أجريت الانتخابات في بعض الدول الأوروبية خلال مدة زمنية قصيرة، حيث تصدر التكتل اليميني المتطرف المشهد في إيطاليا وتولت رئيسته “جورجيا ميلوني” رئاسة الحكومة، وتبعتها كل من هولندا، والمجر، حيث تصدر فيهما اليمين المتطرف. وتزايد القلق داخل أوروبا وخارجها عقب إجراء انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي في كل دوله الأعضاء، وأسفرت عن حصول الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة على نسب عالية من الأصوات في دولتين لهما أهمية خاصة للاتحاد الأوروبي، وهما: فرنسا، حيث حصل حزب التجمع الوطني على أعلى الأصوات، وألمانيا، حيث سجل حزب البديل الألماني اليميني المتطرف أفضل نتيجة في تاريخه في انتخابات البرلمان الأوروبي.
قلق أوروبي:
إن من أسباب قلق الأغلبية في الدول الأوروبية من التصاعد المستمر للأحزاب اليمينية المتطرفة خاصة في دول الاتحاد الأوروبي، نزوع اليمين المتطرف نحو الاتجاهات القومية وثقافة التعصب للثقافة والخصوصية المحلية لكل دولة على حدة، وهو تيار مغاير للأفكار الأساسية لنشأة وتطور الاتحاد الأوروبي، والعمل التدريجي الدؤوب على تحقيق أقصى درجات ممكنة من الاندماج بين دول الاتحاد، اقتصاديًا وتجاريًا وتكنولوجيًا وقانونيًا وثقافيًا وسياسيا قدر الإمكان، من أجل دعم وتقوية كيان الاتحاد الأوروبي كقوة إقليمية فاعلة في مواجهة التكتلات والقوى العالمية المختلفة، وضمان تحقيق أقصى درجات الأمن والسلام والاستقرار بين دول الاتحاد مع جيرانها.
الموقف في فرنسا:
أثار فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف الفرنسي في انتخابات البرلمان الأوروبي قلقًا شديدًا لدى الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، حيث رأى في هذا الفوز بداية للتفوق اليميني في الانتخابات البرلمانية الفرنسية، ومن ثم سارع بحل البرلمان (الجمعية الوطنية) وإجراء انتخابات مبكرة قبل أن يزداد تراجع موقف تكتل الوسط السياسي الذي يتزعمه بدرجة أكبر، فقد كان لتكتل ماكرون 350 نائبًا في البرلمان بعد انتخابات 2017، وانخفض عددهم في انتخابات 2022 إلى 249 نائبًا.
والأسباب عدة، منها الشعور العام لدى القوى السياسية أن ماكرون يتخذ في معظم القضايا موقفًا فرديًا ويتمسك به، ويتسم بالتعالي سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وتفاقم الأزمة الاقتصادية ومعدلات التضخم والبطالة العالية، وتراجع مركز ودور فرنسا في عدة دول أفريقية فرانكفونية وإخراج القوات الفرنسية المتعاونة معها في مكافحة الإرهاب، ودخول روسيا تدريجيًا لتحل محل فرنسا في هذه الدول الأفريقية، هذا إلى جانب عدم تحقيق إنجاز أو اختراق في الأزمات والقضايا، خاصة الحرب الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على غزة.
وقد أجريت الانتخابات الفرنسية على مرحلتين، وقد أسفرت المرحلة الأولى عن تصدر التجمع الوطني اليميني المتطرف النتائج، يليه تكتل اليسار في المركز الثاني، وجاء حزب ماكرون الوسطي في المركز الثالث، وأنعشت هذه النتيجة آمال اليمين المتطرف في أن يحظى بتشكيل الحكومة الفرنسية لدرجة أنهم اختاروا الشاب “جوردان بارديلا” ليكون رئيسًا للحكومة المقبلة، وأدى ذلك إلى حالة من التحدي والاستنفار بين كافة الأحزاب والقوى السياسية الفرنسية التي ترفض إعطاء الفرصة لليمين المتطرف أن يقود فرنسا في المرحلة القادمة مع ما يترتب على ذلك من مشكلات وأضرار على المستويين الداخلي والخارجي.
وبدأت أحزاب اليسار والوسط في وضع خطة وترتيبات فيما بينها في عدة دوائر انتخابية لتضمن تحقيق أعلى فوز ممكن، وتخلت عن المنافسة ليحل محلها التعاون وانسحاب مرشحي بعض الأحزاب لمصلحة مرشحي أحزاب أخرى، إلى جانب تشجيع الناخبين المترددين أو الغاضبين من سياسات ماكرون وحزبه للمشاركة معًا لاجتياز هذا التحدي الصعب.
وقد شارك في الحملة ضد اليمين تحالف اليسار المكون من الاشتراكيين، والشيوعيين، وحزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد، وحزب الخضر، وائتلاف الوسط (ماكرون)، وأسفرت نتيجة الانتخابات في الجولة الثانية عن مفاجأة كبيرة أشبه بالصدمة لليمين المتطرف، حيث جاء ترتيبه في المركز الثالث، وحزب الوسط في المركز الثاني، وتحالف اليسار في المركز الأول. وبالرغم من ذلك، فقد أصبح للتجمع الوطني اليميني المتطرف 143 نائبًا في البرلمان بعد أن كان له 89 نائبًا فقط، بينما انخفض نواب حزب ماكرون من 249 نائبًا إلى 156 نائبًا فقط، وأصبح لتحالف اليسار 182 نائبًا في البرلمان.
وأدت هذه النتائج إلى موقف صعب للرئيس ماكرون، وضعه في مأزق أمام برلمان مكون من أحزاب وكتل سياسية لا يستطيع أي منها أن يشكل الحكومة بمفرده ويتعين إجراء مفاوضات دقيقة لتشكيل حكومة جديدة تأخذ في الاعتبار نتائج الانتخابات من ناحية، ومصالح فرنسا، ودور الرئيس ماكرون وحزبه الوسطي من ناحية أخرى. وإذا كان الدستور يعطي الرئيس ماكرون سلطة اختيار رئيس الحكومة، إلا أن عليه اختيار إما زعيم الحزب الحاصل على الأغلبية النسبية أو من يلقى قبولًا من أغلبية أعضاء البرلمان الذين يمنحون الثقة من عدمها للحكومة الجديدة.
وقد طالب رئيس حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد “جان لوك ميلونشون” أن يسرع الرئيس ماكرون بتكليف كتلة اليسار بتشكيل الحكومة، ولكن ثمة مشكلات حول شخصية ميلونشون وحزبه، فهو متهم بمعاداة السامية، وهذه تهمة كبيرة في فرنسا والدول الأوروبية الأخرى، ومتهم أيضًا أنه يروج لسياسات تدعو للفوضى وتضر بقيم الجمهورية الفرنسية.
لذا، فعندما قدم رئيس الحكومة الحالي “جابرييل أتال” استقالته وفقًا للتقاليد المتبعة بعد أن فقد الحزب الذي ينتمي إليه أغلبيته في الانتخابات، رفض الرئيس ماكرون قبول الاستقالة وطلب منه الاستمرار في رئاسة الحكومة “من أجل استقرار البلاد”. وهذا الموقف مخالف لما هو متبع في فرنسا من أن رئيس الجمهورية يكلف زعيم الأغلبية النسبية بتشكيل الحكومة بالائتلاف مع الأحزاب الأخرى. وربما يسعى ماكرون إلى إبعاد حزب فرنسا الأبية والدخول في مفاوضات مع الحزب الاشتراكي، وحزب الخضر لتشكيل الحكومة الجديدة، أو اللجوء لاختيار ليس معتاد في فرنسا، وهو تشكيل حكومة تكنوقراط ترضى عنها أغلبية أعضاء البرلمان وتمنحها الثقة.
يوضح ما سبق أن فرنسا في عهد ماكرون تواجه حالة من الارتباك الداخلي حاليًا، قد يمتد في الأجل القصير، ولكن مع إبعاد اليمين المتطرف، فلا يتوقع حدوث تغيير يذكر في السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط وقضاياه وأزماته، لارتباط ذلك بالمصالح الحيوية الفرنسية الاقتصادية والتجارية والعسكرية والثقافية في المنطقة، وارتباط فرنسا بالتوجه السياسي العام للاتحاد الأوروبي، وباستراتيجية وسياسات حلف الناتو المحسوبة والحذرة تجاه المنطقة، بالرغم ما قد يكون لفرنسا من حرية حركة دون أن تتعارض مع سياسات هذين التكتلين الكبيرين المتداخلة.
صعود العمال في بريطانيا:
أما حزب المحافظين الذي يتولى الحكم في بريطانيا على مدى 14 سنة فقد قرر إجراء انتخابات مبكرة إزاء تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وغلاء المعيشة، وأعباء الحرب الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، واتهام حكومة ريشي سوناك بعدم القدرة على تخطي هذه المشكلات، خاصة ما يتصل بالأوضاع الداخلية، وجرت منافسة شرسة بين حزب المحافظين المتراجع خلال السنوات الأخيرة، وحزب العمال بقيادته الجديدة.
وأسفرت نتائج الانتخابات عن فوز حزب العمال فوزًا ساحقًا أهله لتشكيل الحكومة الجديدة بمفرده برئاسة رئيس الحزب “كير ستارمر” الذي يرى السياسيون البريطانيون أنه يتبنى سياسات تميل لسياسات حزب المحافظين مع بعض الاختلافات بشأن الضرائب، والحد الأدنى للأجور والمرتبات والخدمات العامة، وقضية المهاجرين التي أعلن فور فوزه إلغاء عمليات ترحيلهم إلى رواندا، ويرى أن القضية ستعالج بطرق أخرى.
وكان ستارمر، وزوجته يهودية متدينة، قد أشار خلال حملته الانتخابية إلى حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، وأن تستخدم قطع المياه والكهرباء عن قطاع غزة. وهو ما أدى إلى استياء كبير لدى الجالية الإسلامية والعربية والمؤيدين للمقاومة الفلسطينية، فحاول تخفيف حدة الموقف بتصريح أخر بالاستعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية في إطار حل الدولتين، أي أنه اعتراف مؤجل. وصرح وزير الخارجية الجديد “ديفيد لامي” وهو من أصول أفريقية، خلال جولة أوروبية بأن بريطانيا تعمل على تحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، خاصة العلاقات التجارية، وطالب بضرورة وقف إطلاق النار في قطاع غزة والإفراج عن الرهائن (الأسرى).
وتعطي بريطانيا – سواء في ظل حكم المحافظين أو العمال – اهتمامًا خاصًا لعلاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، ودول الشرق الأوسط بصفة عامة، وثمة تنسيق تام بينها وبين الولايات المتحدة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وفي العديد من القضايا، منها: دعمهما التام لإسرائيل، وموقفهما من الملف النووي الإيراني، والحرب على قطاع غزة، وردع الحوثيين – في محاولة لن تتحقق – لوقف تعرضهم للسفن المرتبطة بإسرائيل في باب المندب والبحر الأحمر، وربط ذلك بوقف القتال ورفع الحصار وإدخال المساعدات الكافية إلى قطاع غزة.
والخلاصة، فإنه سواء كان اليمين المتطرف هو الذي يتولى الحكم في إيطاليا والمجر وهولندا وغيرهم، أو حزب العمال كما في بريطانيا، أو ائتلاف الحزب الاشتراكي الديمقراطي كما في ألمانيا، فإن هذا لا يغير كثيرًا في جوهر سياسات الدول الأوروبية تجاه منطقة الشرق الأوسط وقضاياها وأزماتها خاصةً الأزمة في غزة والأزمة الليبية والتطورات الأمنية في الخليج، في ظل التنسيق الأوروبي الأمريكي، وبما يتفق مع استراتيجياتهم تجاه المنطقة في المدى القصير والمتوسط والطويل الأجل.