جاءت الصدمات الاقتصادية المتتالية لتضيف إلى سلسلة التهديدات التي تواجه النظام الغذائي العالمي، وعلى الرغم من وجود تدابير قصيرة الأجل للتصدي لتلك الأزمات، فإن ذلك لا يكفي لمعالجة العوامل الأساسية المسببة لها، مع التخوف من أن تدفع تلك التهديدات الدول لتقييد تدفق المواد الغذائية الأساسية لتضمن لشعوبها كفايتهم، مما يؤثر على توفير الأمن الغذائي في دول أخرى.
وقد لُوحظ في الآونة الأخيرة، تزايد تهديدات الأمن الغذائي العالمي، حيث لم يعد يقتصر الأمر على التهديدات الناتجة عن الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في غزة والسودان، وبدأت تظهر مخاوف متعلقة بنشوب موجة أخرى من تفشي الأوبئة والفيروسات، وكذا رصد درجات حرارة قياسية في الفترة الأخيرة، التي تؤثر سلبًا على الإنتاجية الزراعية، وتبرز هذه العوامل مجتمعة الحاجة الملحة إلى وضع مسألة انعدام الأمن الغذائي في مقدمة أجندة وأولويات الدول والجهات المختصة.
تفشي الفيروسات:
متحور كورونا الجديد:
يتغير فيروس SARS-COV-2 المتسبب الأساسي في جائحة كوفيد19 باستمرار، فمنذ عام 2020، بدأت تظهر أنواع جديدة من الفيروس وتختفي، ويُشار في هذا الصدد إلى إعلان منظمة الصحة العالمية في مايو عام 2024 ظهور متحور “FLiRT” الأكثر انتشارًا وخطورة، حيث بدأت الشكوك تتزايد من تكرار تأثير جائحة كورونا، لاسيما أن المتحور الجديد يتسم بقدرته على الانتشار ومقاومته للقاحات، نتيجة لوجود الطفرات الجديدة في جيناته، وقد تم تسجيل معدلات مرتفعة من الفيروس في الولايات المتحدة وألمانيا وسنغافورة، مما أثار التخوفات من مدى فعالية وتأثير اللقاحات تجاه ذلك الفيروس.
انفلونزا الطيور:
أعلنت وزارة الزراعة في ولاية “فيكتوريا” بأستراليا، عن تفشي انفلونزا الطيور في منطقة “ملبورن”، حيث تم اكتشاف حوالي 120 ألف دجاجة مصابة بالمرض، الذي أسفر عنه حظر وزارة الزراعة الفلبينية واردات الطيور البرية والداجنة ولحوم الدواجن من أستراليا، مما يضغط على الأمن الغذائي في الفلبين، لاسيما أن استراليا تُصنف على أنها رابع أكبر مصدر للحوم الدجاج للفلبين، كما قامت الولايات المتحدة بفرض قيود على استيراد بعض الدواجن ومنتجاتها من ولاية فيكتوريا بأستراليا مع تأكيدها أن القيود سارية من 22 مايو عام 2024 حتى إشعار أخر[1].
الحمى الصفراء:
تكمن خطورة هذا المرض في إمكانية تحوله إلى وباء، حيث ينتقل إلى البشر عن طريق لدغات البعوض المصاب، وقد رصدت حالات إصابة بالمرض في أكثر من بلد إفريقي في الشهور الأخيرة[2]، ووصل معدل الوفاة الناجمة عن المرض إلى 11% من تلك الحالات (وفقًا لمنظمة الصحة العالمية)[3]، مع أن هذا المرض قد أًعيد تقييمه على أنه متوسط الخطورة، وأن خطره عالميًا هو خطر متدني في الوقت الراهن.
يُثار التخوف من تفشي المرض في السودان تحديدًا في ضوء الصراع الراهن، وتراجع الأوضاع الصحية، ومعاناة السكان من سوء التغذية، وهو ما يلقي بأعباء على دول الجوار في ظل احتمال تطوره لينتقل من شخص إلى آخر بواسطة النازحين واللاجئين الحاملين للفيروس، إذ فر 1,5 مليون شخص من السودان (وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة يناير عام 2024)[4] إلى البلاد المجاورة، التي تعاني بعضها بالفعل من انتشار مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية وتفشي الأمراض، كما يؤدي التدفق الكثيف للاجئين السودانيين إلى تكثيف المنافسة على الموارد الغذائية الشحيحة بالفعل.
وتكمن خطورة تفشي الأوبئة والفيروسات في العودة مرة أخرى إلى الإغلاق الكلي والإيقاف شبه التام للأنشطة الاقتصادية، وفرض الدول المزيد من الحظر على الاستيراد من الدول التي تتفشى فيها الفيروسات، بما قد يؤدي بدوره إلى التعثر في تجارة الغذاء العالمية.
ارتفاع قياسي في درجات الحرارة:
تتصاعد الأزمات الناتجة عن التغير المناخي، وهو ما دفع لظهور ما يطلق عليه “التضخم الحراري”[5]، الذي يؤثر بشكل كبير على أسعار الغذاء خاصة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، فقد يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة 3,2 نقطة مئوية، وارتفاع التضخم الاجمالي بنسبة 1,18 نقطة مئوية سنويًا (وفقًا لمعهد بوتسدام الألماني لأبحاث تغير المناخ)[6].
وتكمن خطورة هذا الأمر في وجود توقعات بنسبة 47% أن يتجاوز متوسط درجة الحرارة العالمية خلال الفترة (2024 – 2028) مستوى 1.5 درجة مئوية فوق عصر ما قبل الثورة الصناعية (وفقًا للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية)[7]، ويمثل ذلك تحذيرًا من أن العالم يقترب من الحد المحظور المحدد في اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، مع الأخذ في الاعتبار أنه تم تحديد عام 2023 أنه العام الأكثر دفئًا، حيث بلغ المتوسط العالمي لدرجة الحرارة القريبة من السطح نحو 1.45 درجة مئوية، ومن المتوقع أن يكون العام الحالي 2024 أكثر حرارة من عام 2023، حيث أشارت تقارير إلى أن شهر مايو عام 2024، بات أكثر الشهور حرارة (وفقًا لمعهد “كوبرنيكوس” لتغير المناخ)[8]، فمتوسط درجة الحرارة العالمية خلال الفترة (يونيو 2023 – مايو 2024) هو الأعلى على الإطلاق، وقد وصلت درجات الحرارة إلى مستوى قياسي، عند 1,63 درجة مئوية فوق متوسط ما قبل الثورة الصناعية.
يُشار في هذا الصدد إلى تقديرات بعض التقارير الحديثة التي لفتت الانتباه إلى أن التغيرات المناخية ستؤدي إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2050 بحوالي 38 تريليون دولار أي نحو 20%[9]، بصرف النظر عن مدى الجهود التي يتم بذلها في خفض الانبعاثات الدفيئة، حيث ارتفع متوسط درجة حرارة سطح الأرض بشكل كاف لتضخيم موجات الحرارة والجفاف والفيضانات، وهذه الظواهر المناخية كافية لإلحاق أضرار بالغة بالمحاصيل الزراعية، ونفوق الآلاف من الحيوانات، وصولًا إلى انعدام الأمن الغذائي.
تأثيرات التوترات الجيوسياسية:
جاءت تداعيات الحرب الأوكرانية لتضيف أعباءً جديدة على نقص الغذاء العالمي، وارتفاع أسعار السلع، وهذا يعود للمكانة العالمية التي تحتلها الدولتين من حصة الغذاء العالمي، حيث تُصدران ثلث الإنتاج العالمي من القمح والشعير، كما أن ظروف الحرب قد قلصت القدرة الإنتاجية للأراضي الزراعية في أوكرانيا الملوثة بعناصر سامة المتسربة من الذخيرة والأسلحة، مثل الرصاص والكادميوم والزرنيخ والزئبق، كما تواجه الأراضي الروسية أزمة الصقيع “البرودة الشديدة” التي ألحقت أضرارًا بالغة بالمحاصيل الزراعية، لاسيما في شهر مايو عام 2024، مما سيؤدي إلى خفض الإنتاج وبالتبعية التصدير الغذائي للحبوب الاستراتيجية.
إن ذلك يدفع العالم لمواجهة ما يُعرف بـ “التأثير المزدوج”، فقد تواجه الدول المصدرة للغذاء صعوبات في تصديره، وعلى الصعيد الأخر تعاني معظم الدول المستوردة للغذاء خاصةً الدول النامية المنخفضة والمتوسطة الدخل من عوائق بالغة سواء في الإنتاج الغذائي أو حتى في استيراد المواد الغذائية من الدول المصدرة للغذاء (نظرًا لأوضاعها الاقتصادية والمالية)، وهو ما يفاقم من تهديد الأمن الغذائي عالميًا.
ولم ينته العالم من تبعات الحرب الأوكرانية وتأثيرها على سلاسل الإمداد الغذائي المستمرة حتى الوقت الراهن، إلا وقد دخل مرحلة جديدة من صعوبة نقل الغذاء عبر البحر الأحمر، بسبب الصراعات القائمة في منطقة الشرق الأوسط، كمتغير جديد يصعب من تجارة الغذاء، خاصةً أن البديل هو الاعتماد على طريق رأس الرجاء الصالح، الذي يرفع تكلفة سعر النقل البحري، وبالتبعية أسعار الغذاء، بما يمثل معضلة في نقل الغذاء سريع التلف.
على الجانب الآخر يعاني قطاع غزة والسودان من انعدام الأمن الغذائي بسبب الحرب، هذا بخلاف وجود نماذج مماثلة في دول الشرق الأوسط وقارة أفريقيا، وهو ما يوسع انتشار انعدام الأمن الغذائي بسبب الصراعات والتوترات الداخلية، وقد أشارت المفوضية السامية لشئون اللاجئين في 30 مايو 2024، إلى أن العام الماضي قد شهد نزوح 114 مليون شخص بسبب الحروب والعنف والاضطهاد، وأن عام 2024 سيشهد أعلى عدد من النازحين واللاجئين المتضررين من الحروب والصراعات، ويُشار في هذا الصدد إلى قصور المجتمع الدولي للتعامل مع تلك الأزمات، مما يُضيف أعباء إضافية على الأمن الغذائي.
كما تؤثر الصدمات الاقتصادية بشكل خاص على دخل الأسر وقدرتها الشرائية، وتؤدي في العديد من الدول إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع معدلات البطالة، بالإضافة إلى تقليص الاستثمارات، وصولًا إلى ارتفاع التضخم المحلي الذي يرفع من تكاليف الإنتاج وأسعار المواد الغذائية.
وختامًا، إن التهديدات الرئيسية للنظام الغذائي العالمي تطرح ضرورة اتخاذ الحكومات حول العالم عدد من التدابير اللازمة للتخفيف من التأثيرات السلبية، منها: تعبئة الموارد في المناطق شديدة التأثر، مع أهمية تعزيز نظم الحماية الاجتماعية، وتوجيه التمويل العالمي للمساعدات الغذائية في مناطق الصراعات، التي تشهد كوارث بيئية وصحية، مع التخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة بأسرع وقت لتجنب المزيد من التبعات الاقتصادية المدمّرة بعد عام 2050عن طريق تبني سياسات أكثر مراعاة للبيئة ونهج أكثر استدامة لإنتاج الغذاء وتوزيعه.
إن الشعوب في حاجة إلى الحماية من الصدمات الاقتصادية، وهذا يستدعي عدم الاعتماد الكامل على البلاد المصدرة للغذاء، وإنما تنويع الإنتاج الغذائي المحلي، مع تطوير نظام للرصد والتغذية عن طريق حماية المحاصيل الأكثر عرضة للخطر، وهو ما يسهم في نهاية المطاف في التخفيف من مسألة انعدام الأمن الغذائي العالمي.
[1] “US curbs certain poultry imports from Australia’s Victoria on bird flu concerns”. Reuters, 25 May 2024. Available at https://www.reuters.com/world/us/us-restricts-import-certain-poultry-australia-state-bird-flu-concerns-2024-05-24/
[2] هذه البلدان هي بوركينا فاسو والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وجمهورية الكونغو وكوت ديفوار وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا والنيجر ونيجيريا وجنوب السودان وتوغو وأوغندا والسودان.
[3] ” الحمّى الصفراء – الإقليم الأفريقي”. منظمة الصحة العالمية، 20 مارس 2024، متاح على https://www.who.int/ar/emergencies/disease-outbreak-news/item/2024-DON510
[4] Global overview of Food Crisis 2024. Available at: https://www.fsinplatform.org/sites/default/files/resources/files/GRFC2024-full.pdf
[5] التضخم الحراري: هو الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية الناتج عن الحرارة الشديدة.
[6] “Climate change risk to price stability: Higher average temperatures increase inflation”, Potsdam Institute for Climate Impact Research. 21 March 2024. Available at https://shorturl.at/ZHPKX
[7] “درجة الحرارة العالمية يُرجح أن تتجاوز بشكل مؤقت مستوى 1.5 درجة مئوية خلال السنوات الخمس القادمة”. المنظمة العالمية للأرصاد الجوية. 5 يونيو 2024. متاح على https://wmo.int/ar/media/news/drjt-alhrart-alalmyt-yurjh-ttjawz-bshkl-mwqt-mstwy-15-drjt-mywyt-fwq-mstwy-ma-qbl-alsnat-khlal
[8] “May 2024 is the 12th consecutive month with record-high temperatures”, Copernicus. 5 June 2024. Available at: https://climate.copernicus.eu/copernicus-may-2024-12th-consecutive-month-record-high-temperatures
[9] Marlowe HOOD,”Climate impacts set to cut 2050 global GDP by nearly a fifth”.PHYS.ORG.20 April 2024. Available at https://phys.org/news/2024-04-climate-impacts-global-gdp.html#google_vignette