تتزايد الخسائر الاقتصادية الناتجة عن استمرار الصراعات والحروب الداخلية في دول منطقة الشرق الأوسط، أو مع اندلاع صراعات جديدة، وما لذلك من تأثير سلبي على المنطقة برمتها، مع الوضع في الاعتبار أن تأثير تلك الصراعات يتجاوز حدود المنطقة إلى الاقتصاد العالمي عبر عدة قنوات.
تأثيرات ممتدة:
يؤدي اندلاع الحروب والصراعات الداخلية إلى زيادة الخسائر الاقتصادية والمالية، وبما يتضمنه ذلك من خسائر للموارد الطبيعية والبشرية، إضافة إلى البنية التحتية، وهو ما يؤثر بالتبعية على الاقتصاد الإقليمي، وفي بعض الأحيان يمتد ذلك التأثير إلى الاقتصاد العالمي بنسب متفاوتة، حسب قوة الدولة ومدى انخراطها في الأنشطة الاستثمارية والتجارية مع الخارج، حيث لا تقتصر خسائر تلك الصراعات داخل حدود الدول، بل تمتد لدول الجوار في المقام الأول، ثم إلى النطاق الإقليمي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومنها إلى الأسواق العالمية.
تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق التي شهدت شتى أنواع الصراعات وبؤر التوتر خلال العقد الماضي، وهي أقل منطقة بين 9 مناطق حول العالم على مؤشر السلام العالمي وذلك لتسعة أعوام متتالية انتهت في 2022 (وفق تقرير مؤشر السلام العالمي الذي يعده معهد الاقتصاد والسلام “IEP”).
ولا تنعكس الصراعات في الشرق الأوسط على حجم الخسائر في كل دولة فحسب، بل إن الأثر ينعكس بشكل فوري على معدلات النمو الاقتصادي للنطاق الإقليمي الموجودة به، ويتبين ذلك بشكل واضح في خفض صندوق النقد الدولي للنمو المتوقع بمقدار 0.5% في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا في عام 2024 إلى 2.9% من 3.4% خلال توقعاته الصادرة فى شهر أكتوبر 2023.
وبالمثل حذر تقرير الآفاق الاقتصادية الصادر عن الصندوق في يناير 2024 من مواجهة المنطقة العديد من الضغوط التي تؤثر على نموها الاقتصادي، منها استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي تُعد صدمة جديدة لعدد من اقتصادات دول المنطقة التي تواجه تحديات بالفعل، وهو الأمر الذي يسفر عنه تزايد حالة عدم اليقين، وفي هذا الإطار لا يستبعد قيام الصندوق بخفض توقعاته لمعدل نمو المنطقة في إصداراته القادمة، ارتباطًا بمدى التحولات الميدانية، وتأجيج الصراعات واستمرارها في المنطقة، خاصةً مع توسع المواجهات العسكرية المحتملة (استهداف القوات الأمريكية في العراق وسوريا، واستهداف الحوثيين للسفن التجارية في البحر الأحمر، والمواجهات بين إسرائيل وحزب الله في لبنان..).
خسائر مالية:
من الصعوبة بمكان تقييم حجم الخسائر لكل صراع، لا سيما أن الصراعات تكون ممتدة وبها خسائر مادية وغير مادية، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى بعض التقديرات للخسائر المالية الناتجة عن اندلاع الصراعات الداخلية في بعض بلدان المنطقة منذ عام 2011، وذلك على النحو التالي:
- سوريا: قدر تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا”، أن قيمـة الدمار الشامل للبنى الأساسية بلغت بين عامي 2011 ونهاية عام 2018 نحو117.7 مليار دولار، فيما أشارت منظمة “الرؤية العالمية” (تعمل في مجال المساعدات الإنسانية)، أن الخسائر الاقتصادية للصراع في سوريا خلال الفترة 2011/2021 قد تجاوزت الـ 1.2 تريليون دولار، وأنه حتى في حالة توقف الصراع الداخلي، ستستمر الخسائر الناتجة عن الحرب حتى عام 2035.
- العراق: أعلن رئيس الوزراء العراقي الأسبق “حيدر العبادي” في نوفمبر 2017، أن ثلاث سنوات من الحرب ضد تنظيم “داعش” قد كبدت الاقتصاد العراقي أكثر من 100 مليار دولار، وكشفت وثيقة منشورة على موقع البنك الدولي أن العراق يحتاج إلى نحو 88 مليار دولار لمعالجة الخسائر الناتجة عن الدمار الذي أحدثه التنظيم[1].
- اليمن: قدرت شبكة الإغاثة الدوليةReliefWeb حجم الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي السنوي لليمن، خلال الفترة ما بين 2015 ونوفمبر 2021، بنحو 126 مليار دولار(وذلك عند مقارنة الوضع الحالي في اليمن بسيناريو خالٍ من الصراع)، وفي هذا الإطار ستدفع الخسائر الفعلية الناتجة عن الدمار في البنية التحتية وغيرها من الخسائر إلى مضاعفة ذلك الرقم، كما يتزايد ذلك الرقم مع استمرار الصراع فضلًا عن الاستهداف الأمريكي والبريطاني الأخير ضد الحوثيين بسبب تهديدهم الملاحة البحرية.
- ليبيا: قدرت الإسكوا التكلفة الإجمالية للصراع الداخلي في ليبيا منذ اندلاعه منذ 2011 حتى نهاية 2020 بنحو 576 مليار دولار أمريكي، متوقعة أن يسفر استمرار الصراع حتى عام 2025 إلى إضافة 462 مليار دولار، أي 80% من الكلفة في السنوات العشر الماضية، ليتجاوز إجمالي التكلفة التريليون دولار.
- السودان: قدر وزير المالية والتخطيط السوداني الأسبق “إبراهيم البدوي” (في سبتمبر 2023) الضرر في البنية التحتية في المناطق الثلاث الأكثر تضررًا من الحرب، وهي الخرطوم ودارفور وكردفان، بنحو 60 مليار دولار، بينما قدر “المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية” (IFPRI) خسارة الاقتصاد السوداني بنحو 5 مليار دولار منذ بدء المواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل حتى نهاية يونيو 2023، متوقعًا وصول تلك الخسائر إلى 15 مليار دولار إذا استمرت الحرب حتى نهاية 2023، وفي هذا الإطار يمكن القول أن تكلفة النزاع في الداخل السوداني، تتراوح ما بين 15 إلى 60 مليار دولار.
- الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: تفاوتت التقديرات بشأن الخسائر الناتجة عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، فهناك من قدر حاجة قطاع غزة لنحو 50 مليار دولار لإعادة الإعمار فقط، وبالنسبة لإسرائيل فقد ذكرت وزارة المالية في نوفمبر 2023 أن الخسارة الشهرية الناجمة عن الحرب على قطاع غزة تبلغ نحو 2.4 مليار دولار، وهو ما يعني أن إسرائيل قد خسرت 12 مليار دولار في 5 أشهر منذ بدء الحرب، مع الأخذ في الاعتبار أن الفترة منذ عام 2011 حتى 2023 شهدت مناوشات عسكرية بين الجانبين مما يعني أن تكلفة الصراع بينهما لا تقتصر على عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها. وقد قدرت مؤسسة “راند” حجم الفوائد أو الخسائر المترتبة على تطورات ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك وفق 5 سيناريوهات، الأول تعتمد تقديراته على الوصول لاتفاق لتأسيس دولة فلسطينية، وباقي السيناريوهات تبدأ بسيناريو وقف الحرب الراهنة وصولًا إلى سيناريو تزايد حدة التصعيد بين الجانبين، وبناء عليه سترتفع التكاليف الاقتصادية للصراع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لكل طرف في عام 2024، وهو ما يوضحه الشكل التالي:

يؤكد كل ما سبق تجاوز التكلفة الاقتصادية الناتجة عن الحروب الداخلية والصراعات في منطقة الشرق الأوسط حاجز 2 تريليون دولار منذ عام 2011، بما يعني خسارة اقتصادات دول المنطقة ذلك المبلغ، ولا يرتبط ذلك فقط ببؤر التوتر، بل بخسارة جميع دول المنطقة الفرص البديلة لاستغلال موارد تلك الدول وعلاقات التعاون البيني المهدرة (بنية أساسية واستثمارات، تجارة، نقل، طاقة..).
أعباء إضافية:
هناك أبعاد متعددة تزيد من الأعباء على اقتصادات دول المنطقة نتيجة استمرار الصراعات الراهنة، منها تزايد حالة عدم اليقين بشأن الاستقرار الإقليمي، خاصةً مع استمرار الحواجز التجارية الداخلية بين دولها بسبب الصراعات، مما يجعل البيئة الاقتصادية والأمنية طاردة للاستثمارات، ويكون مناخ الأعمال غير مستقر (بنسب متفاوتة بين الدول)، الأمر الذي يعكس تحمل الحكومات عبئًا أكبر لدعم اقتصاداتها في ضوء تردد المستثمرين الأجانب والقطاع الخاص في دخول أسواق المنطقة، وذلك لارتفاع نسبة المخاطر الناجمة عن وجود بؤر توتر في نفس النطاق الجغرافي.
وعلى جانب أخر، فإن الدول المنخرطة في صراعات الشرق الأوسط تتكلف بدورها رؤوس أموال كبيرة، بما يحرمها من توجيه تلك المخصصات لأغراض دعم اقتصاداتها المحلية وتعزيز التنمية، ويُشار في هذا الصدد إلى أن تكلفة التدخلات العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا خلال الفترة ما بين عامي 2003 و2023 تجاوزت 2.89 تريليون دولار (وفق تقديرات صادرة في مارس 2023 من “معهد واتسون للشئون الدولية والعامة” بجامعة “براون” الأمريكية).
كما أن هناك حاجة إلى ضخ مساعدات مالية كبيرة في بؤر التوتر لتلبية الحاجات الإنسانية والإغاثية، فعلى سبيل المثال، ذكرت “لجنة الإنقاذ الدولية” (IRC) في ديسمبر 2019، أن استمرار الحرب في اليمن لمدة 5 سنوات مقبلة ستكلف المجتمع الدولي تمويلًا لدعم الحاجات الإنسانية يقدر بنحو 29 مليار دولار، مما يعني اقتطاع جزء من الأموال الموجهة لتعزيز التنمية ومكافحة الفقر في العديد من البلدان، كما يقوض ذلك من عمليات إعادة الإعمار التي تتطلب مبالغ ضخمة.
وختامًا، تجدر الإشارة إلى عدم واقعية الطرح القائل باقتصار الخسائر الاقتصادية داخل بؤر الصراع، وتراجع تأثيرها على دول جوارها، وبشكل أقل كلما تباعدت المسافة عن تلك البؤر، ولعل الحرب الأوكرانية المثال الأبرز على ذلك الأمر، هذا وإن كان هناك تفاوتًا في حدة التأثير على بقاع العالم المختلفة، فإن استمرار الصراعات الداخلية في المناطق كافة وتحديدًا في الشرق الأوسط، قد تنعكس تكلفته الاقتصادية المتزايدة على الاقتصاد العالمي، نظرًا لموقعها وإمكاناتها المهدرة التي كانت قادرة على توفير العديد من الفرص الاقتصادية في العديد من المجالات.
[1] Iraq Reconstruction & Investments: https://documents1.worldbank.org/curated/en/846201597292562703/pdf/Iraq-Reconstruction-and-Investment.pdf