ما تزال مصر هي السند والداعم للقضية الفلسطينية على مدار تاريخها وعلى مختلف المحاور السياسية والعسكرية وأعمال الإغاثة على المستويات الاجتماعية والشعبية، حيث جاء الدعم المصري منذ وقوع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، ليمثل أحد الركائز لهذا الدور التاريخي الذي لا يقبل المزايدة عليه.
إن مصداقية الدولة المصرية باعتبارها صاحبة الملف، جعلتها دائمًا تتحمل مهمة وعبء إنهاء العدوان المتكرر من قبل إسرائيل وذلك عبر صيغة توافقية تصل إلى حل وسط يحقن دماء الفلسطينيين وربما كانت الهدنة الوحيدة التي تم التوصل إليها في نوفمبر الماضي بجهد مصري دليلًا على ذلك، حيث تم بموجبها استعادة عدد من المحتجزين الإسرائيليين لدى الفصائل الفلسطينية مقابل أسرى في السجون الإسرائيلية.
إن التحركات السياسية التي بدأت منذ اللحظة الأولى شهدت الاتصال بطرفي المعادلة والتي استهدفت احتواء الموقف ومنع التصعيد الإقليمي في تحذير شديد من مغبة عدم الاستجابة للنداءات المصرية.
لم يتوقف الدور المصري السياسي على توجيه النداءات إلى الأطراف المباشرة بقدر ما استهدف حشد الزخم الإقليمي والدولي – عبر قمم ولقاءات ثنائية ودولية متعددة الأطراف – لصالح إنهاء العدوان عبر التواصل مع القوى الضاغطة ذات التأثير على إسرائيل ممثلة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي راوغت في كثير من الأحيان باستمرار الدعم اللامحدود لسلطات الاحتلال وسط تصريحات إعلامية “مستهلكة” حول وجوب حماية المدنيين في أي عملية عسكرية تمارسها سلطات الاحتلال، دون أن يصاحبها إجراءات ضاغطة على الأرض تعكس إرادة حقيقية في إنهاء العدوان.
وقد وضعت مصر خطًا أحمر في التعامل مع العدوان الإسرائيلي عبر رفض تصفية القضية الفلسطينية من ناحية ورفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم المحتلة قسرًا أو طوعًا من ناحية أخرى، وهو ما تكرر منذ اللحظة الأولى عبر تصريحات رسمية معلنة مدعومة شعبيًا.
وقد مثل الحسم المصري حجر عثرة أمام تنفيذ مخططات التوسع والاستيلاء على القطاع ورفض الترحيل وجعل القضية الفلسطينية عصية على التصفية وكشف بجلاء عن إصرار مصري كبير على مواصلة العمل من آجل دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967.
وفي هذا الإطار، واجهت مصر ضغوطًا متزايدة لاستقبال النازحين ورفضت عروضًا وإغراءات بالمليارات نظير توطينهم “مؤقتًا” لحين انتهاء العمليات العسكرية وكان الرد حاسمًا بأن على إسرائيل استقبال النازحين في النقب بدلًا من سيناء.
وقد ارتكزت الرؤية المصرية الصائبة (وأيدتها المواقف العربية والدولية) على أن مغادرة الفلسطينيين لأرضهم المحتلة تعنى عدم عودتهم إليها فيما يشير إلى “نكبة ثانية”، فتزامن الرفض المصري للتهجير مع صمود متواصل لسكان القطاع في مواجهة كل صنوف العدوان التي مارستها سلطات الاحتلال بحقهم.
وفي المقابل كانت جريمة الإبادة الجماعية هي الحل الوحيد من وجهة نظر إسرائيل حيث استهدفت النساء والأطفال المدنيين العزل للقضاء على أجيال مستقبلية قد تطالب بحق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
وكانت مساعدات الإغاثة المصرية عبر معبر رفح، الذي لم يغلق يومًا واحدًا بشهادة المجتمع الدولي منذ العدوان وحتى الآن، مصحوبة بإصرار مصري على إنفاذ المساعدات، كانت أحد أدوات استمساك سكان قطاع غزة بأرضهم، ولعب التحالف الوطني المصري للعمل الأهلي التنموي دورًا مشرفًا ومتميزًا وما يزال في هذا الإطار، عبر كثافة المساعدات المتتالية والتي تجاوزت 88% من إجمالي المساعدات التي قدمت لسكان القطاع على مدار الأشهر الماضية.
وكان الاستهداف الإسرائيلي للبنى التحتية يعكس الخطط الخبيثة الرامية لتحويل القطاع إلى بقعة غير صالحة للحياة فكان الموقف المصري الداعم الذي يسعى إلى توفير مقومات الحياة التي تعزز صمود سكان القطاع عبر شاحنات المساعدات التي اصطفت في مواجهة الرفض والتعنت الإسرائيلي المتواصل.
وقد عكست الحلول الإبداعية التي طرحتها مصر رؤية وبصيرة القيادة السياسية المصرية في التعامل مع مخططات الاحتلال الإسرائيلي حيث شرعت الدولة المصرية في إقامة المخيمات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة سواء في خان يونس أو رفح أو دير البلح لاستيعاب النازحين داخل أراضيهم في رسالة قوية برفض التهجير أو تصفية القضية والإصرار على مساندة مصر لبقاء أصحاب الأرض داخلها.
وجاء الإنزال الجوي للمساعدات عبر القوات الجوية المصرية سواء منفردة أو بالمشاركة مع دول أخرى (مثل الإمارات والأردن والمغرب) ليمثل خطوة مهمة وإبداعية لتقديم المساعدات إلى سكان شمال القطاع الذين تقطعت بهم السبل وباتت المجاعة أقرب إليهم في مشهد كارثي لم يعرف تاريخيًا من قبل.
وقد عكست تلك الحلول إصرارًا مصريًا على استدامة الدعم لسكان القطاع الذين باتت سياسة التجويع والحصار تستهدفهم بحيث تناقلت التقارير، أممية ودولية، مؤشرات مفزعة حول تدهور الأوضاع الغذائية والصحية للسكان من النساء والأطفال.
لقد بذلت مصر وما تزال جهدًا خارقًا عبر مفاوضات شاقة أجرتها القيادة السياسية والمسئولون المصريون مع كافة الأطراف وكانت تلك المفاوضات التي تجريها مصر سواء في القاهرة أم تل ابيب أم الدوحة أم باريس عاكسة لخبرات طويلة في التعامل مع سوابق العدوان الإسرائيلي وتفهم تفاصيل الملف جيدًا.
وجاءت المقترحات المصرية الأخيرة لتعبر عن صيغة توافقية هي الأفضل من نوعها وتسعى إلى حقن دماء الفلسطينيين والانتقال عبر عدة مراحل تمتد 124 يومًا وتنتهي بانسحاب إسرائيلي كامل من القطاع والانتقال من مسار العدوان إلى مسار سياسي قد يفضي إلى حل الدولتين.
كما نجحت مصر بمصداقيتها في دفع حماس إلى قبول المقترح والاستعداد لهدوء مستدام عبر صفقة تبادل جادة، فيما تراوغ إسرائيل بشراء الوقت وإطالة أمد بقاء نتانياهو في الساحة السياسية عبر إطالة أمد العدوان باستهداف مناطق شرق رفح ليصبح التفاوض تحت النيران للقبول بشروطها التعجيزية.
وقد أحيت تلك المفاوضات التي استضافتها القاهرة الآمال في إمكانية التوصل إلى تسوية فيما وضعتها المراوغة الإسرائيلية أمام خيارات جديدة، ومن الإنصاف القول بأن موافقة حماس ربما لا تمثل حلًا كافيًا للصراع لكنها تمهد الطريق أمامه وتعزز جهود التسوية والوصول إلى هدنة مستدامة تحقن الدماء.
وقد تزامن الرفض الإسرائيلي للتهدئة مع تحرك عسكري ينذر بالمزيد من التطورات السلبية خاصة مع إخلاء مناطق شرق رفح والبدء في تحريك الآليات العسكرية الإسرائيلية في انتهاك سافر لكل القرارات الأممية وقواعد الحرب وقواعد الاشتباك مما يجعل سلطات الاحتلال فوق القانون ويغلب منطق القوة الغاشمة الذي تتبناه إسرائيل.
كانت مصر كالعادة سباقة في تكرار التحذير من مغبة عملية عسكرية برية في رفح لما تنطوي عليه من كارثة إنسانية محققة في ضوء اكتظاظ هذه المساحة الجغرافية الصغيرة بأكثر من مليون ونصف مليون نازح.
وفي المجمل، فإن خبرات الدولة المصرية مع إسرائيل على كافة المستويات السياسية والدبلوماسية والقانونية والعسكرية تمثل حائط صد مهم أمام أي تحركات عسكرية داخل رفح تجنبًا لصدام محتمل يبدد أجواء السلام التي تحرص مصر عليها لصالح عملية الاستقرار والتسوية والأمن في الإقليم.
وتبقى التحركات المصرية دليلًا ماثلًا على مصداقية الدولة وحرصها على استرداد الحقوق المغتصبة والتأكيد على أن الحل السياسي هو الوحيد القادر على تسوية تلك القضية العادلة وأن إقامة الدولة الفلسطينية سيظل هدفًا رئيسيًا للدولة المصرية، وتطبيقًا لخيار حل الدولتين وتنفيذًا للقرار رقم 181 الصادر عام 1947، والقاضي بإعلان دولتين على الأرض.