تقف منطقة الشرق الأوسط على حافة الهاوية منذ أن قررت إيران الرد على استهداف قنصليتها في دمشق من قبل إسرائيل، حيث وضعت خطوط حمراء جديدة لم يكن متعارف عليها بين الجانبين، فالحرب الأمنية كانت مفتوحة بينهما منذ سنوات، ولكن في صمت تام فيما عرف بحرب الظل، وعادة ما يأتي التجاوز من الجانب الإسرائيلي من خلال عمليات اغتيال مدروسة في إطار إقليمي ودولي مقبول.
ولكن مع أحداث السابع من أكتوبر وما ترتب عليها، قررت إسرائيل تقليص قدرات إيران بشكل ملحوظ في الميادين السورية واللبنانية بالتزامن مع الفلسطينية، وبناءً عليه، قامت إسرائيل بسلسة اغتيالات كبيرة لقادة الحرس الثوري في سوريا، وكتائب النخبة التابعة لحزب الله في لبنان، ما قد يؤدي على المدى القصير وفق تقديرات تل أبيب إلى إرباك الساحات القتالية التابعة لإيران، استعدادًا لحرب كبرى على أذرعها، تُخطط لها إسرائيل في المنطقة منذ سنوات، وكشفها معارضو رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” مؤخرًا.
في سياق متصل، يواجه نتانياهو – ممثلًا للدولة الإسرائيلية العميقة – عدة تحديات، لا يستطيع التخلص منها إلا بمشاركة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، ويبدو أن التوقيت الراهن وفق الأجندة الإسرائيلية هو التوقيت المثالي للقضاء على تحديات نتانياهو، المتمثلة في القنبلة النووية الإيرانية، والقدرات القتالية المتعاظمة لحزب الله اللبناني بعد خبرة الحرب السورية، والتمركزات الإيرانية في سوريا، وهذا يجب أن يحدث قبل انشغال الإدارة الأمريكية بالانتخابات الرئاسية أو إعادة اشعال الجبهة الأوكرانية وتوسعها، أو بدء الصين في غزو تايوان قريبًا، كما تتوقع أجهزة الاستخبارات الغربية.
على جانب أخر، زاد الضغط الأمريكي على نتانياهو بعد الانتهاكات الإسرائيلية التي ارتكبها في حق الشعب الفلسطيني بدعم أمريكي داخل قطاع غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر، والتي أضعفت بشكل ملحوظ من حظوظ الديمقراطيين في الداخل الأمريكي لصالح المرشح الجمهوري والرئيس السابق “دونالد ترامب”، بالإضافة إلى فشل مفاوضات الهدنة، والرفض المصري بشكل قاطع وحاسم تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها أو غزو رفح، وهو ما وضع نتانياهو في الزاوية، فلم يعد أمامه إلا تطبيق استراتيجية الهروب إلى الأمام، ومنها قصفت إسرائيل في سابقة من نوعها مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، مما أدى إلى فقدان هيبة النظام الإيراني في الداخل والخارج.
قررت إيران الرد، وأكدت أنه يتعلق فقط بقصف قنصليتها، نافيةً بشكل ضمني أن يكون له علاقة بأحداث غزة، وكان الرد وفق التصريحات الأمريكية متفقًا عليه، ولا يؤدي إلى حرب كبيرة، ومع ذلك، فقد شكل الرد الإيراني نقطة تحول خطيرة باحتمال تحول نمط الحرب بالوكالة بين طهران وتل أبيب إلى اشتباك عسكري مباشر، بالإضافة إلى إنقاذ وضع النظام الإيراني بين شعبه و مريديه، وأعطى الديمقراطيين شرعية لاستمرار الدعم المتدفق إلى تل أبيب بعد انتقادات لاذعة في الداخل والخارج، وهو ما استفادت منه إدارة الرئيس “جو بايدن” بشكل كبير.
ومن جانب أخر، منح الرد الإيراني لنتانياهو مساحة مفتوحة للبدء في القضاء على تهديدات الدولة الإسرائيلية العميقة، بقفزة إلى جبهة جديدة ينتظرها الشرق الأوسط والعالم. وقد أعلنت إسرائيل أنها سترد على إيران، واجتمع مجلس الحرب خمس مرات خلال يومين لدراسة خيارات الرد، لكن يظل خلاف الأولويات بين نتانياهو وبايدن قائمًا، حيث يريد نتانياهو أن يبدأ الحرب مع إيران، ومن ثم أذرعها، وإتمام مخطط التهجير بأكمله، على اعتبار أن إيران هي رأس الافعى – وفق توصيفه – وضربها يشل باقي الأذرع، بينما ترى الولايات المتحدة أن الحرب يجب أن تبدء من سوريا، لغلق الحدود السورية العراقية لمنع تدفق الدعم الإيراني إلى حزب الله في لبنان، وتكون إيران أخر مرحلة بعد قطع الأذرع – بدأت حرب الحدود السورية العراقية قبل السابع من أكتوبر –.
ورغم تهديد نتانياهو بضرب إيران لكنه قد يرد في سوريا ولبنان، التزامًا بالوصايا الأمريكية التي حذرته من هذه الخطوة، لتهديد إيران برد أوسع خلال ثواني، ولثقته أن المعركة مع الأذرع قد توحد الأجندات بينه وبين حليفه الأهم في البيت الأبيض بعد خلافات حادة عنونت الصحف لأيام، على أن تترك غزة معلقة على خطوة التهجير دون عودة السكان إلى مناطقهم في الشمال والوسط، وأن تُرحل خطوة حرب إيران إلى أخر جولة؛ إذا لم تُقبل الأخيرة على تصنيع القنبلة النووية في الوقت الراهن.
في كل الحالات، فإن مؤشرات التصعيد أعلى بكثير من محاولات الاحتواء في الشرق الأوسط، بعد أن أصبحت الحرب في المنطقة تخدم المصالح الغربية أكثر من استمرار الاستقرار الهش، خاصةً بعد تنامي العلاقات العربية مع روسيا والصين، وتمددهما في مناطق النفوذ الغربي التقليدية، سواء في الشرق الأوسط أم أفريقيا، والاتفاق السعودي الإيراني الذي أجهض مشروع الناتو الشرق أوسطي، الذي يضم إسرائيل لمواجهة إيران، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية دون الرغبة الأمريكية، وأخيرًا رفض أهم دول المنطقة دعم جبهة أوكرانيا لصالح واشنطن، في خروج غير معتاد عن المظلة الأمريكية المستمرة منذ عقود.