تشهد الحدود اللبنانية الإسرائيلية مرحلة خطرة من التصعيد في الأيام الأخيرة، ما يُنذر بحرب إقليمية كبرى بين محور إيران مجتمعًا، وبين محور إسرائيل بدعم غربي مباشر، وما بينهما من دول تتشابك مصالحها مع المحورين، أو أجبرتها أحكام الجغرافية ومصالح الطرفين وفقًا لأهداف المرحلة الحالية من المواجهة.
رسائل متبادلة:
ارتفعت حدة رسائل الردع المتبادلة بين حزب الله وإسرائيل بعد إعلان فشل مهمة المبعوث الأمريكي إلى لبنان “عاموس هوكشتاين” في التوصل إلى صيغة دبلوماسية مقبولة لدى الطرفين، بل تحدث بعض الساسة المحسوبين على حزب الله أن رسالة المبعوث الأميركي الأخيرة حملت تهديدًا مباشرًا باقتراب موعد التصعيد الإسرائيلي على لبنان خلال شهر يوليو، وفقًا للتقدير الأمريكي، إذا لم يقبل حزب الله بالتهدئة، والعودة إلى ما بعد نهر الليطاني؛ لتتمكن إسرائيل من إعادة مستوطنيها في مناطق الشمال، وذلك قبل شهر سبتمبر المقبل وفقًا للخطة التي أعلنتها هيئة الأركان، بما هو مخطط للعملي العسكرية المحتملة.
ومن مظاهر التصعيد الخطر بين إسرائيل وحزب الله، إعلان الإعلام العبري نقلًا عن مسئولين عسكريين في جيش الاحتلال الانتهاء من وضع خطة غزو جنوب لبنان برًا وجوًا والتصديق عليها عسكريًا، ولم يتبق إلا القرار السياسي، وترافق ذلك مع تسريبات متعمدة تتحدث عن اقتراب إسرائيل من إعلان انتهاء العملية العسكرية في رفح، والانتقال إلى مرحلة “ج”، التي تعتمد على العمليات العسكرية النوعية، إذا ما اقتضت الحاجة لذلك، حيث سافر وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت” إلى الولايات المتحدة؛ للتأكد من استمرار تدفق السلاح اللازم للجيش الإسرائيلي في المرحلة المقبلة، وفقًا لما أعلنه غالانت في زيارته الأخيرة لواشنطن، ولقائه مع المسئولين الأمريكيين بخصوص ما سيتم على الجبهة اللبنانية.
على جانب آخر، قرر حزب الله الرد برسائل أكثر دقة، فقام بعملية مسح و تصوير عسكري متطور لأكثر المناطق حساسية في إسرائيل، وأطلق عليها إعلاميًا “الهدهد” كاشفًا بها عن بنك أهدافه المتوقع حال اتخذت إسرائيل قرار الحرب على لبنان، فضلًا عن الكلمة التي ألقاها الأمين العام للحزب “حسن نصر الله”، التي توعد فيها بحرب ضروس على إسرائيل برًا و بحرًا و جوًا و بلا ضوابط أو سقوف، بل وصل الأمر إلى تهديده دولة قبرص العضو في الحلف الأطلسي، إذا ما قررت السماح باستخدام أراضيها في خدمة الحرب الإسرائيلية على لبنان، و منها أرسل نصر الله رسالة لكل الدول التي تقع ضمن هذا النطاق الجغرافي، بأن السماح لإسرائيل باستخدام بنيتها التحتية العسكرية في الحرب على لبنان سيجعلهم ضمن بنك أهداف الحزب.
أهداف منضبطة:
لدى إسرائيل أهداف عسكرية معلنة في حربها على غزة وتصعيدها في لبنان، منها: القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، والإفراج عن المحتجزين منذ عملية السابع من أكتوبر، والقضاء على أي تهديد مستقبلي قد يأتي من غزة، وبالنسبة للبنان، فالهدف الإسرائيلي المعلن يتمثل في إبعاد حزب الله، وتحديدًا قوات النخبة “الرضوان” عن الحدود اللبنانية مع الأراضي المحتلة إلى ما بعد نهر الليطاني؛ لتوفير الأمان إلى مستوطني الشمال.
وهناك أهداف أهم غير معلنة لإسرائيل و تتمثل في: تدمير كل سبل الحياة في القطاع خلال المرحلة الأولى في مشروع التهجير، تمهيدًا لتنفيذ مخطط “إسرائيل الكبرى”، و الذي يتطلب خلق شرق أوسط جديد كما ذكر “نتنياهو”، وعدم عقد أي صفقة فاعلة تقضي بدورها على أفق ومشروعية استمرار الحرب على قطاع غزة، وهذا يتطلب عدم الإفراج عن كل المحتجزين الإسرائيليين داخل القطاع، بالإضافة إلى منع النازحين الفلسطينيين من العودة إلى مناطقهم في الشمال، بل تكديسهم بالقرب من خط “نتساريم” الذي فصلت به إسرائيل شمال القطاع عن جنوبه، والمواجه أيضًا للرصيف البحري الأمريكي، الذي تم استئناف العمل به بعد تعطله لبعض الوقت، إضافةً إلى شق ممر ديفيد، الذي بدأ تشغيله تجريبيًا مؤخرًا بامتدادات ممر نتساريم المشار إليه.
كما تستهدف إسرائيل توفير سيناريو تهجير قد يكون قابلًا للتنفيذ، بعد أن قاومت مصر مخططات استقبال سكان القطاع في أراضي سيناء، ومنها بدأ مشروع الرصيف البحري الأمريكي؛ لاستغلاله فيما بعد في عملية نقل الفلسطينيين إلى الأراضي الأوروبية كمحطة ترانزيت ومنها إلى دول قبلت صفقة احتوائهم كما حدث سابقًا في عام ١٩٤٨.
أما الأهداف الإسرائيلية غير المعلنة في لبنان، فتتمثل مبدئيًا في القضاء على كل البنى التحتية العسكرية لحزب الله في هذه المنطقة خاصةً شبكة الأنفاق تحت الأرض، التي تصل الجنوب اللبناني بعمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، إضافةً إلى تأليب المجتمع اللبناني وتحديدًا السني / المسيحي على حزب الله، باعتباره المسئول عن تدمير لبنان، ما يوفر شرعية دولية للقضاء عليه.
وتتخوف إسرائيل من انشغال الولايات المتحدة بجبهات أخرى مثل أوكرانيا، وتايوان، وبحر الصين الجنوبي، وذلك قبل تصفية المشروع الإيراني في المنطقة، والقضاء على خطر المشروع النووي، ما يدفع الدولة الإسرائيلية العميقة للتعجيل بحرب الشرق الأوسط الكبرى لفرض أولوياتها على طاولة المعسكر الغربي، وهو ما قد يضمن انخراط أمريكي / بريطاني كامل في الميدان العسكري لمعاونة إسرائيل؛ على اعتبار أن الحرب على حزب الله تعني فتح كل الجبهات سواء في العراق وسوريا واليمن، بل وإيران أيضًا إذا ما شعرت باقتراب دورها في الحرب، وانسداد أفق المفاوضات بعد انتهاء صلاحية نظرية التخادم الاستراتيجي المتبعة منذ عقود بينها وبين المعسكر الغربي، كما قد تدفع الحرب المحتملة إلى القضاء على التفاهمات الخليجية الإيرانية التي تقوم على التهدئة وتطبيع العلاقات، ومن ثم محاولة دمج هذه الدول في تحالف عسكري مع إسرائيل، بعد أن تم رفضه سابقًا من قبل معظم دول المنطقة.
وعن أهداف حزب الله في الوقت الراهن، تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن هناك رغبة داخل الحزب في الفترة الأولى التي تلت “طوفان الأقصى” سوى هزيمة إسرائيل داخل قطاع غزة دون توسع الحرب، على أن يظل حضوره الميداني “حضورًا شرفيًا” دون التورط بشكل كبير، والابتعاد عن المواجهة الشاملة التي قد تعرض الجنوب اللبناني والحزب إلى خطر وجودي، ولكن الحزب فوجئ بعروض أمريكية لا تتعلق بالحرب في غزة فحسب، بل تتعلق أيضًا بإعادة تقسيم الحدود الجيوسياسية اللبنانية، و هو ما جعل الحزب يدرك أن المواجهة قد اقتربت وأن الأمر لم يعد يتعلق بالقضية الفلسطينية وحدها، كما أنه ليس من الضروري انتهاء حرب أوكرانيا حتى تبدأ حرب الشرق الأوسط.
إزاء هذا الأمر، أظهر الحزب تغيرًا ملحوظًا في نبرة خطاباته، فمن مجرد تعهدات بعدم توسع الحرب وتبرير أحداث السابع من أكتوبر، والنفي القاطع بعدم علمه المسبق أو مشاركته بهذه الأحداث، إلى تهديدات بحرق تل أبيب وكافة مرافقها الحيوية إذا أقبلت على غزو لبنان، خاصةً بعد أن قامت إسرائيل بسلسلة اغتيالات لكبار مسؤولي الحزب العسكريين، وبما أربك الوضع الميداني في جنوب لبنان، وأكد لمحور إيران أن الحرب قد بدأت فعلًا، وأن ما تفعله الولايات المتحدة هو مجرد تأمين الطريق أمام إسرائيل، بهدف القضاء على القوى المرتبطة بإيران، واحدًا تلو الآخر، وتحقيق الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية الأمريكية بأقل الخسائر، لذلك، بدء حزب الله في لبنان بالاستعداد للحرب الشاملة، بعد أن انحسرت خياراته.
حقيقة الموقف الأمريكي:
تكشف الأهداف الأمريكية الحالية في الشرق الأوسط حقيقة الموقف الأمريكي وعما إذا كانت تريد انتهاء الحرب في منطقة الشرق الأوسط أم توسعها والاستثمار فيها، وتتمثل هذه الأهداف في القضاء على النفوذين الروسي والصيني في المنطقة، وهو ما لن يتحقق إلا بإحداث تغيير جذري في خريطة تحالفات المنطقة التي تشكلت حديثًا، وتعمل واشنطن حاليًا على تهيئة الظروف لتحقيق ذلك، سلمًا أو حربًا، يُضاف إلى ذلك إضعاف وضع الصين الاقتصادي من خلال إغلاق حركة النفط والتجارة أمامها في منطقة الشرق الأوسط؛ لثنيها عن التحرك ضد تايوان، ولتقويض القدرة على تنفيذ مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو ما بدأ فعليًا بعد تزايد التوترات في البحر الأحمر.
وتستهدف الولايات المتحدة أيضًا إعادة بعض الدول الإقليمية إلى المظلة الأمريكية بعد أن تمردوا عليها منذ عام ٢٠١١، بوضعهم في خطر وجودي يستوجب إعادة هيكلة تحالفهم الكلاسيكي مع الغرب، إضافةً إلى القضاء على شبكة إيران في المنطقة وإنهاء خطر الملف النووي، وصولًا إلى استعادة هيبة إسرائيل.
وختامًا، إن استمرار نتنياهو في حرب غزة لا يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية، حيث لم تتحقق الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل في قطاع غزة، كما تم التعامل بحذر مع مخطط الترانسفير، الذي رفضته كل الأطراف الدولية والإقليمية إضافةً إلى دول الجوار وعلى رأسها مصر، وهو الأمر الذي يدفع بإسرائيل – في الوقت الراهن – للقفز إلى ساحة جديدة من ساحات الحرب والتنافس مع إيران، ومحاولة توفير شرعية دولية أمام الحرب الجديدة، وبالرغم من إعلان البيت الأبيض رفضه توسع الحرب في المنطقة – كما رفض شكليًا تصعيد إسرائيل في رفح – فإن كل الحقائق تؤكد أن مصلحة وأهداف إسرائيل والولايات المتحدة تقتضي نقل الحرب الآن من القطاع إلى لبنان أو سوريا، وتسويق الحرب بأنها حرب على إيران وأذرعها وليست على الفلسطينيين، وهو ما قد يشكل مقدمة لأحداث كبرى أخرى مدرجة على الأجندة الإسرائيلية.