أدى التعامل الأمريكي مع الحرب الراهنة التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة، والتي نجم عنها كارثة إنسانية على نطاق واسع، إلى إيجاد حالة من التجاذب والاستقطاب في الداخل الأمريكي ما بين مؤيد ومعارض لموقف إدارة الرئيس “جو بايدن”، وهو الأمر الذي سيمتد تأثيره إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
الموقف الأمريكي الراهن:
عملت الإدارة الأمريكية منذ اندلاع الحرب على محاولة موازنة موقفها، بين دعم وتأييد إسرائيل، وبين تقديمها المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك لتجنب دعاوى التشكيك في معاييرها العالمية المتعلقة بالديموقراطية وحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت دعم حليفها الأساسي في الشرق الأوسط.
قدمت واشنطن إلى تل أبيب مختلف أنوع الدعم العسكري سواء كان ذلك الدعم في شكل مساعدات مالية، حيث وقع بايدن الشهر الماضي على مشروع قانون يقر بمنح إسرائيل 26 مليار دولار، وكذلك تزويدها بالأسلحة والمعدات الحربية، كما عملت الإدارة الأمريكية على توفير غطاء دبلوماسي قوي لإسرائيل في مجلس الأمن من خلال استخدامها لحق الفيتو لمنع تمرير مشروع قرار تأسيس دولة فلسطينية ووقف إطلاق النار على الرغم من تأكيدها المستمر على أهمية وقف إطلاق النار وتجنب اتساع رقعة الصراع[1].
وعلى الرغم من التأييد الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، إلا إنها بشكل متزامن انخرطت مع عدد من القوى الإقليمية في جهود الوساطة بين إسرائيل وحركة حماس، وذلك من أجل التوصل لصفقة تهدئة ووقف إطلاق النار في قطاع غزة وكذلك إطلاق سراح الرهائن، كما عملت على إنفاذ المساعدات الإنسانية برًا إلى القطاع وتدشين رصيف بحري عائم لإيصال المساعدات بحرًا، وتعليقها لبعض إمداداتها العسكري لإسرائيل عندما أقدمت الأخيرة على شن عملية عسكرية في منطقة رفح.
مسار تأثير الحرب في قطاع غزة على الداخل الأمريكي:
الناخب الأمريكي:
أدى تعامل إدارة بايدن مع الحرب في قطاع غزة إلى تحولات في توجه الناخبين الأمريكيين، خاصةً العرب والأقليات، حيث كشف استطلاع رأي أجرته جامعة سيينا بالتعاون مع صحيفة نيويورك تايمز عن تزايد دعم المسلمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للمرشح “دونالد ترامب” في ولايات بنسلفانيا وأريزونا وجورجيا وميتشجين، وذلك على حساب دعمهم للرئيس جو بايدن، حيث بلغ عدد الداعمين لترامب (57%) في مقابل دعم (35%) لبايدن، وأشار حوالي (70%) من الناخبين المسلمين إلى السياسة الخارجية أو الحرب على قطاع غزة كسبب وراء تراجع دعمهم لبايدن[2].
كما أصدر مركز كارنيجي نتائج استطلاع رأي في أبريل الماضي، أشار فيه إلى استياء عدد من الشخصيات البارزة من الشباب الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية، وقادة الأسقفية الأفريقية، والمثقفين، من سياسة الرئيس جو بايدن إزاء الحرب في قطاع غزة، حيث طالبوا دولتهم بالضغط على إسرائيل لاحترام القانون الدولي وحماية المدنيين، وأكدوا على أهمية وقف إطلاق النار والتوصل إلى هدنة داخل القطاع[3].
الحركة الطلابية:
أصبحت الاحتجاجات الطلابية سواء الداعمة لفلسطين أو لإسرائيل إحدى السمات الأساسية للحرم الجامعي الأمريكي منذ اندلاع الحرب في غزة، ولكن الاحتجاجات الرافضة للعدوان على قطاع غزة قد اشتدت حدتها خلال شهري أبريل ومايو الجاري، واتسع نطاقها ليشمل عددًا ضخمًا من الجامعات الأمريكية المرموقة (مثل: كاليفورنيا، وهارفارد، وييل، وتكساس، وبراون، ونورث ويسترن، …) حيث طالب المتظاهرون بوقف الاستثمارات مع الشركات الداعمة لإسرائيل، كما طالبوا الإدارة الأمريكية بالضغط لوقف إطلاق النار[4].
اختلف تعامل إدارة الجامعات مع هذه الاحتجاجات، فبينما سعت بعض الجامعات مثل جامعتي براون ونورث ويسترن إلى احتواء الطلاب، ومنع تفاقم التظاهرات، وذلك من خلال التفاوض معهم، والسماح بالاحتجاجات السلمية والاتفاق على الحد من حجم المخيمات في مقابل التصويت على وقف استثمارات الجامعة مع الشركات الداعمة للكيان الإسرائيلي، تفاعلت مجموعة أخرى من الجامعات بصورة مختلفة، حيث قامت إداراتها باستدعاء الشرطة للطلاب، وبالفعل اقتحمت قوات الأمن الجامعات وقاموا باعتقال ما يقارب من 2000 طالب[5].
كذلك، أدى تعامل بايدن مع مسألة الاحتجاجات الطلابية إلى انقسام بداخل الحزب الديموقراطي، حيث أدان هذه الاحتجاجات واعتبرها بمثابة أعمال عنف وتدمير للممتلكات العامة، لذلك يواجه بايدن ردود فعل سلبية من العديد من الشباب الديموقراطيين في ضوء تناقضه في تأييده لإسرائيل، من خلال التأكيد على حقها في الدفاع عن نفسها من حركة حماس، في المقابل حثه للجيش الإسرائيلي على بذل المزيد من الجهد لضمان عدم مقتل مدنيين في أعمال العنف، وهذا الانقسام بدوره قد يُسهم في فقدان بايدن لكتلة الشباب أو “جيل زي” في الانتخابات لصالح منافسه “دونالد ترامب”[6].
الانقسام الحزبي:
أدت الحرب في قطاع غزة إلى اتساع الفجوة في المواقف داخل الكونجرس الأمريكي، حيث عادت ثنائية الاستقطاب الحزبي بين الجمهوريين والديموقراطيين، بل وانقسم الحزب الديموقراطي بدوره إلى مؤيد ومعارض لفلسطين، فمنذ نشوب الحرب على القطاع، كان توجه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” والاتجاه الديموقراطي العام يركز على التأكيد على الدعم الكامل لإسرائيل، ولكن ظهر اتجاه موازي للاتجاه العام من قبل مجموعة من النواب التقدميين، المطالبين بأهمية أن تدفع الولايات المتحدة بقوة من أجل وقف إطلاق النار وإدانة إسرائيل على الجرائم التي ارتكبتها في القطاع[7].
ومع اندلاع الاحتجاجات الطلابية، وجه ائتلاف من النواب الديموقراطيين رسالة إلى مجلس أمناء جامعة كولومبيا طالبوا فيه بإقالة رئيسة الجامعة “نعمت شفيق” بدعوى قيامها بتسيس الاحتجاجات بحجة إعادة الاستقرار، كذلك، فقد توجهت مجموعة من الفصيل التقدمي بداخل الكونجرس “SQUAD” لزيارة الجامعة لدعم المتظاهرين، ومنهم “جمال بومان”، و”إلهان عمر”، و”ألكسندرا أوكاسيو”، وذلك في الوقت الذي كان يستعد فيه الكونجرس للتصويت على مجموعة من الإجراءات ضد معاداة السامية.
اللوبي الصهيوني:
مع استمرار الحرب في قطاع غزة شكل عدد من المجموعات التقدمية بداخل الحزب الديموقراطي “العدالة الديموقراطية” و”الاشتراكيين الديموقراطيين الأمريكيين” ائتلاف “رفض الأيباك” وذلك في ضوء مطالبة أعضاء من الحزب بوقف إطلاق النار في قطاع غزة والحد من الدعم لإسرائيل، كذلك تشكيل “دفاع انتخابي” لأي شخص مستهدف من قبل أيباك ولجان عملها السياسي[8]، وطالب هذا الائتلاف الرئيس بايدن بعدم قبول الدعم والتمويل المادي الذي تقدمه أيباك، سواء للكونجرس أو لمرشحي الرئاسة، حيث حشدت اللجنة من يناير 2023 حتى يناير 2024 حوالي 24.8 مليون دولار للتأثير على مسيرة العملية الانتخابية، وذلك وفقًا للجنة الانتخابات الفيدرالية[9].
ونتيجة لذلك، أدركت أيباك أن دعم وانتخاب مرشحين منتقدين لإسرائيل سيؤدي إلى تغير السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل من حيث الدعم العسكري، والغطاء الدبلوماسي الذي تقدمه واشنطن لتل أبيب، وكذلك الضغط السياسي لتأسيس دولة فلسطينية، وبدأت تباعًا في التخطيط لإنفاق 100 مليون دولار هذا العام ضد مرشحي الكونغرس، وبالأخص الديموقراطيين، وقد سبق أن قدمت اللجنة الدعم للجمهوريين الذين رفضوا التصديق على فوز الرئيس الأمريكي جو بايدن وجاء تبريرها أنها ملزمة بقضية واحدة وهي تعزيز العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية[10].
ونظرًا للانقسام الذي حدث بداخل الحزب الديموقراطي، فمن المتوقع أن يتحول دعم جماعات اللوبي الصهيوني إلى المرشح الجمهوري “دونالد ترامب” الذي يصرح بتأييده الكامل لإسرائيل وانحياز الرئيس بايدن لحركة حماس وتخليه عن إسرائيل.
وختاماً، يمكن القول إن الحرب في قطاع غزة قد أربكت المشهد السياسي في الداخل الأمريكي، وأن تداعيات هذه الحرب لن تقتصر على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولكن أيضًا على توجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بشكل عام، في ظل احتمالية إعادة هيكلة مؤسسات صنع القرار عقب الانتخابات المقرر عقدها في نوفمبر القادم.
[1] Patsy Widakuswara, “US military aid to Israel under scrutiny as Biden signs $26 billion in new assistance”, voa news. 24 April 2024. Available at https://www.voanews.com/a/american-panel-accuses-israel-defense-forces-of-systematic-pattern-of-war-crimes-/7583223.html
[2] “Toplines: May 2024 Times/Siena Poll of the Presidential Battlegrounds”, The New York times. 13 May 2024. Available at https://www.nytimes.com/interactive/2024/05/13/us/elections/times-siena-battleground-states-toplines.html & “Catch up on the findings of the latest set of Times/Siena polls”, The New York times. 14 May 2024. Available at https://www.nytimes.com/2024/05/14/us/politics/catch-up-on-the-findings-of-the-latest-set-of-times-siena-polls.html
[3] Christopher shell, “Most Black Americans Want a More Active U.S. Role in Ending the War in Gaza and Protecting Palestinian Lives”, Carnegie Endowment For international peace . 25 April 2024. Available at https://carnegieendowment.org/2024/04/25/most-black-americans-want-more-active-u.s.-role-in-ending-war-in-gaza-and-protecting-palestinian-lives-pub-92301
[4] Neha Gohil and Jon Henley, “Why have student protests against Israel’s war in Gaza gone global?”, The Guardian. 8 May 2024. Available at https://www.theguardian.com/world/article/2024/may/08/have-student-protests-campus-israel-war-gaza-global
[5] Sam Cabral and Ana Faguy, “What do pro-Palestinian student protesters at US universities want?”, BBC, 3 May 2024. Available at https://www.bbc.com/news/world-us-canada-68908885
[6] Khaleda Rahman, “Did College Protesters Sway Joe Biden?”, News Week, 9 May 2024. Available at https://www.newsweek.com/college-protesters-joe-biden-1898868
[7] Gregory Krieg, Annie Grayer and Jessica Dean, “Democratic divisions over Israel heat up over Gaza hospital blast controversy”, CNN. 20 October 2023. Available at https://edition.cnn.com/2023/10/20/politics/democrats-divisions-israel-gaza-hospital-tlaib/index.html
[8] David Weigel, “US Democratic groups vow to fight pro-Israel lobby”, Semafor. 11 March 2024. Available at https://www.semafor.com/article/03/11/2024/us-democratic-groups-vow-to-fight-pro-israel-lobby
[9] Stephanie Kelly, “Pressure rises on Biden, Democrats to reject AIPAC funds”, Reuters. 12 March 2024. Available at https://www.reuters.com/world/pressure-rises-biden-democrats-reject-aipac-funds-2024-03-12/
[10] Chris McGreal, “The pro-Israel groups planning to spend millions in US elections”, the Guardian, 22 March 2024. Available at https://www.theguardian.com/world/2024/apr/22/aipac-pro-israel-lobby-group-us-elections