أثار مصرع الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” ووزير خارجيته “حسين أمير عبد اللهيان”، وعدد من المسئولين الإيرانيين تساؤلات جادة حول مستقبل الأوضاع الداخلية والسياسة الخارجية الإيرانية، لاسيما أن طهران تعد قوة إقليمية رئيسية ومؤثرة في عدد من القضايا التي تحظى باهتمام واسع النطاق إقليميًا ودوليًا.
داخل مستقر:
مثل مصرع رئيسي وعدد من المسئولين النافذين صدمة كبيرة داخل إيران على المستويين الرسمي والشعبي، ومع ذلك، لم تكن هناك تخوفات بشأن حالة الاستقرار الداخلي، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى حقيقة أن مصرع رئيسي لن يؤدي إلى وجود فراغ في السلطة في إيران، وذلك لوجود نظام سياسي ورقابي معقد، بما يجعل مؤسسات الدولة هناك مقاومة للصدمات.
ومن أبرز الدلائل على ارتفاع درجة مؤسسية النظام السياسي الإيراني، طبيعة وسرعة الإجراءات التي اتخذت في المرحلة الأولية التي أعقبت مصرع رئيسي، حيث أصدر المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية قرارًا بتكليف النائب الأول لإبراهيم رئيسي “محمد مخبر” في منصب القائم بأعمال رئيس الجمهورية طبقًا للدستور، كما كلفه بإجراء الانتخابات الرئاسية خلال 50 يومًا، وقد شرع مخبر في تولي مهامه الجديدة بعقد اجتماع شمل رئيسي البرلمان والسلطة القضائية، وذلك لتنظيم آليات تولي مخبر لسلطات الرئيس، وإجراءات تنظيم الانتخابات.
هذا بخلاف الاستمرار في تبني الأطر التنظيمية المعمول بها في الأوقات العادية، والتي ظهرت في طرح السلطات الإيرانية جدولًا أوليًا لإجراء الانتخابات الرئاسية، يبدأ بتسجيل المرشحين المحتملين في الفترة ما بين 30 مايو و3 يونيو، فيما ذكرت التقارير الإيرانية أن الموعد المتوقع لإجراء الانتخابات الرئاسية هو 28 يونيو القادم.
تحديات خارجية:
تزامن مصرع رئيسي مع وضع إقليمي محفوف بالمخاطر، وذلك من حيث استمرار الحرب في قطاع غزة، وتصاعد ارتداداتها على الإقليم والعالم ككل، بل انخرطت إيران في تصعيد متبادل مع إسرائيل خلال الفترة الماضية، يُضاف إلى ذلك استمرار حالة الفتور والجمود في العلاقات بين طهران وواشنطن، وهو ما ظهر في طبيعة التعامل الأمريكي مع مصرع رئيسي، حيث صدرت عن بعض المسئولين الأمريكيين تصريحات انتقدت رئيسي، فضلًا عن عدم التجاوب مع الطلب الإيراني من الولايات المتحدة بالمساعدة في العثور على مروحية رئيسي بعد تحطمها، وتبرير ذلك بالاعتبارات اللوجيستية.
وقد تؤدي التحركات الأمريكية في الإقليم خلال الفترة المقبلة إلى تزايد تعقيد علاقتها مع إيران، حيث تحاول الولايات المتحدة صياغة ترتيبات أمنية جديدة في الشرق الأوسط، من خلال إقامة تفاهمات أمنية وعسكرية مع السعودية، بما يشكل ظروفًا أولية قد تهيئ الطريق نحو إتمام التطبيع السعودي الإسرائيلي مستقبلًا، لاسيما إذا ما استجابت إسرائيل للشروط والمطالبات السعودية (والعربية) المتعلقة بأهمية وجود مسار واضح لإقامة الدولة الفلسطينية.
وعلى الرغم من هذا الوضع الإقليمي المليء بالتحديات، والتعقيد الواضح في العلاقات الإيرانية الأمريكية، إلا أن هناك ما يُبشر بأن الأمور قد تتجه نحو المزيد من الهدوء، فمثلًا، أظهر الطرفان الأمريكي والإيراني حرصهما على خفض التصعيد، وذلك من خلال المباحثات غير المباشرة التي جرت بينهما في سلطنة عمان، والتي تطرقت إلى الموضوعات والملفات العالقة بينهما، بما في ذلك البرنامج النووي والصاروخي الإيراني.
وكذلك، فإن مشروعات التهدئة والتقارب التي كانت إيران جزءًا رئيسيًا منها – لعب وزير الخارجية الراحل عبد اللهيان دورًا مركزيًا في هندسة استراتيجية التقارب الإيراني مع الإقليم – لم تتعرض لانتكاسة بعد، خاصةً في ضوء حرص قوي الإقليم الرئيسية على الإبقاء على التهدئة كخيار استراتيجي، ويدلل على ذلك استقرار مسار التطبيع الإيراني مع السعودية الذي بدأ في مارس 2023، والذي مثل ركنًا أساسيًا في المصالحات الإقليمية، حيث أظهر الجانبان حرصهما على تجنب الصدام منذ استعادة العلاقات بينهما، بدليل ابتعاد السعودية عن الانخراط في الترتيبات الأمنية التي جرى تشكيلها مؤخرًا – بدفع أمريكي، مثل: عملية حارس الازدهار – لإيصال رسالة إلى إيران بمدى الحرص السعودي على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إيران.
كما أن عملية صنع القرار الخارجي الإيراني – بما في ذلك مسار التهدئة الإقليمية – تعكس تفضيلات وتوجهات المرشد الأعلى “علي خامنئي”، وبالتالي، وبصرف النظر عمن سيتولى موقع الرئيس أو وزير الخارجية، فإنه لن يخرج عن أجندة الهدوء والاستقرار التي سبق أن أُقرت وحظيت بمباركة من المرشد، بل إن احتمالية وصول رئيس جديد من التيار الإصلاحي في الانتخابات التي ستعقد في الفترة المقبلة سيعطي دفعة إيجابية نحو تعزيز الهدوء والاستقرار.
كذلك، فإن قرار تكليف “على باقري” بمنصب القائم بأعمال وزير الخارجية، قد يعني المزيد من الهدوء والتوازن في سياسة إيران الخارجية، بل وقد يصل الأمر إلى بعض التقدم في إحياء المفاوضات النووية، وذلك حال استمرار باقري في منصبه، خاصةً أنه قد لعب دورًا بارزًا في العملية التفاوضية مع القوى الغربية، وقاد فريق بلاده التفاوضي في الملف النووي بفيينا، وفى ملفات أخرى بعدد من العواصم العربية، وكان مساعدًا لكبير المفاوضين الإيرانيين “سعيد جليلي”، وقد اكتسب باقري بفضل هذه الخبرات الممتدة وضعًا مميزًا داخل وزارة الخارجية الإيرانية، وأصبح أحد أركانها الرئيسيين.
وختامًا، فإنه من المتوقع أن يتحول تركيز إيران خلال الفترة القليلة المقبلة إلى الانكفاء داخليًا ومحاولة هندسة وترتيب البيت الإيراني، والنخبة القادمة، كما يُرجح أن تُبقي إيران على التوجهات الرئيسية في سياستها الخارجية، مع انتهاج مستويات حذرة من الانخراط في الأزمات خلال الفترة الانتقالية وحتى الانتهاء من الانتخابات، وخلال هذه الفترة، قد تشهد إيران حالة من الحراك السياسي الداخلي المرتبط بأجواء الانتخابات، وقد تصل الأمور إلى اندلاع تظاهرات جديدة، ومع ذلك، فإنه من المحتمل أن يتعامل الغرب مع التطورات الداخلية في إيران بقدر من الهدوء والحذر، وذلك لإيصال رسالة إيجابية للنظام الجديد في إيران بأنه يمكن للغرب (وتحديدًا واشنطن) وطهران العمل سويًا، إضافةً إلى تنامي الإدراك لدى الغرب بأن الاحتجاجات أمر متكرر الحدوث في إيران، وفي المقابل، يُظهر النظام الإيراني قدرة كبيرة على تجاوزها.