تشهد منطقة الشرق الأوسط تطورات متسارعة بسبب استمرار الصراعات وحالة عدم الاستقرار، وما لذلك من تأثير سلبي على ملف اللاجئين والنازحين، على خلفية استمرار تدفق اللاجئين منها، أو حتى عدم رغبة اللاجئين في العودة إلى دولهم، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك يعمق من تدهور اقتصادات تلك الدول، كما أن لذلك تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على اقتصاد المنطقة التي لازالت تعاني من تأثيرات جائحة “كوفيد-19” والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها، بما يتطلب تسليط الضوء على ذلك الملف وتحديث أساليب التعامل معه.
مؤشرات مقلقة:
بلغ عدد اللاجئين حول العالم حتى نهاية عام 2023 نحو 117.3 مليون شخص، ارتفاعًا من نحو 51.2 مليون في عام 2013 (أي بنسبة ارتفاع 6610%) ونحو 39.3 مليون شخص في عام 2003 (وفق بيانات المفوضية السامية لشئون اللاجئين الصادرة في يونيو 2024)، في دلالة على تزايد عوامل طرد السكان المحليين.
بالنظر إلى البيانات المتاحة عن أعداد اللاجئين والنازحين المتزايدة في دول الشرق الأوسط، نجد أن السودان تأتي على رأس قائمة الدول التي تشهد أكبر معدلات نزوح، حيث أسفرت الحرب التي اندلعت في أبريل عام 2023 عن نزوح نحو 10 مليون شخص، منهم 2 مليون لجئوا إلى دول الجوار، مع ترجيح ارتفاع ذلك الرقم بشكل أكبر في عام 2024 مع استمرار التصعيد بين الأطراف المتحاربة.
ويوضح الشكل التالي عدد اللاجئين وطالبي اللجوء، وغيرهم من الأشخاص المحتاجين إلى الحماية الدولية، والنازحين داخليًا، والعائدين سواء لاجئين أو النازحين داخليًا، والأشخاص عديمي الجنسية وغيرهم من الأشخاص الذين تهتم بهم المفوضية السامية لشئون اللاجئين، وذلك في منطقة الشرق الأوسط حتى نهاية عام 2023 (وفق بيانات المفوضية السامية لشئون اللاجئين الصادرة في يونيو 2024).
فيما قدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية أن عدد النازحين داخل قطاع غزة بلغ نحو 1.9 مليون شخص في يوليو 2024، وبالنسبة للبنان، ففي ظل العدوان الإسرائيلي، كشفت لجنة الطوارئ الحكومية اللبنانية في 3 أكتوبر 2024 أن عدد النازحين قد وصل إلى نحو 1.2 مليون نازح، بما يعني أن عدد النازحين جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان قد بلغ نحو 3.1 مليون شخص، وهو ما شكل نحو 12.6% من إجمالي عدد اللاجئين والنازحين والمعنيين باهتمام المفوضية السامية لشئون اللاجئين في أكثر 6 دول تواجه اضطرابات وعدم استقرار في الشرق الأوسط.
بناءً على ما تقدم، فقد تزايد إجمالي عدد اللاجئين والنازحين في الشرق الأوسط ليتجاوز 27 مليون شخص، وبما يجعل الشرق الأوسط ثاني أكبر منطقة حول العالم بعد أفريقيا جنوب الصحراء من حيث عدد اللاجئين والنازحين.
مخاطر متزامنة:
إن تنامي العنف والحروب الداخلية في دول الشرق الأوسط، يهدد بمزيد من حركة اللاجئين والنازحين، مع الأخذ في الاعتبار وجود حركة متزايدة في الأساس من مناطق أخرى تجاه دول الشرق الأوسط بسبب التغيرات المناخية، ولعل هجرة مواطني دول أفريقيا جنوب الصحراء بسبب ارتفاع درجات الحرارة والجفاف إلى دول الشرق الأوسط يعد النموذج الأبرز في ذات الشأن، مما يجعل ذلك الملف أولوية يجب التعامل معها خلال السنوات المقبلة.
وقد أضاف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان عبء إضافي على ملف اللاجئين، فمع استمرار التدهور الاقتصادي بالمناطق التي تشهد استهداف من الجيش الإسرائيلي، تتزايد بالتبعية معاناة السكان المحليين في تلك المناطق، بما يدفعهم للنزوح داخليًا أو محاولة عبور الحدود لدول ومناطق أكثر استقرارًا، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك التحرك له تأثير سلبي سواء على موطنهم الأصلي، بسبب انخفاض حجم القوة العاملة وأيضًا الأنشطة الاقتصادية، إضافةً إلى خلق أعباء إضافية على الدول المستضيفة.
وبشكلٍ عام، يؤثر تدفق اللاجئين مباشرة على اقتصادات الدول المستقبلة لهم، من خلال زيادة الأعباء على موارد الدولة، وإحداث خلل في السوق الداخلي بسبب تزايد الطلب عن المعروض للسلع والخدمات كافة، وما لذلك من تأثير تضخمي، فضلًا عن تنامي معدلات العنف والجريمة المهددة للأنشطة الاقتصادية (في الكثير من الأحيان)، كما يسفر ذلك عن تحولات ديموغرافية قد تعرقل من خطط الحكومات لدعم التنمية المتوازنة، فضلًا عن التدهور البيئي الناتج عن تزايد الأنشطة الاقتصادية بشكل عشوائي في بعض المناطق.
وكشف مؤشر السلام العالمي لعام 2024 الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكبر منطقة من حيث تراجع السلام بها من أصل 9 مناطق، ويأتي بعدها في المركز الثاني منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وبالتالي فإن استمرار حالة الصراع وعدم الاستقرار الداخلي ستحمل تأثيرات سلبية على ملف اللاجئين بهما، لاسيما في ضوء القرب الجغرافي وتمركزهما في وسط العالم، كما سيصعب ذلك من استغلال العديد من الموارد الطبيعية الموجودة بالمنطقتين، اللازمة لدعم وتنشيط الاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة.
ويثير ذلك الأمر حقيقة وجود قصور في رؤية الدول الغربية لملف اللاجئين حيث تقتصر رؤيتها على معالجة أثر الهجرة غير الشرعية على استقرار دولها، مع إغفال حقيقة أن تنامي عدد اللاجئين الذين يعيشون في أوضاع غير إنسانية يُسفر عن تطور أنماط الجريمة، وإمكانية تجنيد بعضهم كمرتزقة او كعناصر إرهابية نشطة لضرب استقرار بعض الدول، أو تبني بعضهم للعنف لتحسين أوضاعهم، كما أن وجودهم في مناطق ذات مساحات جغرافية محدودة (مثل المخيمات) قد يسفر عن تفشي الأمراض وانتقالها لبعض الدول، أي أن العالم قد يواجه كارثة صحية جديدة على غرار جائحة “كوفيد -19″، ويعني ما سبق أن الدول الغربية نفسها ليست بمعزلٍ عن التأثيرات السلبية لتنامي عدد اللاجئين والنازحين.
مواجهة مطلوبة:
تتطلب مواجهة تداعيات التأزم في ملف اللاجئين تعاونًا وتنسيقًا عالميًا على عددٍ من المستويات، أهمها التنسيق السياسي بين الدول والمنظمات العالمية لمحاولة التوصل لتهدئة ووقف الصراعات في الدول الطاردة للاجئين، وأيضًا استحداث آليات للإنذار المبكر لمنع تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية في دول العالم، للحيلولة دون حدوث صراعات داخلية تؤدي إلى هجرة السكان ليصبحوا لاجئين ونازحين، لعل الأوضاع الداخلية الراهنة في العديد من دول العالم مؤهلة لحدوث ذلك الأمر، لاسيما مع تراجع أوضاعها الاقتصادية.
على المستوى الاقتصادي، فإن التمويل الموجه لتحسين أوضاع اللاجئين، هذا في حالة وصوله بالفعل، قد لا يكون كافيًا لتحسين أوضاع الدول الطاردة، وهو ما يتطلب زيادة ذلك التمويل، وتعظيم الاستفادة منه، ويمكن تحقيق ذلك من خلال استضافة بعض الدول للاجئين من ذوي الخبرات والمؤهلين لتعليمهم وتدريبهم لفترة معينة، ومن ثم إعادة إرسالهم لأوطانهم من أجل دعم جهود التنمية المحلية، ليكون ذلك عنصرًا داعمًا للتمويل الذي يتم ضخه في هذه الدول.
ومن المهم أيضًا إيجاد أساس للتعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول التي تشهد تأزم داخلي وبين الدول المستقرة (خاصةً في جوارها الإقليمي)، وذلك من خلال تمويل التجارة وتسهيل تدفق البضائع الأساسية اللازمة لضمان استقرار السكان في وطنهم، هذا بالتوازي مع إرسال مساعدات إنسانية للدول التي هي في حاجة لها، ومن المهم أيضًا التركيز على نقاط القوة في بعض الدول التي يتنبأ لها أن تشهد تفجر في أوضاعها الداخلية، من أجل دعم اقتصادها وتنميتها، مثل تعزيز قطاع التعدين في الدول التي تتواجد بها المعادن الحرجة ومصادر الطاقة الأحفورية، ليوجد ذلك قاعدة صناعية يمكن استفادة العالم منها مستقبلًا.
ويجب النظر لضخ رؤوس الأموال في الدول التي يتدفق منها اللاجئين، من منظور إعادة الإعمار في الدول التي عانت من حروب داخلية، وضخ الاستثمارات الأجنبية المباشرة بتلك الدول لتوليد إيرادات منها، وعدم اقتصار التحركات على فكرة ضخ مساعدات لضمان استمرار الحياة لسكانها (تستهدف بشكل أساسي الصحة والتعليم وتوفير الغذاء)، أي أن المطلوب توفير تمويل يدعم القطاعات الإنتاجية التي تتيح خلق قاعدة اقتصادية تمكن سلطات الدول من الاعتماد على اقتصادها الوطني، فضلًا عن إتاحة دخول تلك الدول إلى أسواق الدين العالمية والاقتراض بضمان منظمات دولية (يقوموا بالسداد في حالة تعثر الدول عن سداد التزاماتها)، ليوجد ذلك كيانات اقتصادية ناشئة لديها أسواق مال يمكن تطويرها والاعتماد عليها.
خلاصة القول، إن ملف اللاجئين له العديد من الأبعاد الاقتصادية والسياسية والأمنية التي قد تضر العديد من دول العالم، ولا يرتقي التعامل الحالي مع ذلك الملف مع ما يفرضه من خطورة، نظرًا لاستمرار تزايد عدد اللاجئين في ضوء أوضاع اقتصادية عالمية غير مستقرة، واستمرار التعامل بالآليات المطبقة منذ عقود في التعامل مع ملف اللاجئين دون تطوير حقيقي يتماشى مع التطور الملموس والمستمر الذي طال جميع الأنشطة والمجالات الأخرى.
إن نقطة البدء في التعامل الجاد مع ملف اللاجئين يتطلب بالضرورة تصفير الأزمات المتصاعدة في الدول الطاردة للاجئين، ومن ثم الانطلاق نحو مراحل لاحقة لدعم وتطوير اقتصادات الدول التي تواجه أزمات، بما يتضمنه من إعادة الإعمار بشكل سريع، وانتهاج أسلوب من الدعم يتوافق مع خصوصية كل دولة، مع محاولة دمج الدول الطاردة للاجئين في الاقتصاد العالمي للاستفادة من الفرص الاقتصادية به، وذلك من خلال منحها مزايا تفضيلية تتيح لها التطور وعدم التضرر من المنافسة الاقتصادية والتجارية المتنامية بين الدول.