شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية تغيرات ملموسة في الوقت الراهن تزامنًا مع استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، فبالرغم من تحسن العلاقات طبقًا لاستراتيجية “قرن تركيا” التي طرحها الرئيس “رجب طيب أردوغان” في الانتخابات الرئاسية 2023، والتي استهدفت فيها تركيا إصلاح علاقتها مع دول المنطقة ومن بينها إسرائيل، إلا أن الموقف التركي المناهض للتصعيد الإسرائيلي قد أدى إلى ملامح اضطراب جديد في العلاقات الثنائية بين البلدين.
شد وجذب:
كانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بإسرائيل في عام 1949، وواجهت العلاقات بينهما مراحل صعود وانحسار، وصلت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية عام 2010 نتيجةً لمقتل 10 ناشطين أتراك من قبل الجيش الإسرائيلي فيما عُرف بأزمة مرمرة، ثم عادت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 2016، إلى أن عادت الخلافات مرة أخرى عام 2018 بسبب قيام إسرائيل باستخدام العنف ضد الفلسطينيين في احتجاجات على حدود قطاع غزة، ليقوم كل منهما بطرد سفير الدولة الأخرى، وتحسنت العلاقات مرة أخرى طبقًا لاستراتيجية قرن تركيا وعاد مسار التطبيع والزيارات المتبادلة بين الجانبين حتى أحداث طوفان الأقصى التي أثرت بالسلب على مسار العلاقات بين البلدين.
الحرب على غزة:
انتهجت تركيا مقاربات مختلفة إزاء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث يُمكن تقسيم موقفها لعدة محطات، المحطة الهادئة في بداية التصعيد تأثرًا باستراتيجيتها الجديدة للتهدئة الإقليمية، وأظهرت في البداية خطابًا متوازنًا، ظهرت ملامحه في بيان الرئيس أردوغان في يوم السابع من أكتوبر، والإشارة في حديثه إلى “الدعوة لضبط النفس لجميع أطراف الصراع”، وكذلك في بيان وزارة الخارجية التركية الذي عبرت فيه عن قلقها من العنف.
ثم انتقلت تركيا لمحطة أظهرت خلالها تحولًا في موقفها، حيث تبنت خطابًا أكثر تشددًا إزاء إسرائيل والذي ظهرت ملامحه في تصعيد الرئيس التركي من حدة خطابه تجاه تطورات الأوضاع في غزة، وقيامه بإلغاء زيارة إلى إسرائيل كان مخطط لها، فمثلاً، خلال حديثه في فعالية للاتحاد الوطني لطلبة تركيا في إسطنبول في 18 نوفمبر الماضي، أشار أردوغان إلى “أن بلاده ستعمل على محاسبة إسرائيل على المجازر البشعة التي ارتكبتها في غزة”، وقد استمرت هذه اللهجة التركية الحادة تجاه إسرائيل في الوقت الراهن.
على الجانب الأخر، برزت انتقادات إسرائيلية تجاه تركيا، منها مؤخرًا انتقاد وزير الخارجية الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” تجاه الرئيس التركي والتهكم عليه بصورة مسيئة في أبريل الماضي، وذلك في أعقاب تصريحات الرئيس أردوغان التي انتقد فيها الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة خلال مؤتمر “برلمانيون لأجل القدس” الذي عُقد في إسطنبول، فضلًا عن وصفه لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بأنه “جزار غزة”.
وقد انتقلت تركيا مؤخرًا إلى محطة جديدة، تقدم على استغلال الأداة الاقتصادية كوسيلة ضغط على اسرائيل بعد فشل الجهود الدبلوماسية التركية والتصعيد الخطابي في وقف الحرب، وذلك على الرغم من أن الجانبين قد أظهرا في السابق حرصهما على فصل الاقتصاد عن التقلبات السياسية”، حيث قيدت تركيا في 9 أبريل الماضي صادراتها لعدد 54 منتجًا لإسرائيل، ثم أعلنت في 3 مايو الجاري تعليق جميع معاملاتها التجارية مع إسرائيل، وأكدت على أن هذه الإجراءات ستبقى سارية إلى أن تسمح إسرائيل بوصول المساعدات إلى غزة بشكل كافي وغير متقطع.
دوافع التحول:
تكمن أبرز دوافع التحول في الموقف التركي (من التوازن إلى التصعيد) إزاء الجانب الإسرائيلي بسبب اشتعال وغضب الرأي العام التركي، ولعبه دور ضاغط على حكومته من خلال الخروج في تظاهرات تندد بالتصعيد الإسرائيلي تجاه المدنيين في قطاع غزة، إلى جانب دعوة بعض الأحزاب – سواء كانت أحزاب مشاركة لحزب العدالة والتنمية في الحكم كحزب الحركة القومية التركية أو أحزاب معارضة مثل حزب الخير – للتدخل التركي واتخاذ دور أكثر حسمًا لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، فضلًا عن فشل ألية الضامنين (أو نموذج الضمانة)[1] التي طرحتها تركيا في البداية للوساطة والتوصل لتسوية سلمية وحل دائم للقضية الفلسطينية.
وبالنظر إلى نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة وخسارة حزب العدالة والتنمية فيها، فلقد مثل الموقف التركي من التصعيد الإسرائيلي أحد عوامل خسارة الحزب بسبب رؤية الناخبين الأتراك لتحركات الحكومة بأنها لم تكن على المستوى المرغوب، وكذا الخطوات الإسرائيلية تجاه تركيا بمنعها من إدخال المساعدات جوًا على قطاع غزة في 8 أبريل الماضي، وعرقلتها لإبحار “أسطول الحرية“[2] الذي كان يستعد لإيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين في قطاع غزة.
ويمكن النظر إلى تأجيل زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى الولايات المتحدة – التي كانت مقررة في 9 مايو الجاري – إلى موعد لاحق كأحد تداعيات الموقف التركي إزاء إسرائيل، خصوصًا بعد تداول أنباء على ممارسة اللوبي الإسرائيلي “الصهيوني” في الولايات المتحدة ضغوطًا على الإدارة الامريكية، أثمرت في نهاية المطاف عن إفشال إتمام الزيارة.
وختامًا، يمكن القول إن ما يحدث في قطاع غزة قد يؤثر مرحليًا على مسار العلاقات الراهن بين تركيا وإسرائيل، حيث يُتوقع أن تحدث انفراجة في هذه العلاقات وصولًا إلى مستوياتها قبل اندلاع الحرب في غزة، وهو ما تؤكده لنا التجربة التاريخية للعلاقات التركية الإسرائيلية، والتي تُظهر حالة من الشد والجذب من وقت لأخر، ولكن تعود العلاقات إلى طبيعتها مرة أخرى في النهاية، إضافةً إلى إمكانية استغلال المعارضة التركية لتوتر العلاقات التركية الإسرائيلية (بل ومع الولايات المتحدة) من أجل إظهار وجود قصور في التحركات الخارجية التركية.
[1] تضمنت عدد من البنود من أهمها أن يكون لكل من إسرائيل وفلسطين دول ضامنة، وأن يمنع الضامنين أي تصعيد محتمل، أو خرق أي طرف للاتفاقات الحالية، وأخيرًا إجبار الجانبين من قبل الضامنين على الجلوس على الطاولة للتفاوض على تسوية سلمية دائمة للقضية الفلسطينية.
[2] أسطول الحرية هو عبارة عن مجموعة سفن محملة بمساعدات إنسانية عبر البحر من ميناء توزلا التركي إلى الفلسطينيين في قطاع غزة بهدف كسر الحصار الإسرائيلي المفروض عليهم.