يعوق ثقل الديون عملية التنمية في دول العالم، حيث تتحول الديون إلى عبء كبير على الدول خاصةً البلدان النامية سواء منخفضة أو متوسطة الدخل، بسبب محدودية فرص حصولها على التمويل، وارتفاع تكاليف الاقتراض في ضوء انخفاض قيمة عملتها، ويؤدي ذلك لإضعاف قدرتها على مواجهة الصدمات الاقتصادية العالمية، وكذلك دعم التنمية والازدهار، حيث تواجه البلدان الاختيار الصعب بين خدمة ديونها، أو دعم اقتصادها، وتتزايد وطأة ملف الديون في ضوء أنه يعيش 3,3 مليار شخص في دول تنفق على أقساط الفائدة أكثر مما تنفقه على الخدمات الحيوية الأساسية كالصحة والتعليم (وفقًا لمنظمة الأونكتاد).
تطور الدين:
سجل إجمالي الدين العالمي بعد تفشي جائحة كورونا نحو 226 تريليون دولار في عام 2020[1]، وهو العام الذي دفع بعض الاقتصاديات نحو حالة من عدم الاستقرار، وأنهى سلسلة استمرت عقدين من التقدم العالمي للحد من الفقر، وفي عام 2022 ارتفع إجمالي الدين العالمي ليصل إلى 235 تريليون دولار، وهذا المستوى أعلى بمقدار 200 مليار دولار من مستواه في عام 2021[2]، وذلك بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والتي أثرت على أسعار السلع والوقود العالمية.
وبالنظر إلى البلدان الدول النامية، ارتفعت أرصدة الديون الخارجية لها بوتيرة أسرع من غيرها في السنوات الأخيرة، وذلك يعود لعدة أسباب على رأسها ارتفاع التكاليف المتزايدة للاقتراض، فضلًا عن ضعف عملاتها المحلية أمام الدولار، مما جعل عملية سداد ديونها أكثر صعوبة، فقد ارتفعت أرصدة الديون الخارجية للبلدان منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل من 6,9 تريليون دولار عام 2016 إلى نحو 9 تريليون دولار عام 2022، بارتفاع يُقدر بنحو 30,4%، لاسيما أن تلك البلدان أنفقت مستوى قياسي لخدمة ديونها العامة الخارجية في السنوات الأخيرة، مما أثار المخاوف إزاء عدم قدرة تلك الدول على سداد ديونها، خاصة الـ74 دولة الأكثر فقرًا في العالم، ويُشار في هذا الصدد إلى تطور إجمالي الديون الخارجية المستحقة على البلدان المنخفضة ومتوسطة الدخل (وفق تقارير الدين العالمي الصادرة عن البنك الدولي):
السنة | حجم الديون الخارجية (بالتريليون دولار) |
2016 | 6,9 |
2017 | 7,1 |
2018 | 7,8 |
2019 | 8,1 |
2020 | 8,7 |
2021 | 9,3 |
2022 | 9 |
يتضح من الجدول السابق أنه قبل عام 2018، تعرضت التدفقات المالية والتمويلات الممنوحة إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل لضغوط كبيرة نسبيًا لعدد من العوامل التي أثرت على الاقتصاد العالمي، منها ارتفاع قيمة الدولار، والتوترات التجارية، بشأن تباطؤ النمو وغيرها من العوامل، ومع ذلك لم تتسبب تلك العوامل بشكل كبير في تعرض تلك الدول لمخاطر عدم السداد والمديونية الضخمة، وفي عام 2019 أثرت مجموعة من العوامل الأخطر على الاقتصاد العالمي تتضمنت زيادة التوترات الجيوسياسية، واستمرار الحواجز التجارية، كما تأثرت آفاق النمو أيضًا بسبب النتائج الخاصة بكل بلد في العديد من الاقتصاديات الناشئة، كما أثر تزايد عدم اليقين بشأن سياسات التجارة الدولية وثقة المستثمرين.
قد يكون التحسن النسبي في أرصدة الديون الخارجية لبعض النامية في عام 2022، بسبب اتجاهها لجدولة ديونها لتفادى مخاطر الفائدة العالية حتى لا تعلق في أزمة ديون دون أمل في الخروج منها، وقد يكون اتجاهها لعقد مبادرات لمبادلة الديون بالاستثمارات المستدامة قد ساهم في التخفيف قليلًا من عبء ديونها الخارجية.
مخاوف متزايدة:
بلغ متوسط نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي في 28 دولة نامية على وجه التحديد نحو 75% في نهاية عام 2023، إذ زادت تكلفة اقتراضها بشكل ضخم على مدار العامين الماضيين من حيث مواجهتها أسعار فائدة عالية، وتشكل هذه الاقتصاديات 16% من سكان العالم، وعلى الرغم من ذلك يعود تجاهل محنتها بسبب أن نشاطها الاقتصادي لا يُشكل سوى 5% من الناتج العالمي وفقًا لتقديرات البنك الدولي[3]، وهو ما يجعل من السهل عدم التركيز على أزمة ديونها.
ومع إعلان بعض الدول عن عجزها عن سداد ديونها، فإن ذك يثير مشكلات اقتصادية، تتعلق بحرمانها من الوصول إلى سوق الدين العالمي لأكثر من عامين، وعدم إصدارها أي سندات دولية تقريبًا في تلك الفترة، ويفاقم الأزمة أن 11 اقتصادًا من تلك الدول (وفقًا للبنك الدولي)، تخلفت عن السداد منذ عام 2020، مع وجوب تسديدها مبالغ ضخمة، مثل إعلان سريلانكا تخلفها عن سداد ديونها الخارجية في أبريل 2022، كما أعلنت لبنان تخلفها عن سداد سندات دولية في مارس 2020.
ومع الانخفاض الكبير في التمويل المقدم من الدائنين من القطاع الخاص، تدخل البنك الدولي وبنوك التنمية متعددة الأطراف الأخرى للمساعدة في سد هذه الفجوة التمويلية[4]، والتي تسعى إلى تجنب الدولة الفقيرة أعباء مديونية تتعذر التعامل معها، ومن هذه المؤسسات: صندوق النقد الدولي، ومؤسسة التنمية الدولية IDA، ومؤسسة التمويل الدولية IFC، يضاف إلى ذلك “مبادرة تخفيف ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون – هيبيك”، وهي مبادرة مشتركة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
سيناريوهات متوقعة:
يعكس ما سبق وجود أزمة من المتوقع تفاقمها خلال السنوات المقبلة لتتحول إلى صدمة عالمية جديدة، وفي حال عدم القدرة على التعامل الاستباقي معها، فإنه يجب – على الأقل – ألا تقتصر المعالجة عبر إعادة تمويل الديون فحسب، لأن ذلك يعني تأجيل ظهور الصدمة، بل من المهم دعم اقتصادات تلك الدول لتصبح قادرة على توليد دخل بالعملات الأجنبية لسداد ديونها الخارجية، مع الوضع في الاعتبار أن عدم السداد سيكون تأثيره مزدوج، سواء على الدول المدينة أو الدول والجهات الدائنة.
ومن المهم إيجاد حلول للدول النامية خاصةً في ظل الظروف الراهنة، وما يمر به العالم من توترات جيوسياسية وتهديدات اقتصادية تزيد من ضغوطها المالية، لاسيما الدول الفقيرة في قارة أفريقيا، وتخوفًا من تكرار تجربة دول أمريكا اللاتينية.
ونعرض في هذا الإطار لبعض السيناريوهات لمستقبل ديون الدول النامية، وذلك كما يلي:
السيناريو الأول: يتطلب الأمر تعاونًا دوليًا فوريًا من خلال وسائل ومؤسسات دولية تدعم الدول المثقلة بالديون لتحقيق معدلات نمو اقتصادي تتفوق على معدلات المديونية لتخفيف أعبائها، ويُشار في هذا الصدد إلى المناقشات الجارية بين الولايات المتحدة والصين لوضع تدابير جديدة لمنع ظهور موجة من حالات التخلف عن سداد الديون السيادية، عن طريق طرح خطط لتخفيف العبء السنوي لخدمة الديون التي تزيد عن 400 مليار دولار على الدول الفقيرة، وزيادة التمويل المقدم من المؤسسات الدولية، فضلًا عن الدخول في محادثات رسمية بشأن هيكلة الديون مع الدائنين والمؤسسات المُقرضة، كما ينبغي استخدام تمويلات المؤسسات المُقرضة في تعزيز وتنمية مشروعات البنية التحتية التي تخدم القطاع الخاص وتحفز النمو.
السيناريو الثاني: يُلزم الدول المعنية بوجود وحدة لإدارة الدين العام وخاصة الدين الخارجي في الوزارات المالية، أو في البنوك المركزية بتلك الدول، لأنه في حالة عدم قدرتها على السداد، يؤدي ذلك إلى خفض تصنيفها، وتباعًا تتوقف الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تُضخ في تلك الدول، وهو ما يؤدي بدوره إلى مشاكل محورية في اقتصاداتها.
السيناريو الثالث: استمرار تصاعد أزمة الديون العالمية وتداعياتها بشكل يفوق معدلات نمو الاقتصاد العالمي، مما يزيد من العبء على الاقتصاد العالمي، خاصة مع استمرار التداعيات على الاقتصاد العالمي الناتجة عن التوترات الجيوسياسية بسبب التهديد الحوثي.
السيناريو الرابع: حدوث تباطؤ في معدلات نمو الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد، مما يدفع البنوك المركزية لخفض أسعار الفائدة، حيث أن أسعار الفائدة الحقيقية في الولايات المتحدة تعتبر معيار التكلفة الحقيقية للاقتراض عالميًا، وبالتالي قد تنخفض أعباء خدمة الدين على الدول النامية، وفي نفس الوقت قد تتجه رؤوس الأموال الساخنة من تلك الاقتصادات إلى البلدان النامية للاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة نسبيًا.
السيناريو الخامس: تبني سياسة الاستثمار مقابل الديون، من خلال توقيع اتفاقيات بموجبها مبادلة جزء من الديون المستحقة لدعم اقتصادات الدول المدينة في شكل استثمارات أو حتى مساعدات ومنح مالية، بهدف تخفيف عبء الديون الخارجية، وتحقيق التنمية المستدامة من خلال تمويل المشروعات ذات الأولوية، وقد بدأت بالفعل العديد بعض الدول بالربط بين العمل المناخي مقابل إسقاط جزء من الديون.
وختامًا، على الرغم من الجهود التي تبذلها المؤسسات الدولية في تخفيف أعباء الديون عن هذه الدول، ولكن المزيد من الدول النامية أصبحت أكثر عرضة للتعثر عن سداد دينها الخارجي، ومن الناحية الأخرى يمكن النظر في أن التوقعات الاقتصادية المستقبلية بشان الدور المحتمل للدول النامية في الاقتصاد العالمي، قد توفر فرصة لجذب الاستثمارات لتلك الدول في حالة استقرار اقتصاداتها، ويترتب على ذلك التزامها بالوفاء بسداد ديونها، لذلك أن الحلول متوفرة ويمكن تطبيقها إذا ما توفرت لدى الدول والجهات الدائنة رغبة في ذلك، مع تيقنها أن انتشار موجة التخلف عن السداد سيكون لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد العالمي بما ينعكس سلبًا على اقتصاداتها هي تحديدًا.
[1] Vitor Gaspar, Paulo Medas and Roberto Perrelli, “Global Debt Reaches a Record $226 Trillion”, IMF, 15 December 2021. available at https://www.imf.org/en/Blogs/Articles/2021/12/15/blog-global-debt-reaches-a-record-226-trillion
[2] فيتور غاسبار، وآخرون، “الدين العالمي يعاود الصعود مجددا”، صندوق النقد الدولي، 13 سبتمبر 2023. متاح على https://www.imf.org/ar/Blogs/Articles/2023/09/13/global-debt-is-returning-to-its-rising-trend
[3] فيليب كينورثي أيهان كوسى نيكيتا بيريفالوف، ” أزمة ديون صامتة تجتاح الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني الضعيف”. مدونات البنك الدولي. 8 فبراير 2024. متاح على: https://blogs.worldbank.org/ar/voices/azmt-dywn-samtt-tjtah-alaqtsadat-alnamyt-dhat-altsnyf-alaytmany-aldyf
[4] البنك الدولي، متاح على: https://www.albankaldawli.org/ar/news/press-release/2023/12/13/developing-countries-paid-record-443-5-billion-on-public-debt-in-2022