مضاعفة جهود البحث والإنقاذ في عرض البحر المتوسط. ويمثل هذا الحكم انتصارًا للمنظمات الإنسانية العاملة في مجال انقاذ المهاجرين، والتي ظلت علاقتها متوترة مع خفر السواحل الإيطالي على مدى السنوات الماضية، وتقدمت بدعاوى قضائية عديدة ضد سياسات الهجرة التي تنتهجها الحكومة الإيطالية، بسبب تعاونها مع خفر السواحل الليبي وإعادة المهاجرين إلى ليبيا، في خطوة ترى أنها تحرم المهاجرين واللاجئين القاصدين أوروبا من الحصول على الحماية التي تكفلها لهم المواثيق الدولية، وقد رحبت كل من منظمة العفو الدولية ومنظمة “ميدترينيا سيفنغ هيومنز” لإنقاذ المهاجرين بالقرار القضائي، واعتبرته “سابقة قضائية” تدعم مواقفها المناصرة للمهاجرين.
تداعيات محتملة:
قد يؤدي الحكم القضائي الصادر في روما إلى انعكاسات سلبية على سياسات الحكومة الإيطالية الرامية إلى مكافحة الهجرة، إذ يفتح الباب للطعن في الاتفاقيات التي وقعتها الحكومة الإيطالية مع ليبيا منذ 2017، وتونس في 2023، لا سيما من قوى المعارضة في إيطاليا التي تتهم الحكومة بالتخلي عن التزاماتها الأخلاقية والحقوقية مقابل تحقيق مكاسب أمنية وسياسية على حساب الفئات المستضعفة.
وتتمثل أبرز هذه الانعكاسات المحتملة فيما يلي:
- إلغاء الاتفاقيتين الموقعتين مع ليبيا وتونس بشأن الهجرة منذ 2017 و2023، ومذكرات التفاهم المكملة لها، والتي تتعهد بموجبها إيطاليا بتقديم المساعدة والدعم والتدريب لخفر السواحل في كلا البلدين مقابل إعادة المهاجرين والسيطرة على تدفقات الهجرة، وذلك لأن الحكم الإيطالي يشكك في السلامة القانونية لتلك الاتفاقيات.
- إضعاف موقف الحكومة الإيطالية التفاوضي بشأن قضية الهجرة، سواء على المستوى الأوروبي أو الأفريقي، حيث تمارس الحكومة الإيطالية ضغوطًا مكثفة في الأوساط الأوروبية من أجل حشد الدعم لاتفاق شامل بين أعضاء التكتل بشأن قضية الهجرة، التي ما تزال محل خلاف كبير بين الدول الأعضاء رغم محاولات التوافق بشأن تقاسم الأعباء، وهي عملية تحظى بالأولوية لدى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.
- إظهار التناقض بين السلطة القضائية وبراغماتية الحكومة الإيطالية في تجاهل حقوق الإنسان، لأجل إيقاف تدفق المهاجرين إليها، وذلك من خلال تمسك الأولى بتنفيذ القانون، وحرص الثانية على تغليب الاعتبارات الأمنية والسياسية على الجوانب القيمية.
- عرقلة خطط التدريب لخفر السواحل الليبي والتونسي، ودعمهما بالآليات والزوارق البحرية لمكافحة التهريب والتي تعهدت إيطاليا بتقديمهما للبلدين للمساعدة في الحد من تدفقات الهجرة، وهو ما قد يتسبب في وقف عمليات الاعتراض وزيادة تدفقات المهاجرين في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأزمات الاقتصادية في البلدان المصدرة للهجرة وبلدان العبور وفي مقدمتهم ليبيا وتونس.
- زيادة نفوذ المنظمات الإنسانية العاملة في مجال انقاذ المهاجرين في عرض البحر المتوسط، والتي يتعين عليها تعزيز قدراتها في عمليات البحث والإنقاذ وطلب التمويل المالي من المناحين سواء من الدول أو المنظمات الحكومية.
خيارات ميلوني للتعامل مع الوضع الجديد:
تظهر التحركات الأخيرة لوزير الداخلية “ماتيو بيانتيدوزي” إلى كل من الجزائر وتونس وليبيا خلال الشهر الجاري، أن الحكومة الإيطالية برئاسة ميلوني، كانت تتوقع القرار القضائي الذي يتعارض مع سياستها، ولذلك أوفدت مبكرًا وزير الداخلية للتباحث مع الجزائر وتونس وليبيا حول قضية الهجرة والعمليات الفنية المتعلقة بدعم الاتحاد الأوروبي لعمليات الترحيل الطوعي للمهاجرين واللاجئين إلى بلدانهم ودعم السلطات في تأمين الحدود، في مسعى لتعزيز أطر التعاون الثنائي حيالها بما يتوافق مع المستجدات، واستباقًا لأي خطوة قد تعرقل التقدم المحرز في هذا الملف، ومواصلة التعاون مع تلك الأطراف عبر البحث عن آليات جديدة تضمن استمرار العمل بالاتفاقيات السابقة، التي تحاجج الحكومة الإيطالية معارضيها بأنها أسهمت في الحد من تدفقات الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن أمام حكومة ميلوني ثلاثة خيارات رئيسية للتعامل مع الواقع الذي فرضته أعلى سلطة قضائية في البلاد بشأن الهجرة، وهي على النحو التالي:
- تغليب المصالح الوطنية على حقوق الإنسان، وهو ما يعني استمرار الحكومة في تبني نهجها المتشدد حيال قضية الهجرة والاستمرار في الاتفاقيات الموقعة مع ليبيا وتونس، للحفاظ على التقدم المحرزة بشأن السيطرة على تدفقات الهجرة.
- الالتزام بالحكم القضائي ووقف التعاون مع ليبيا وتونس في ملف الهجرة، وهو ما سيترتب عليه عدة تبعات أبرزها، زيادة تدفقات الهجرة وما يرتبط بها من مآسي جراء محاولات عبور البحر المتوسط، وتعزيز نفوذ المنظمات الإنسانية العاملة في مجال انقاذ المهاجرين.
- التحايل على القانون، والتعامل غير المباشر مع البحرية الليبية، سواء عبر وسطاء من الاتحاد الأوروبي مثل وكالة أمن الحدود “فرونتكس”، أو المنظمات الإنسانية التي سيتعين على الحكومة الإيطالية أن تتوصل لاتفاق معها، وهو ما قد يشمل تمويل عمليات هذه المنظمات في البحر المتوسط.