يبدو أن النظام القضائي الدولي يخوض معركة قانونية شرسة في مواجهة سلطات الاحتلال الإسرائيلي وليس العكس، فاستمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي العربية وتواصل الانتهاكات والتجاوزات يخالف قواعد القانون الدولي من ناحية ويضع القرارات الصادرة عن المنظمات القانونية الدولية على المحك ويجعل مصداقيتها محل جدل.
قبل 57 عاما احتلت إسرائيل الأراضي العربية، وشرعت في تغيير ديموجرافيتها عبر المستوطنات غير القانونية التي وقفت – إلى جانب عوامل أخرى – حجر عثرة أمام أي تسوية سياسية للقضية الفلسطينية تنتهي بإقامة الدولة الفلسطينية.
تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الراهن، عدوانها على قطاع غزة منذ أحداث السابع من أكتوبر ومهاجمة فصائل فلسطينية سكان مستوطنات إسرائيلية غير شرعية لتتداخل العوامل المؤدية إلى مزيد من التعقيد الذي يجعل البنيان القانوني الدولي يواجه تحديًا حقيقيًا في إنفاذ قواعده أو إلزام إسرائيل بقراراته ووقف العدوان أو توقيع الجزاء.
وفي غمار تلك المعركة القانونية، أصدرت محكمة العدل الدولية بتاريخ 19 يوليو 2024، رأيها الاستشاري حول التداعيات القضائية للممارسات الإسرائيلية وانعكاسها على الأراضي المحتلة، والذي نص على أن وجود الاحتلال الإسرائيلي غير شرعي في الأراضي الفلسطينية، وأنه يتوجب على إسرائيل وقف الاحتلال وإنهاء تواجدها غير الشرعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أقرب وقت.
وكانت اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي اللجنة الخاصة بالمسائل السياسية وإنهاء الاستعمار، قد اعتمدت في الحادي عشر من نوفمبر 2022، مشروع قرار قدمته دولة فلسطين لطلب فتوى قانونية ورأي استشاري من محكمة العدل الدولية، حول “الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديموجرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وكيفية تأثير سياسات إسرائيل وممارساتها على الوضع القانون للاحتلال والآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة”.
ويأتي الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية كخطوة على الطريق ضمن خطوات نحو إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية، خاصة وأن هذا الرأي الاستشاري حول قانونية الاحتلال لم يكن مفاجئًا، لأن مرجعية المحكمة هي قواعد القانون الدولي، والذي يقطع في هذا الشأن بأن إسرائيل كقوة احتلال عليها واجبات، ولكنها انتهكت كل التزاماتها كقوة احتلال وتعاملت كأنها قوة سيادة رغم أنها احتلال مؤقت وليست صاحبة سيادة نهائيًا، وأن السيادة هي للشعب الفلسطيني.
وعلى الرغم من أن هذا الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ليس ملزمًا بشكل مباشر، ولكنه يستند إلى قواعد القانون الدولي، والذي يعتبر ملزما لكافة الدول في علاقاتها مع إسرائيل والمشاركة بالانتهاكات، وهو ما يمكن استثماره في حال مصادقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على الرأس الاستشاري، من خلال قرارات مفصلة للرأي الاستشاري، إلى جانب تفصيل خطوات عملية مطلوبة من منظمات دولية، وأعضاء الأمم المتحدة، ومجلس الأمن وغيرها.
وتعد النقطة الجوهرية التي تناولها الرأي الاستشاري هي عدم شرعية كل ما يقوم به الاحتلال بما يحول دون ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير، والذي يعتبر حقًا أساسيًا وثابتا وركيزة أساسية للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.
وقد لقي هذا الرأي الاستشاري ردود فعل عربية واسعة النطاق خاصة من جانب مصر التي رحبت بما تضمنه الرأي الاستشاري من عناصر مهمة تؤكد الحق الفلسطيني وتقر بعدم جواز الاستيلاء على الإقليم الواقع تحت الاحتلال بالقوة، وأن على إسرائيل إنهاء هذا الاحتلال غير القانوني في أقرب وقت ممكن، والوقف الفوري لأي نشاط استيطاني جديد، وإخلاء كافة المستوطنات من الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية الناتجة عن سياساتها وممارساتها غير القانونية.
فيما رحب الفلسطينيون بالقرار الذي وصف بالتاريخي مطالبين إسرائيل بالالتزام به باعتباره انتصارًا للعدالة، ويمثل حقيقة قانونية لا يمكن دحضها ويترتب عليه آثار قانونية.
في المقابل، انتقد المسؤولون الإسرائيليون قرار محكمة العدل الدولية، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، إن “الشعب اليهودي ليس محتلًا لأرضه، لا في عاصمتنا الأبدية القدس، ولا في أرض أجدادنا في يهودا والسامرة (الضفة الغربية). ولن يؤدي أي قرار “كاذب” في لاهاي إلى تشويه هذه الحقيقة التاريخية، كما لا يمكن الطعن في شرعية الاستيطان الإسرائيلي في كافة أراضي وطننا”.
وقال وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، إن “قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي يثبت للمرة الألف أن هذه منظمة سياسية ومعادية للسامية بشكل واضح. ولن نقبل منهم وعظًا أخلاقيًا، فقد حان وقت الحكم والسيادة”.
وعلق وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموترتش، على رأي محكمة العدل الدولية، في منشور على منصة “إكس”، أن “الرد على لاهاي هو فرض السيادة الآن”.
وقال رئيس المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، إن “الرأي الصادر عن المحكمة الدولية في لاهاي منفصل عن الواقع، وأحادي الجانب، ومشوب بمعاداة السامية وعدم فهم الواقع على الأرض. إنه لا يخدم إلا الإرهاب الإسلامي والحملة ضد إسرائيل”.
على الصعيد الأممي قال فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إن الأمين العام أنطونيو جوتيريش سيحيل على الفور الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تضم 193 عضوا، و”الأمر متروك للجمعية العامة لتقرر كيفية المضي قدما في الأمر”.
وفيما تتواصل المعارك القانونية لاستعادة الحق الفلسطيني وإثبات جرائم إسرائيل الممتدة قرابة ستين عاما من احتلال الأراضي والعدوان والانتهاكات والاستيطان، يستمر التحدي الإسرائيلي عبر تصريحات استفزازية وعدوان متواصل.
“نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف على هذا الأساس”، بهذا التصريح العنصري الفج، وصف وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف جالانت، أهالي غزة ومقاومتها، مُحاولًا نزع صفة البشر عن أكثر من مليونين ونصف المليون من مدنيي القطاع، لتبرير ما ارتُكِب وما يُرتَكب من جرائم وانتهاكات ضدّهم.
في هذا العدوان، تأتي الانتهاكات غير مسبوقة، مع سقوط ما يقرب من أربعين ألف شهيد، معظمهم أطفال ونساء، وقرابة 90 ألف مصاب – حتى كتابة هذه السطور – علاوة على تدمير الآلاف من المباني السكنية، والبنية التحتية والمدنية، بأنواعها كلها، بما في ذلك مجزرة مستشفى المعمداني والنصريات والمواصي مؤخرًا.
وفي هذا السياق، يبقى السؤال: أين القانون الدولي الإنساني؟ وإلى أي مدى جرى تطبيقه؟ فقد بدا واضحًا ارتكاب إسرائيل، وفقًا لتقارير وشهادات عدة، انتهاكات فاضحة لطَيفٍ واسع من الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين الدولية المتعلقة بقواعد النزاعات المسلحة، في ظل تجاهل معظم دول المجتمع الدولي، التي عمدت مؤخرًا إلى التبرير والدفاع عن تلك الانتهاكات، في مقابل أصوات خجولة من منظمات دولية وصفت أعمال الاحتلال بأنها جرائم حرب، وانتهاك للقانون الدولي، مُطالبةً بمحاكمته، وهي أصواتٌ يبدو كأنها تستدعي قانونًا نائمًا.
ونسعى عبر هذا الإصدار إلى تناول الأبعاد القانونية لهذا العدوان الإسرائيلي منذ أحداث السابع من أكتوبر وحتى الآن عبر ثلاث قضايا محورية: وهي: “جرائم الاحتلال الإسرائيلي في ضوء المواثيق الدولية”؛ و”هل تلتزم إسرائيل بقرار محكمة العدل الدولية؟”؛ و”المحكمة الجنائية الدولية وإسرائيل بين النظرية والتطبيق”.
- الأول: خلص الموضوع إلى تحديد الاتفاقيات والبروتوكولات التي تشكّل ككل الإطار العام للقانون الدولي الإنساني، وحجيتها القانونية، ومدى انطباق هذه القواعد والمبادئ على حالة العدوان الإسرائيلي الحالي في قطاع غزة وتداعياته الإنسانية، مشيرا إلى المواقف المتباينة بين مختلف دول العالم المتمدن إزاء الصراع الحالي، وقد خرج الموضوع بضرورة التوصل لحل عادل ودائم للقضية الفلسطينية بجميع جوانبها.
- الثاني: خلص الموضوع إلى تحديد اختصاصات محكمة العدل الدولية، ومصادر ولايتها واختصاصها بالنظر والفصل في الصراع الحالي في قطاع غزة، كما ناقش قرار المحكمة الصادر في 26 يناير 2024، ومدى الزاميته ومقارنته بمختلف أنواع القرارات كالأحكام النهائية أو التدابير التحفظية او الوقائية وبعض أوجه الخلافات القانونية كما ناقش سبل تنفيذ مثل هذه القرارات وذلك في حالات امتناع الدول الصادر ضدها مثل هذه التدابير الوقائية.
- الثالث: خلص الموضوع إلى تحديد اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ومصادر ولايتها القضائية، وتناول أوجه الاختلاف بينها وبين محكمة العدل الدولية، فضلا عن مهامها والصلاحيات الممنوحة لها وفقا للقانون الدولي، كما حدد مدى إلزامية قراراتها بحسب الأحوال، وإشكاليات ومعوقات التنفيذ، كما نوه الموضوع للعلاقة التي تربط المحكمة بمجلس الأمن، وذلك بهدف التوصل لمدى إمكانية إصدار أمر الضبط الذي طالب به المدعي العام للمحكمة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه وثلاثة من قادة حماس، مستعرضا تاريخ المحكمة منذ 2014 بتناول قضايا تخص الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية.