استمرت الصراعات الداخلية وبين الدول في منطقة الشرق الأوسط بدون حل أو وجود آفق لتسويتها لأكثر من عقد، بما يطرح أهمية التفكير في بدائل من شأنها أن تسهم في جمع الأطراف المتحاربة أو المتنازعة على منضدة مفاوضات بهدف تحقيق مصالحهم المشتركة، وأن يكون ذلك مدفوعًا بالتركيز كأولوية على مصلحة الشعوب، ويُعد السلام الاقتصادي أحد البدائل المطروحة التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق هذا الهدف الطموح، كما أنه من خلال هذا السلام الاقتصادي يمكن التوصل لتسويات شاملة، وكذا تثبيت العمل بتلك التسويات لآجال ممتدة، وبالتالي تعتبر نقطة انطلاق رئيسية لتحقيق الاستقرار بالمنطقة.
تداعيات مطروحة:
يتصاعد التوتر في منطقة الشرق منذ شن عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، مع احتمالية توسع نطاقه بسبب الهجمات المتبادلة بين إيران والميليشيات المسلحة من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، مع عدم إغفال وجود بؤر توتر بالفعل ظهرت بعد عام 2011، والتي أسفرت عن خلق بعض الصراعات الداخلية على السلطة والموارد الاقتصادية، وما زالت تلك الصراعات مستمرة مع عدم استبعاد تأججها في ضوء تزايد الحاجة لتحسين الأوضاع الاقتصادية بعد أن أسفرت أكثر من 10 سنوات من عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي في تدهور الحالة المعيشية للسكان المحليين، ومع امتداد آثارها السلبية لكافة المنطقة.
بالنظر إلى أبرز المؤشرات الاقتصادية للدول المتأثرة بالصراع في الشرق الأوسط بعد عام 2011، نجد أنها قد تراجعت بشكل ملموس لأن تلك الدول كانت أكثر انكشافًا على الصدمات العالمية الأخيرة، وتحديدًا تفشي جائحة “كوفيد-19” والحرب الروسية الأوكرانية، مع تفاوت التأثير الناتج عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها، فنجد أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للدول التي تشهد صراعات قد تراجع من متوسط 5.5% بين عامي 2000 و2020 إلى صفر وما دون الصفر في السنوات التالية (كما هو موضح في الجدول التالي).
السنة / الفترة | 2000 – 2020 | 2021 | 2022 | 2023 | 2024 (توقعات) |
معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي | 5.5 % | 0 | 3.2 % | -5.5 % | 0 |
المصدر: تقرير آفاق الاقتصاد الإقليمي للشرق الأوسط وآسيا الوسطى، صندوق النقد الدولي. 18 أبريل 2024.
إن استمرار ذلك الوضع يهدد بتسجيل معدلات نمو ضعيفة لعدد من السنوات، خاصة في حال تصاعد حدة الصراعات الداخلية وكذا في الإقليم، مع الأخذ في الاعتبار أن تسجيل بعض الدول معدلات نمو كبيرة في بعض السنوات لا يعني تحسن اقتصاداتها فعليًا بشكل يهمش تأثير الصراعات، بل إن ذلك التحسن يرجع إلى التطور الإيجابي عن السنة السابقة لها فقط (سنة الأساس)، ولعل عام 2022 يمثل نموذجًا لتلك المقاربة، حيث جاء ذلك النمو بعد تسجيل صفر كمعدل نمو في عام 2021، كما أن التطورات العالمية والإقليمية تضغط بدورها على تلك الدول.
تستمر حالة عدم الاستقرار الاقتصادي نتيجة عدم التوصل لتفاهم بين أطراف الصراع، سواء داخليًا أو العابر للحدود، مع وجود هدف إلحاق الضرر بالإمكانات والموارد الاقتصادية الموجودة لدى الطرف الأخر ضمن تكتيكات المواجهة المباشرة، وهو يمثل عبء اقتصادي ومالي إضافي، ويتزايد هذا العبء مع طولا أمد الصراع، بما يحتم الوصول لصيغة توافقية لحماية مصالح وأوضاع المجتمعات المحلية.
السلام الاقتصادي:
يُعد السلام الاقتصادي أحد الحلول المطروحة في بعض الحالات بالمنطقة (إن تم التوصل لتوافق حول تحقيقه)، وهو مفهوم شامل له العديد من الأبعاد الإيجابية، من ضمنها عدم ارتباطه بأي اتفاقات سياسية أو أمنية، بل يُعد الشق الاقتصادي هو الهدف الوحيد الذي يمكن التفاوض بشأنه، وأي اتفاقات أمنية أو سياسية تُعد تفاصيل فرعية تستهدف تحقيقه (مثل عدم استهداف المنشآت الحيوية: محطات تحلية المياه والكهرباء..)، إضافة إلى أنه في بعض الحالات يمكن أن يكون السلام الاقتصادي هو الداعم لعدم تصاعد الصراع، أو في إطار الالتزام بقواعد اشتباك محددة تحول دون تنامي المواجهات العسكرية.
ولمعرفة مدى أهمية السلام الاقتصادي الذي تحتاجه المجتمعات على المستوى العالمي، يكشف “مؤشر السلام العالمي 2024” (صادر عن معهد الاقتصاد والسلام)، أن حالة السلام قد تراجعت في 97 دولة خلال عام 2023، وهو رقم قياسي منذ إطلاق المؤشر في عام 2008، وقد أسفر ذلك بدوره عن خسارة الناتج المحلي الإجمالي العالمي نحو 19.1 تريليون دولار (نحو 13.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي).
وتُعد منطقة الشرق الأوسط من أكبر المناطق تراجعًا في مؤشر السلام العالمي، وذلك مقارنة بثمان مناطق تضمنهم المؤشر، لتعتبر بذلك من أقل مناطق العالم سلمًا (وفق المؤشر)، علمًا بأن مؤشر السلام العالمي يتضمن عدة مؤشرات فرعية من ضمنها تأثيرات الصراعات، والإرهاب، والعنف، والتسلح وغيرها، وبالتالي فإن تسوية الصراعات في بعض دول المنطقة قد يسهم بشكل كبير في تراجع العنف بدولها، أي إن السلام الاقتصادي لن يكون له دور فاعل في حل الصراعات فقط، بل قد يكون له تأثير غير مباشر في مواجهة العنف الداخلي، حيث إن تحسن الوضع الاقتصادي سيقلص من الجريمة، وسيعزز من قدرات مؤسسات الدولة الأمنية في مواجهة الإرهاب والتنظيمات الإجرامية، ولعل ذلك قد سيسفر في النهاية عن استقرار المنطقة سياسيًا واقتصاديًا، لتركز دولها وقتها على مواجهة التحديات العالمية المتزايدة، وتفعيل التعاون الاقتصادي الإقليمي.
مرحلة تمهيدية:
إن الاعتماد على السلام الاقتصادي كمرحلة تمهيدية لإنهاء الصراعات أمر جدير بالدراسة والتطبيق في المنطقة، لاسيما أنه يخلق قنوات تواصل مستمرة بين أطراف الصراع تستهدف إعلاء المصلحة الوطنية، ولعل تطبيق ذلك النموذج قد يوفر انتعاشًا نسبيًا في المناطق المتوترة، ليمثل بدوره حافزًا للوصول إلى تسوية دائمة، وعلى جانب أخر أن تضمين بند في اتفاقيات السلام يعني بضرورة الحفاظ على المصالح الاقتصادية يعد أمرًا مهمًا لتثبيت العمل بالاتفاقيات، على أن تشمل استمرار التعاون لتحقيق الازدهار الاقتصادي والحفاظ على حقوق الأجيال القادمة، في تأكيد ضمني على عدم الاعتماد على الأدوات الاقتصادية كورقة ضغط لفرض السيطرة والنفوذ كثغرة في الاتفاقيات يمكن استغلالها لتحقيق مصالح ضيقة، وقد تكون بدورها شرارة لعودة الصراع مرة أخرى.
بالنظر إلى آخر تطورات الصراع في بعض دول الشرق الأوسط، وكيفية الاعتماد على آلية السلام الاقتصادي لتثبيت هدنة دائمة، أو حتى دعم الدخول في تفاوض مباشر يؤدي إلى تسوية الصراع، فقد اتفقت الحكومة اليمنية والحوثيون في يوليو 2024 على تدابير لخفض التصعيد الاقتصادي بينهما، وتضمن الاتفاق أربع نقاط هي: إلغاء القرارات والإجراءات ضد البنوك المتخذة من الجانبين، والتوقف مستقبلًا عن أي قرارات أو إجراءات مماثلة، واستئناف الطيران، مع عقد اجتماعات لمعالجة التحديات الإدارية والفنية والمالية التي تواجهها شركة الخطوط الجوية اليمنية، وأخيرًا تضمن الاتفاق الشروع في وضع خارطة طريق عبر عقد اجتماعات لمناقشة القضايا الاقتصادية والإنسانية.
في سياق متصل، يُعد التوصل لاتفاق بين بغداد وإقليم كردستان بشأن عودة تصدير النفط لتركيا أمر مهم لتعزيز العلاقات بين بغداد والإقليم، كما أنه سيعزز من الإيرادات النفطية للجانبين، حيث تطلب الحكومة الاتحادية في بغداد من شركات النفط التفاوض معها لبيع نفطهم عبر خط الأنابيب – الذي أعيد إحياؤه – إلى تركيا، وهو ما يرفضه الأكراد الذين يعتمدون بشكل شبه كامل على عائدات النفط، هذا وقد ذكر وزير النفط العراقي “حيان عبد الغني” في يونيو 2024 أن هناك محادثات بين الحكومة ومسئولي إقليم كردستان وممثلين للشركات العالمية العاملة في ذلك القطاع لاستئناف الصادرات، بما يعكس الرغبة في التوصل لتوافق بذات الشأن، ومما يحول دون توتر العلاقات بين الجانبين بشكل قد يتفاقم ويتحول إلى صراع، وبالتالي فإن الاتفاق على ملف النفط سيُعد بادرة مهمة لاستمرار تواصل الجانبين لحل أي ملفات أخرى عالقة بينهما.
وعن العلاقات الاقتصادية العابرة للحدود ودورها في احتواء الخلافات أو النزاعات، فقد يكون التعاون الاقتصادي بين سوريا وتركيا أمرًا مهمًا لعودة العلاقات الطبيعية بينهما، لاسيما أنهما دولتي جوار مباشر، بما يعزز من فرص التعاون الاقتصادي ويعظم استفادة البلدين، كما أنه خطوة رئيسية لإنهاء القطيعة بينهما منذ عام 2011، ويعد الملف الاقتصادي الذي يشمل عناصر متنوعة، مثل التجارة البينية، وتجارة الترانزيت عبر سوريا لمنطقة الخليج العربي، وكذا الاستثمارات السورية في تركيا، وإعادة الإعمار في سوريا عبر الشركات التركية، وعودة اللاجئين، حافزًا مهمًا لعودة العلاقات السياسية والأمنية.
تثبيت السلام:
إن اعتماد السلام الاقتصادي كآلية لدعم التفاوض واستكمال التحركات لحل النزاعات الداخلية وبين الدول وبعضها، قد يكون محور الاهتمام خلال الفترة المقبلة، وذلك في ضوء المرحلة التاريخية السابقة التي تعذر الوصول فيها لتوافق بشأن حل الصراعات سياسيًا، مع التأكيد على أن البعد الاقتصادي هو بديل مهم يمكن من خلاله التوصل لاتفاقات تسوية شاملة، وفي نفس الوقت ترسيخ السلام بين الأطراف المتحاربة، لذا فإنه من المهم أن تبادر المنظمات الإقليمية والوسطاء بالتركيز على السلام الاقتصادي كبديل مرحلي ثم مكمل لدعم عملية السلام وعدم نشوب صراعات مستقبلية في المنطقة.