تزايد استخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلة للضغط على بعض الدول خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يحمل انعكاسات على الاقتصاد العالمي الذي ما يزال في مرحلة التعافي من جائحة “كوفيد-19″، وتصاعد التوترات الجيوسياسية بين عدد من الدول الكبرى بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، فضلًا عن تزايد التوتر في منطقة الشرق الأوسط بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
توظيف متزايد:
تكشف العديد من الأدبيات أن هناك تزايدًا في استخدام آلية العقوبات الاقتصادية منذ انتهاء الحرب الباردة، ويُرى أن ذلك التحول مقبول في تحليله ورصده نظرًا لتعدد وتنوع الأدوات الاقتصادية التي تتبناها الدول في تعظيم إيراداتها من الخارج، وكذا تزايد الانفتاح على الأسواق العالمية، بما دفع بعض الدول لتكثيف فرض العقوبات لمواكبة تلك التحولات، وصاحب ذلك تنوع في شكل وطبيعة تلك العقوبات ما بين عقوبات مالية (تتضمن تجميد الأرصدة المالية، ومنع الولوج لسوق المال العالمي)، وتجارية (حظر تصدير واستيراد بعض السلع، أو حتى رفع تكلفتها عبر منع التأمين عليها)، وعقوبات تختص بحظر استقبال الأفراد المفروض عليهم عقوبات، أو استقبال الأفراد من بعض الدول بشكل عام.
تزايد الحديث عن تلك العقوبات مؤخرًا عقب شن روسيا حربها على أوكرانيا في فبراير 2022، ويدلل على ذلك عدد العقوبات التي فُرضت على الكيانات والأفراد الروس حتى 22 أبريل 2024، وبالمثل عند النظر لنفس العقوبات التي فُرضت على دول أخرى خلال السنوات الماضية، مقارنةً بما بعد عام 2022، وهو ما يوضح أن نسبة الزيادة في فترة تبلغ نحو عامين كانت أكبر مقارنةً بعدد العقوبات المفروضة خلال عدد سنوات أكبر، وهو ما يوضحه الشكل التالي:
Source: https://www.castellum.ai/russia-sanctions-dashboard
من جهة أخرى، يُرى أن آلية فرض العقوبات الاقتصادية أصبحت تستخدم لتحسين صورة الدول التي تتبناها في سياستها الخارجية بشكل كبير، ولعل فرض عقوبات أوروبية وأمريكية على كيانات ومستوطنين إسرائيليين في أبريل 2024 على خلفية استهداف فلسطينيين في الضفة الغربية والقدس يعد نموذجًا لهذا الأمر، حيث يأتي ذلك في إطار تحسين صورة بروكسل وواشنطن التي تدهورت نتيجة عدم اتخاذ تدابير جادة لمنع الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، بل ودعم تل أبيب في المحافل الدولية عبر منع اتخاذ قرار بشأنها (الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن نموذجًا).
وهناك العديد من التقارير التي تشير ضمنًا إلى الأسباب الحقيقية لتزايد الاعتماد على أداة العقوبات الاقتصادية، والتي تتبنى فكرة أن تزايد المنافسة على تعظيم الثقل الاستراتيجي والاقتصادي عالميًا، يدفع لاستخدام كافة الوسائل، والتي من بينها العقوبات، لتحقيق ذلك الهدف، وتوقع في هذ الصدد تقرير “التوجهات العالمية 2040” الصادر عن مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي في مارس 2021، أنه خلال العقدين القادمين قد تصل المنافسة على النفوذ العالمي إلى أعلى مستوياتها منذ الحرب الباردة، وأنه ستتنافس مجموعات أوسع من الجهات الفاعلة على تحقيق أيديولوجياتها وأهدافها ومصالحها في ضوء السعي نحو التحول لنظام دولي متعدد الأقطاب، وبالتالي ووفقًا لهذا المنظور، فإن استخدام العقوبات الاقتصادية قد يحد من تنامي نفوذ بعض الدول، ويوفر للدول التي تفرضها مجالات أرحب للتحرك عبر تحييد منافسيها عن المشهد الاقتصادي، والاعتماد على دول أخرى مؤثرة.
يؤخذ في الاعتبار أن روسيا التي فُرضت عليها عقوبات كثيرة خلال الفترة الماضية لم تتأثر بالشكل المطلوب، بل واستمرت في الحرب ضد أوكرانيا، نظرًا للعديد من الاعتبارات، من أهمها تنوع مصادر دخلها القومي (إيرادات صادرات النفط والغاز، والمنتجات الصناعية والزراعية، والمواد الخام المتنوعة، والأسلحة)، إضافة إلى علاقاتها الثنائية المتعددة، وعضويتها في العديد من الكيانات الاقتصادية خاصةً الآسيوية وكومنولث الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، بما قلص من فاعلية تلك العقوبات، وكان أثرها السلبي أكبر على الاقتصاد العالمي في العديد من المجالات.
آثار ممتدة:
إن تزايد استخدام آلية العقوبات الاقتصادية له تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي، خاصةً أنه يؤكد الشكوك حول طبيعة العلاقات الدولية الآخذة في التراجع بسبب المنافسة على المصالح الاقتصادية، ولعل نموذج الحظر الأمريكي/ الأوروبي المتزايد على بعض منتجات الصين، والذي يعتبر بمثابة نوع من أنواع العقوبات التجارية، يعد من ضمن الأدوات المعرقلة للتعاون العابر للحدود، ويؤثر بدوره على الاقتصاد الصيني الذي يُسهم بدور فعال في الاقتصاد العالمي، خاصةً فيما يتعلق بدعم سلاسل الإمداد العالمية.
وفي المقابل تقوم الصين بفرض عقوبات على شركات أمريكية وأوروبية تحت ذرائع مختلفة، مثل بيع سلاح لتايوان، وبالمثل هناك تجميد وعمليات مصادرة متبادلة بين الدول الأوروبية وروسيا لأرصدة بنوكهما وأصولهما الواقعة ضمن نطاق سلطتهما، بما يعزز من تحوط المستثمرين تجاه ضخ رؤوس الأموال في السوق العالمي، في ضوء تزايد المخاطر السياسية التي تهدد الأصول المالية، وما لذلك من تأثير سلبي على سوق المال العالمي ومناخ الاستثمار بشكل عام، الذي بات أكثر حساسية تجاه التوترات الجيوسياسية.
وعلى مستوى سوقي السلع الاستراتيجية والأساسية، فقد شهدا تذبذبًا واضحًا منذ فبراير 2022 (بدء الحرب الروسية الأوكرانية)، خاصةً مع تزايد فرض العقوبات على تصدير بعض السلع المهمة، وكذا على وسائل النقل والخدمات اللوجستية التي تسهم في عملية التصدير من بعض الدول، وتحديدًا روسيا، بما قوّض من القدرة على تصدير بعض السلع للخارج، هذا ويأتي النفط الروسي في مقدمة الاستهداف الغربي، والذي أدى لتراجع المعروض من النفط في السوق العالمي وبالتالي دفع سعره للارتفاع، علمًا بأن هناك توجهات أوروبية لفرض عقوبات مماثلة على الغاز الطبيعي المسال الروسي، ولكن لذلك قيود، على رأسها استمرار بعض الدول الاعتماد على ذلك الغاز من جهة، كما أن تقييد تصديره سيؤدي إلى ارتفاع سعره في السوق العالمي من جهة اخرى، وسيؤدي ذلك إلى ضرر على الدول المستوردة له خاصةً الأوروبية منها.
وقد سعت الدول الغربية لزيادة ضغوطها على العديد من الدول في الماضي عبر فرض عقوبات تستهدف قطاعاتها الاقتصادية الحيوية، وكانت لا تظهر آثار تلك العقوبات بشكل واضح على الاقتصاد العالمي نظرًا لاستهداف دول ليست مؤثرة، كما كان يُستهدف قطاعات أو أشخاص بعينهم، إلا أنه مع تزايد الاستهداف الأمريكي والأوروبي لروسيا، فقد تأثر الاقتصاد العالمي، ومن ضمن العواقب أيضًا استهداف أكثر من دولة في نفس الوقت مسئولة عن تصدير سلع مهمة، مثل الاستهداف الأمريكي لروسيا وإيران وفنزويلا المصدرين للنفط، ويُشار إلى أنه في أبريل 2024 عادت واشنطن لاتخاذ تدابير عقابية بشان تصدير النفط الفنزويلي، مما أسهم في رفع سعره في ذلك التوقيت.
إن تأثير العقوبات الاقتصادية لا ينحصر في الدول المستهدفة والاقتصاد العالمي فحسب، بل قد يمتد بشكل مباشر للكيانات الاقتصادية الموجودة داخل الدولة التي تفرض العقوبات، فمثلًا تكبدت العديد المؤسسات الاقتصادية في الداخل الأمريكي ملايين الدولارات لانتهاكها العقوبات المفروضة على روسيا في عام 2023، وكانت معظمها بنوك (وفق تقرير لشركة الاستشاراتProtiviti )، أخذًا في الاعتبار أن عددًا من البنوك الأمريكية تواجه حاليًا أزمات خاصة بها، لذلك، فإن تأثير العقوبات بمثابة عبء إضافي على القطاع المصرفي الأمريكي، والذي سيفقد جزءًا من إيراداته بسبب وقف التعامل مع بعض الكيانات الخارجية تحسبًا من فرض غرامات عليها.
في ذات السياق، أسفر الحصار الغربي على روسيا عن المساهمة في زيادة تهديدات الأمن الغذائي في العديد من الدول، خاصة للدول المستوردة للأسمدة والحبوب الروسية، حيث أسهم الحصار في تقليص المعروض من تلك السلع في السوق العالمي، ورفع أسعارها بشكل قياسي، وقد اتجهت بعد ذلك العديد من الدول لزيادة اكتفائها الذاتي بسبب تلك الأزمة، فيما رفع البعض الأخر إنتاجها من الغذاء للاستفادة من إيرادات تصديره مما أسهم في انخفاض سعره في السوق العالمي بشكل تدريجي، ليسجل مؤشر منظمة الفاو لأسعار الغذاء مستوى في عام 2024 أقل من نظيريه في 2022 و2023، ولكنه يظل مرتفعًا عن مستوى ما قبل جائحة “كوفيد-19″، هذا مع عدم اغفال وجود عوامل أخرى تؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء (مثل العوامل البيئية التي منها تراجع هطول الأمطار).
على جانب أخر، يتصاعد التحرك المناهض لروسيا والصين، وهو ما أبرزه اجتماع وزراء مالية مجموعة السبع في الذي عُقد في شهر مايو 2024، والذي ناقش كيفية استخدام الأصول الروسية المجمدة في دعم المجهود الحربي في أوكرانيا، وكذا التعامل مع الصادرات الصينية المتنامية، وإن كان ذلك غير معلن عنه رسميًا بأنه يندرج تحت آلية العقوبات الاقتصادية، إلا أنه في مضمونه يعتمد على نفس آلية تطبيقها لإحداث آثار مماثلة، والتي تتضمن الإكراه الاقتصادي وتقويض تنامي قدرات البلدين، وهو ما يزيد الضغط على الاقتصاد العالمي الذي يحتاج إلى تحفيز وليس خفض التفاعلات الدولية.
وختامًا، إن نموذج المنافسة الاقتصادية العالمية الحالية أصبح يعتمد على كافة الوسائل الممكنة، والتي منها فرض عقوبات اقتصادية لتحقيق مكاسب متزايدة لصالح الدول التي تفرض تلك العقوبات، وذلك تحت غطاء سياسي ودبلوماسي، ولكن لذلك ارتدادات سلبية على الاقتصاد العالمي، وعلى الرغم من أن الموقف المالي لبعض الدول يسمح لها بمواجهة الصدمات الناتجة عن تطبيق تلك العقوبات، إلا أنها ستتأثر سلبًا مستقبلًا، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، أخذًا في الاعتبار أن تطبيق العقوبات الاقتصادية في العلاقات الدولية أثبت عدم فاعليته في العديد من الحالات (عدم تغيير السياسة الداخلية أو الخارجية لبعض الدول)، تاركًا فقط آثارًا اقتصادية سلبية تكون الشعوب هي المتضرر الأول منها.