تمثل استقالة الممثل الخاص للأمين العام رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا “عبدالله باتيلي” في 16 أبريل الماضي، وتولي نائبة رئيس البعثة للشئون السياسية “ستيفاني خوري” مهامه بالإنابة، نقطة نظام جديدة في مسار الأزمة الليبية، يتعين الوقوف عندها وإعادة النظر في وضع العملية السياسية التي ترعاها المنظمة الدولية، والتى لم تنجح حتى الان في وضع حدًا لدوامة المراحل الانتقالية المستمرة منذ عام 2011، الأمر الذي يثير تساؤلات عدة بشأن فاعلية الحوارات الليبية وعملية التسوية الشاملة للأزمة التي كانت عنوان الوثائق التي أنتجها ملتقى الحوار السياسي الليبي خلال اجتماعات تونس في نوفمبر عام 2020.
لقد تركز مسار المفاوضات السياسية الليبية خلال عمليتي الصخيرات (2015) وجنيف (2021) على تشكيل السلطة التنفيذية كأولوية مقدمة عن بقية ملفات التسوية الشاملة للأزمة التي جرى إهمالها خلافًا للوثائق الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وكان ذلك سمة ميزت المفاوضات الليبية خلال العقد الماضي، والتي غالبًا ما يفضل أطرافها الذهاب نحو الخيارات الصعبة بدلًا من الخيارات السهلة التي يمكن أن تجنب البلاد دوامة المراحل الانتقالية.
التفاهم الفضفاض حول العملية السياسية:
يمكن القول إن ثمة تفاهم ضمني عام، لكنه واسع وغير محدد، بين أغلب الأطراف الوطنية والأجنبية المنخرطة في الأزمة الليبية، يتمثل في التركيز على أولوية معالجة الانسداد السياسي من خلال إعادة النظر في الترتيبات السياسية وشكل وتركيبة السلطة التنفيذية، التي شاركوا في اختيارها عبر العملية التي ترعاها الأمم المتحدة. وهو نهج متكرر منذ 2011، وكان عاملًا رئيسيًا أسهم في استدامة المراحل الانتقالية.
ويشمل هذا التفاهم الضمني ثلاثة اتجاهات رئيسية يجري الدفع نحوها من قبل الأطراف المحلية والأجنبية بحجة معالجة الانسداد السياسي الراهن، تتمثل في التالي:
- الاتجاه الأول: يدفع نحو إعادة توحيد وتشكيل السلطة التنفيذية كشرط لإجراء الانتخابات، ويطالب به رئيس مجلس النواب “عقيلة صالح” ومجموعة من الشخصيات والأحزاب السياسية بقيادة الحزب الديمقراطي، إلى جانب فرنسا من المجموعة الدولية.
- الاتجاه الثاني: يدفع نحو الذهاب إلى الانتخابات مباشرة لإنتاج سلطات شرعية بديلة عن سلطات الأمر الواقع التي هيمنت على المشهد العام في البلاد، ويقود هذا الاتجاه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والأمم المتحدة إلى جانب عدد من الأطراف المحلية التي تشكك في نوايا المطالبين بإعادة تشكيل السلطة التنفيذية، وفي مقدمة هؤلاء رئيس حكومة الوحدة الوطنية “عبد الحميد الدبيبة”.
- الاتجاه الثالث: يدفع نحو الاستفتاء على الدستور، وتقوده الهيئة التأسيسية التي أنتجت الوثيقة الدستورية منذ 2017 وتتطلع إلى طرحها للاستفتاء العام حتى يتسنى بناء الترتيبات السياسية القادمة على أساسها، وقد تمكنت الهيئة مؤخرًا من الحصول على حكم قضائي جديد يؤيد طرح الوثيقة الدستورية للاستفتاء.
غير أن هذه الاتجاهات وإن كانت متفقة على أولوية معالجة الانسداد السياسي، إلا أن أهداف أصحاب كل اتجاه لا تضمن إعادة ليبيا إلى مسار سياسي مستقيم ينهي دوامة المراحل الانتقالية، لأنها ترى أن الخلل الراهن مرده ضعف السلطات التنفيذية والتشريعية الحالية، وتتغاضى عن معالجة الأسباب الكامنة وراء هذا الضعف الذي وسم السلطات الانتقالية، والمتمثل في عدم معالجة القضايا الاقتصادية والأمنية والاجتماعية لعملية التسوية الشاملة التي يجري من خلالها نسف التوافقات التي يتم التوصل إليها عقب كل مفاوضات، وتخلق مبررًا للانقسام السياسي.
قضايا التسوية الشاملة للأزمة الليبية:
في أول لقاء جمع رئيس المجلس الرئاسي “محمد المنفي” مع القائمة بأعمال رئيس البعثة الأممية ستيفاني خوري في 22 مايو الماضي، في مستهل مباشرة الأخيرة لمهامها، بحث الجانبان سبل إحراز تقدم في استكمال تنفيذ المرحلة التمهيدية للانتخابات، وتطرقا إلى الجهود الدولية والإقليمية الرامية للدفع قدمًا بالعملية السياسية ومعالجة المسارين الاقتصادي والأمني، وهو ما يمكن تفسيره بإعطاء أولوية لهذه المسارات على ما يجري التحضير له عن مسألة الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة أو الاستفتاء على الدستور، وما يمكن لذلك أن يمهد لإطلاق مفاوضات جديدة حول التسوية الشاملة للأزمة الليبية.
وقد كشف البيان الصادر عن المكتب الإعلامي لرئيس المجلس الرئاسي عقب اللقاء، ملامح هذا الاتجاه الجديد لاختراق الانسداد الراهن في ليبيا، لاسيما وأنه حدد عدة مسارات يمكن العمل عليها لضمان نجاعة أي ترتيبات سياسية، وتشمل تلك المسارات ما يلي:
- إعادة هيكلة الاقتصاد الليبي وإقرار ميزانية موحدة عبر اللجنة المالية العليا التي شكلها المنفي في يوليو 2023، ومكافحة الفساد وتضخم الإنفاق وتزايد عمليات التهريب.
- هيكلة النظام الإداري، وهو ما يعني إعادة النظر في الهيكل الراهن لنظام الإدارة والحكم المحلي، بما يسمح بتعزيز اللامركزية وتطوير دور المجالس البلدية المنتخبة والمتطلعة للحصول على صلاحيات إدارية موسعة.
- إعادة تفعيل المسار الأمني عبر إطار اللجنة العسكرية المشتركة (5+5).
- المضي قدمًا في المسار الحقوقي المنبثق عن مخرجات مؤتمر برلين (2020) بموجب البروتوكول الموقع والذي يتطلب خطوات إجرائية فاعلة، والتأكيد على استكمال مشروع المصالحة الوطنية الشاملة المنجزة والتي يختص بها المجلس الرئاسي، وفق وثيقة خارطة طريق المرحلة التمهيدية للحل الشامل.
ويلاحظ أن المسارات التي ناقشها المنفي وخوري قد وضعت محددًا رئيسيًا للمفاوضات القادمة، يتمثل في أنه يتعين أن تجري تلك المسارات في إطار عملية برلين التي أنتجت مخرجاتها سلطة موحدة في فبراير 2021، وأدى عدم التوافق عليها بين القوى الدولية والإقليمية والأطراف الليبية لاحقًا إلى عودة الانقسام السياسي الراهن في ليبيا، وهو ما يعني أن أي ترتيبات سياسية قادمة يتعين أن تأتي عبر الانتخابات التي يتطلب إجراؤها توافقًا أوسع واتفاقًا واضحًا على الملفات الاقتصادية والأمنية والمالية، وهي قضايا يتعين تسويتها بين مختلف الأطراف قبل إقرار الترتيبات السياسية لتفادي تكرار الانسداد السياسي.
تحديات التسوية الشاملة في ليبيا:
تنقسم الأطراف المحلية والقوى الأجنبية حول عملية التسوية الشاملة للأزمة الليبية، وهو وضع من المرجح أن يتفاقم خلال الفترات المقبلة، نتيجة تفاقم الانقسام الحاصل بين القوى الكبرى وتدخلها في الميدان الليبي، وهو الأمر الذي يفرض قيودًا على حركة الأطراف المحلية والقوى الإقليمية المعنية بالأزمة. ويحتاج الوصول إلى توافق دولي في هذا الشأن إلى قمة أخرى بين القوى الدولية والإقليمية على غرار قمة برلين (2020) من أجل حشد الدعم لعملية التسوية في ليبيا، غير أن هذه القمة يصعب تنظيمها على المدى القريب بسبب تصاعد الخلاف بين الغرب وروسيا على خلفية الحرب الأوكرانية، والتباين الواضح في مواقف القوى الغربية حيال الوضع الراهن في ليبيا.
هذه الوضعية المتشابكة مثلما تفرض قيودًا على حركة الأطراف المحلية في ليبيا، فهي تكبل أيضًا الأمم المتحدة التي باتت غير قادرة على لجم المبادرات الموازية أو قيادة جهود الوساطة في انتظار المبادئ التوجيهية لمجلس الأمن الدولي والتي تصدر عادة في أواخر العام، وغير قادرة على تعيين قيادة جديدة لأنها ستكون محل تنافس بين القوى الكبرى.
وختامًا، أمام هذا الوضع، يتعين على الأطراف الوطنية الليبية إيلاء أهمية قصوى لمعالجة الأسباب الكامنة للانقسام والانسداد السياسي قبل التوجه إلى الانتخابات أو اختيار سلطة موحدة سواء عبر الانتخابات أو غيرها، لاسيما أن من شأن هذه الخطوة أن تحدث إختراقًا فى الازمة الليبية، ويمكن أن تضمن اتساع التوافق على المستوى الوطني وعدم عودة الجمود السياسي، الأمر الذى يتيح إنتاج سلطات فعالة فى إدارة الوضع في الداخل ومن ثم عودة الاستقرار إلى البلاد.