الافتتاحية
لواء د/ خالد الخمري
رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط
يُصدر المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط العدد (98) من دورية أوراق الشرق الأوسط في ضوء مجموعة من التطورات والأحداث المتلاحقة والمتزامنة على المستويين الداخلي والإقليمي، وفي ظل تفاعلات دولية متعددة، ألقت بظلها على مسار واتجاه الأزمات العربية التي لا تزال قائمة، ومن المستبعد أن يتم التوصل لحلول أو تسويات مقبولة أو متوافق بشأنها في ظل صراعات بينية إقليمية ودولية متصاعدة.
داخليًا، ستشهد الدولة المصرية في الفترة المقبلة فترة رئاسية جديدة للسيد الرئيس «عبدالفتاح السيسي» تمتد من العام 2024 وحتى العام 2030، ويأمل معظم المواطنين المصريين أن تشهد هذه الفترة تحقيق معدلات مرتفعة من نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتحسين مستوى معيشة الفئات المتوسطة، ورفع درجة جودة الخدمات العامة، وتحسين أداء الجهاز الإداري للدولة، وهو ما يتطلب جليًا تحديد الأولويات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية لتحقيق أهداف الجمهورية الجديدة وتجاوز التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها مصر وفي ظل إدراك رئاسي بأن التنمية الشاملة هي الهدف الأسمى للجمهورية الجديدة، التنمية التي توازن بين النمو السكاني والناتج القومي، وتحقق الاكتفاء الذاتي، وترفع من جودة الحياة عبر التعليم والصحة وتوفير الخدمات السكنية والمرافق. وتهدف الجمهورية الجديدة إلى أن تكون جمهورية المواطن، والمجتمع المتماسك المتعاون، وتعلي قيم الجدارة والإنجاز، بجانب قيم أخرى كالثقة والتسامح والتعاون، وتعمل على دعم مبدأ المساواة بين المواطنين الذي يقره الدستور.
واتصالًا بالمرحلة الزاهرة التي يشهدها الوطن في الفترة المقبلة وتجاوبًا مع ما يجري من المضي قدمًا في مسارات وطنية متعددة؛ وفي ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة والأزمات الاقتصادية المتزايدة والتقلبات السياسية المتلاحقة والتغيرات المستمرة في النظام العالمي، يواجه الإعلام الوطني المصري في الآونة الأخيرة تحديات حقيقية متعاظمة منها تلك المتعلقة بـ «التحديات المهنية» وأخرى مرتبطة بتحديات التكنولوجيا وظهور ويب 2.0 وما يحوي من منصات رقمية جديدة تزداد فيها قوة الجمهور مقابل الوسيلة، وكذا معضلة توفير الموارد المالية والإمكانات المادية للإعلام الوطني، وأخيرًا التعامل مع إشكاليات الإيكولوجيا الرقمية وحروب الجيل الرابع والخامس مثل الشائعات والأخبار الكاذبة والمضللة، وقد نجح الإعلام المصري من خلال منظومة الشركة المتحدة في نقل رسائل متعددة عبر مخططه التنظيمي اللافت في استعادة الريادة والقيادة الإعلامية، وهو ما برز مؤخرًا بصورة كبيرة، ويؤكد على امتلاك الدولة المصرية لقدرات وإمكانيات حقيقية على مستوى القوة الناعمة والقوة الذكية التي تستطيع من خلالها أن تضبط المشهد الإعلامي، وفي إطار المستجدات الجارية وبما نواجهه من منافسة حقيقية تتطلب وبصورة دورية استمرار العمل علي توجيه البوصلة وتطوير الخطاب الإعلامي بما يتماشى مع طرح الدولة المصرية وخطابها السياسي داخليًا وإقليميًا.
وعلى المستوى الإقليمي، تظل تبعات العدوان الإسرائيلي على غزة، بعد مرور أكثر من ستة أشهر على اندلاعه بعد معركة طوفان الأقصى، هي الأكثر حضورًا في الكتابات الأجنبية والعربية، حيث يلقي العدوان الإسرائيلي بظلاله على ديناميكيات التفاعل الدولي والإقليمي في المنطقة، فتشير المقاربات الاستشرافية للمنطقة بأن مستقبل الشرق الأوسط، أيًا كانت وسيلة نهاية الحرب الدائرة، وبغض النظر عن نتائج الصراع المباشرة، سوف يعاد تشكيله بفعل التغييرات المتوقعة في الداخل الإسرائيلي والفلسطيني، وكذا التبدل والتغير في السياسات الدولية (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين) والإقليمية (تركيا، وإيران) إزاء قضايا الإقليم الحرجة، كما يطرح العدوان الإسرائيلي على غزة إشكالية مستقبل دور الأمم المتحدة وكياناتها المختلفة في الملف الفلسطيني، وتبقى معضلة دور ومستقبل الفواعل المسلحة من غير الدول في الإقليم محل اهتمام بالغ بما يمثله من مخاطر وطنية وإقليمية معقدة، ومن المؤكد فى نفس السياق، أن تواجه اسرائيل بسبب الحرب على قطاع غزة تداعيات عديدة علي استقرارها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، الأمر الذي سينعكس فعليًا علي ما ستشهده إسرائيل من تطورات قد تتعلق بما ستكون عليه مسار الأوضاع في إسرائيل والذهاب إلى خيار التسوية وتنفيذ حل الدولتين، ومن المتوقع أن تفرض خيارات دولية على إسرائيل لقبول وجودها دوليًا كدولة ملتزمة في التنظيم الدولي وفي المؤسسات الدولية بصرف النظر عن صدور أي أحكام دولية ضدها سواء في المحكمة الجنائية الدولية، أو محكمة العدل الدولية، وكذلك تجمد مسارات التعاون الإقليمي ومشروع السلام الإسرائيلي لقيادة الإقليم (مشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي) خاصةً وأن إسرائيل ستعطي جل اهتمامها أولًا للأمن وإعادة بناء قدرات الدولة واستعادة القدرة على الردع وليس الانخراط في مشروعات للتعاون الإقليمي، واتجاه إسرائيل – وبرغم كل الارتدادات السلبية داخليًا – لمزيد من توظيف وافر القوة في مواجهة دول جوارها مع عدم العودة إلى خيارات توافقية الأمر الذي يتطلب استثمار الوضع الراهن في إسرائيل وهو وضع متردي في وضع خطة عمل محكمة (بصورة منفصلة) لاختراق المجتمع الإسرائيلي والمساهمة في تفكيك مراكز قوته سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
وفي سياق مواز وفي إطار التفاعلات الإقليمية التي تم رصدها وتحليل مقارباتها؛ شهدت الفترة الأخيرة تحولًا نوعيًا في نمط العلاقات السياسية بين إيران والسودان، حيث بادرت إيران نحو استعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع السودان بعد 7 سنوات من قرار الخرطوم بقطع علاقاتها مع الجانب الإيراني، وتبادل مسئولي الدولتين الزيارات الرسمية وتم الاتفاق على إعادة تبادل السفراء بين الخرطوم وطهران، والاتفاق على تعزيز العلاقات الثنائية بينهما على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وهو ما يطرح التساؤل حول محددات وأهداف السياسة الإيرانية تجاه السودان وكذا حدود الدور الإيراني في الأزمة السودانية القائمة.
عراقيًا، أصبح التواجد الأمريكي في العراق محل انتقاد وجدل متصاعد من قبل القوى السياسية والفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق، فعلى الرغم من أن هذا التواجد قد شهد خمولًا نسبيًا في أعقاب تولي محمد شياع السوادني رئاسة الوزراء، إلا أن الحرب في قطاع غزة، قد أعادت النقاش حول المبررات القانونية والاعتبارات الاستراتيجية للتواجد الأمريكي في العراق، وهو ما دفع إلى إعلان الحكومة العراقية نيتها الدخول في نقاشات مع الجانب الأمريكي لمناقشة مسألة سحب قواته من العراق.
وتزامنًا مع تطورات الأحداث في كل من فلسطين المحتلة والسودان والعراق؛ لا زالت جهود المصالحة الوطنية في ليبيا تشهد جمودًا، لاسيما في ظل الفشل المتكرر للمؤسسات الرئيسية في التوافق على الخطوات اللازمة للخروج من حالة الانسداد الراهن التي تعيشها ليبيا منذ تعذر إجراء الانتخابات التي كانت مقررة أواخر عام 2021، حيث تمثل المصالحة الوطنية إحدى المحاور الرئيسية لعملية السلام الليبية التي تجري برعاية الأمم المتحدة منذ عام 2014، وهو ما يثير النقاش حول ماهية المصالحة الوطنية في ليبيا وأطرافها ومعوقاتها وأخيرًا مساراتها المحتملة مستقبلًا.
وأفريقيًا، شهدت منطقة غرب أفريقيا العديد من التحولات السياسية والاقتصادية والتي كان لها تداعيات على المقاربة الأمريكية إزاء دول المنطقة، ففي ظل التنافس والاستقطاب الدولي والإقليمي على إعادة تشكيل خريطة التفاعلات في غرب أفريقيا، اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا إلى إعطاء زخم أكبر في سياستها تجاه المنطقة، وهو ما يطرح التساؤل حول ماهية التوجهات الأمريكية الجديدة في غرب أفريقيا، وكذا أهدافها ومحدداتها المختلفة في ظل اتجاه العالم لمزيد من الاستقطابات الإقليمية والدولية، وأن ما يجري في بنية النظام الدولي من تطورات خطيرة ترتبط بمصالح وأهداف كل طرف دولي أو إقليمي، وفي ظل تصميم علي إدارة العالم وقضاياه خارج سياقات التنظيم الدولي سواء في مجلس الأمن أو خارجه بل وعدم فاعلية أو تنفيذ ما يصدر من قرارات دولية، ولعل ما يجري في نموذج حربي روسيا – أوكرانيا وإسرائيل – فلسطين ما يؤكد ذلك، ولعل السلوك الأمريكي في مناطق متعددة من العالم قد أضر بالاستقرار في العالم وأدي لمزيد من التوتر بين الدول الكبرى، وهو الأمر المرجح تصاعده في الفترة المقبلة كنتيجة لاستمرار المواجهات الدبلوماسية والاستراتيجية في مسارح عمليات متعددة، بما ينذر بالكثير من أعمال التصعيد في مناطق الصراعات بل، ونشوب الجديد منها .
وبالرغم من حالة الصراعات والنزاعات الممتدة وتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في عدد من دول الإقليم، إلا أن هناك فرص عدة تنتجها مرونة التفاعلات والاستقطابات الدولية والإقليمية وكذا التطور التكنولوجي المتزايد، فعلى سبيل المثال تمثل دعوة منظمة «البريكس» مجموعة من دول الشرق الأوسط للانضمام إلى عضويتها، وذلك في إطار سياسة المنظمة الجديدة للتوسع في عضويتها، ما يمثل فرصًا حقيقية لعدد من بلدان المنطقة، وعلى جانب آخر تعتزم الولايات المتحدة والدول الأوروبية تحويل طاقاتهم ومواردهم من أوروبا إلى آسيا؛ بما يستلزم قيام الدول الأوروبية الأعضاء بإعادة موازنة كمية كبيرة من أصولها البحرية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل دعم جهود الولايات المتحدة لموازنة قوة الصين. أخذًا في الاعتبار أن نشر قوات كبيرة على المدى الطويل في آسيا، سوف يستنفذ موارد الأعضاء الأوروبيين إلى أقصى حد، ويترك أوروبا عرضة لأية تحركات روسية، وربما يتسبب ذلك في خلافات بين الدول الأوروبية بشأن أولوية ردع روسيا، أو موازنة قوة الصين.
وفي الإطار ذاته؛ قدمت الاكتشافات التكنولوجية المعاصرة إسهامات ضخمة في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، حيث تسارع العديد من البلدان المتقدمة إلى توظيف وتطوير قدرات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الاكتشاف المبكر للتطرف ومعالجة ظاهرة الإرهاب وتداعياته المختلفة، وهو ما يوفر فرصًا متعددة أمام دول الشرق الأوسط، التي باتت تبدي اهتمامًا أكبر بتوطين صناعة الذكاء الاصطناعي بها لتوظيف تلك القدرات في مجال مكافحة التطرف والإرهاب.
98