تفرض الأوضاع والتطورات الاقتصادية المتراجعة للعديد من الدول، وكذا التوجهات السياسية والمصالح الاستراتيجية للبعض الأخر، تزايدًا لحالة عدم التوافق حول بعض الملفات الاقتصادية، والتي تتطلب تنسيقًا دوليًا لمواجهتها حتى لا تتفاقم آثارها السلبية، الأمر الذي سيكون له تكلفة اقتصادية وسياسية ممتدة إلا إذا تم التفكير في كيفية تجاوز تلك الإشكالية، والتركيز على دعم الاقتصاد العالمي الذي يشهد حالة من عدم اليقين مع احتمالية تراجع مؤشراته.
انقسامات مستمرة:
تبلور خلال الفترة الماضية تزايد الانقسامات بين دول العالم حول العديد من الملفات، وقد تكون بعض تلك الملفات مثار تجاذب منذ عدة سنوات ولم يتم حلها، إلا أن تزايد التجاذب الحالي حولها يجعل من الصعب التوصل لتوافق بشأنها، بل وقد تنصرف حالة عدم التوافق إلى ملفات أخرى، ومثال على ذلك اختتام اجتماع وزراء المالية ورؤساء المصارف المركزية من مجموعة العشرين للاقتصادات الكبرى في شهر فبراير 2024، بدون إصدار بيان مشترك، ونشرت البرازيل التي استضافت الاجتماع ملخصًا بدلًا من إصدار بيان رسمي، وقد أشارت بعض المصادر إلى أن عدم التوصل لبيان مشترك يرجع إلى الخلافات حول الحربين في غزة وأوكرانيا، مما أثر على الجهود المبذولة للتوصل إلى توافق بشأن التنمية الاقتصادية العالمية.
في ذات السياق، أنهى المفاوضون المشاركون في اجتماع منظمة التجارة العالمية في الإمارات قمتهم التي عُقدت في شهر مارس 2024، مع عدم التوصل إلى اتفاقات بشأن العديد من المبادرات الرئيسية، مثل صيد الأسماك والدعم الحكومي للزراعة، وقضايا أخرى منها إصلاح منظمة التجارة العالمية.
ولا ترتبط هذه الانقسامات بعدد الأعضاء في المنظمات أو مجموعات محددة، ففي حين لم تستطع منظمة التجارة التي بها 164 دولة عضو معالجة ملفات ضاغطة منذ عقود، لم يصدر بيان عن قمة وزراء مالية مجموعة العشرين بسبب خلافات على صراعات موجودة حاليًا، ويُضعف ذلك من الإجماع الدولي في الملفات الاقتصادية الملحة، وفي نفس الوقت زاد اليقين من أن العولمة الاقتصادية لا تحقق مكاسب عادلة ومتبادلة كما كان يتم الترويج له، وذلك في ضوء التراجع المستمر في اقتصادات العديد من الدول، في مقابل تحسن اقتصادات البعض الأخر.
ويؤكد ما سبق تقرير ميونخ الأمني 2024 الصادر في فبراير 2024، والذي شدد على أن الكثير من الحكومات أصبحت تركز على الفوائد المطلقة المترتبة على التعاون العالمي، ومنح الأولوية للمكاسب النسبية بدلًا من الانخراط في تعاون تحت مظلة نظام دولي له عيوبه الواضحة، ودعم من تلك المقاربة تحول الاعتماد المتبادل إلى سلاح أو أداة ضغط في كثير من الأحيان، مثل وقف توريد مصادر الطاقة، ووقف التعامل مع شركات بعينها (مثل النموذج الأمريكي في التعامل مع شركات التكنولوجيا الصينية).
دوافع مستحدثة:
يأتي تزايد الانقسامات بين الدول في ضوء تزايد حالة عدم اليقين الاقتصادي، وسعي الدول لتحقيق مصالحها الاقتصادية، فضلًا عما كشفته الحرب الروسية الأوكرانية والعدوان الإسرائيلي على غزة، من ازدواج المعاييرالغربية، مما زاد من تمسك الدول النامية بتحقيق مكاسب، خاصةً مع تزايد الشك في التوجهات الغربية المنحازة بشكل واضح لمصالحها على حساب الدول النامية والفقيرة.
ويتزايد الانقسام بين الدول مع تزايد الترابط في التكتلات الإقليمية أو الترابط في الدول ذات التوجه الواحد حتى وإن كانت لا ترتبط بنطاقات جغرافية محددة، مثل مجموعة السبع، والتي سعى أعضاؤها إلى تجريم الحرب الروسية الأوكرانية في اجتماع وزارة المالية لمجموعة العشرين، وفي المقابل رفضت روسيا وكذا طالبت دول أخرى بالتعامل بنفس النهج مع الحرب على غزة، مما أوجد خلاف بين الفرقاء، نتج عنه عدم صدور بيان ختامي للاجتماع كما سبقت الإشارة، ومن جهة أخرى، تجتمع العديد من الدول النامية على ضرورة معالجة ملف الديون، مما يعزز التنسيق بينها في هذا الملف، ويدفع ذلك نحو توحيد خطابها في الفعاليات الدولية ذات الشأن، وذلك في مواجهة كتلة الدول الدائنة.
يُضاعف من عمق أزمة الانقسامات المؤشرات الاقتصادية السلبية التي تصدر تباعًا من قبل المنظمات الدولية ووكالات التصنيف الائتماني وكذا البنوك الاستثمارية، والتي تعكس وجود تحديات متفاقمة قد يشهدها الاقتصاد العالمي، حيث توقع البنك الدولي في يناير 2024 تحقيق الاقتصاد العالمي معدل نمو 2.7% في العام المقبل، بانخفاض قدره نحو 0.3% عن توقعاته السابقة الصادرة في يونيو 2023، فيما توقع تسجيل الدول المتقدمة نسبة نمو قدرها 1.6% في عام 2025، بتراجع نسبته 0.6% عن توقعات يونيو 2023.
وفي ذات السياق توقع صندوق النقد الدولي في تقريره حول آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في أبريل 2024، تسجيل الدول المتقدمة معدلات نمو سنوية حول مستوى 1.7% حتى عام 2029، فيما ستسجل الدول النامية والناشئة معدلات نمو حول مستوى 4%، وبما يُشير إلى التطورات المطردة في اقتصادات تلك الدول، في مقابل نمو اقتصادي مستقر نسبيًا بالدول المتقدمة لا يتجاوز 2%، وذلك بعد تسجليها معدلات نمو سنوي ما بين 1.8% و5.7% خلال الفترة 2016/2023، مما يدفعها للتعنت وعدم التنازل أو حتى التفاوض في بعض الملفات الاقتصادية، مثل ملف دعم الزراعة.
ويعزز التوجهات السابقة الاضطرابات التي يشهدها النظام المالي العالمي حاليًا، خاصةً مع توقعات بظهور موجة من إفلاس بعض الدول، ومع تغير توجهات المستثمرين وسلوك مجتمع الأعمال تجاه الأسواق العالمية، والتي تتحوط من ضخ الاستثمارات بعيدة المدى في بيئة غير مستقرة، وتعويض ذلك بحركة تدفقات الأموال الساخنة التي يكون لها تأثير سلبي في بعض الأحيان، أو الاتجاه للملاذات الآمنة، هذا ويأتي ذلك النهج من خبراتهم التي تكونت من الصدمات المتعاقبة الأخيرة (جائحة “كوفيد-19″، والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتبعاته).
ولمواجهة ما سبق، تبذل الحكومات جهودًا مكثفة لجذب المستثمرين، وضمان تعظيم الاستفادة من رؤوس أموالهم، وفي نفس الوقت تعزيز التنمية لدعم مواطنيها وللأجيال المقبلة، بما جعل تباين المصالح بين الدول أكثر حدة، وبالتبعية فقد عقد ذلك من التوصل لتوافق وإجماع حول بعض القضايا الاقتصادية في ضوء التنافسية المتزايدة على تعظيم المكاسب الاقتصادية والمالية.
إن تزايد طموح الشعوب على خلفية الوعود المقدمة من الحكومات بشأن تحسن الاقتصادات، والتي تم ترجمتها في شكل رؤى استراتيجية يتم تحقيق أهدافها على مدار السنوات المقبلة، يجعل النطاق الزمني محدودًا، وبالتبعية فإنه لا يمكن تأجيل بعض الإجراءات والتحركات، أو حتى القبول بأنصاف الحلول في بعض الملفات، لذلك، يمثل الالتزام بتلك الرؤى الاستراتيجية أو حتى المستهدفات التي تم تحديدها عاملًا إضافيًا لتمسك بعض الدول بمصالحها كأولوية، على أن يأتي التوافق أو الإجماع الدولي بعد تحقيق تلك الأولوية.
على جانب أخر، فإن تحركات بعض الدول المتقدمة لتحقيق أهداف تتعلق بالبيئة تعتبر مثار جدل بين كتلتي الدول المتقدمة والدول النامية، حتى إن تم ذلك بتحركات أحادية من قبل الدول المتقدمة، مما قد يعرقل من مساعي الدول النامية لتحقيق النمو الاقتصادي، ولعل فرض ضريبة الكربون النموذج الأبرز في هذا الصدد، وهو ما يعني تقييد الاقتصاد العالمي في وقت ما تزال هناك ثغرات متعددة به تحول دون استقراره، لذا، قد يسفر ذلك عن استحداث حواجز تجارية جديدة على الدول النامية والفقيرة.
مسارات ضبابية:
إن عدم توصل المجتمع الدولي لقرارات حاسمة حول بعض الملفات الاقتصادية، يترك المجال للعديد من التكهنات التي لا تمكن من بناء قرارات صائبة، كما أنه قد يسفر عن اتخاذ بعض البلدان مسارات تجعلها تتمسك ببعض الأنشطة والإجراءات التي قد لا تنعكس عليها بشكل إيجابي في المستقبل كما تتوقع، مثل تشديد الحمائية التجارية، وتطبيق الشركاء التجاريين في المقابل مبدأ المعاملة بالمثل، ويقوض ذلك بدوره من التعاون الدولي والاعتمادية.
ومن جهة أخرى، فإن عدم وقوف الدول على أرضية واحدة مشتركة يجعل الاقتصاد العالمي في حالة من التفكك، ويزيد ذلك من حدة المنافسة بين الدول بشكل قد تتحول بموجبه إلى منافسة ضارة، والتي تؤدي إلى تقليل الأرباح أو حتى تحقيق خسائر لبعض الأطراف المتنافسة، كما أن ذلك قد يسفر عن خروج بعض الشركات من السوق، وعليه تقل المنافسة، وقد يتضاءل حجم الإنتاج العالمي، وما لذلك من تبعات سلبية على المستهلكين (نقص المعروض، وارتفاع الأسعار ..).
إن الاستمرار في الانقسام بل وتزايده، سواء على ملفات اقتصادية أم ملفات سياسية، والتداخل بين تلك الملفات، له تبعات سلبية قد تترك آثرًا مباشرًا يتعلق بشكل أساسي بعدم تطبيق سياسات حازمة لمواجهة التحديات الاقتصادية، كما قد يضع ذلك الدول في حالة تأهب تجعلهم غير مرنين في التعامل مع بعض الحلول في قضايا أخرى، مع الاتجاه لزيادة الربط والتشابك بين كافة القضايا، مما يزيد من تعقيد التوصل لحلول جذرية لبعض الملفات.
وختامًا، فإن نمط عدم التوافق الحالي بين الدول على بعض الملفات الاقتصادية، والذي تلاحظ ازدياده، نتيجة التوترات الجيوسياسية والتطورات الاقتصادية المتسارعة، يطرح أهمية قيام المجتمع الدولي بإعادة صياغة أو ترتيب أفكاره، والخروج بتصورات واضحة بشأن التداعيات الناتجة عن عدم التوصل لتوافقات حول بعض القضايا الرئيسية، ويتطلب ذلك إطلاق مبادرات للتفاهم بذات الشأن، لأن البديل عن التوافق هو التباعد المستمر، بما يزيد من فرص حدوث صدمات اقتصادية عالمية متتالية، أو حتى صعوبة احتوائها بعد ظهورها.