Search

أبعاد ودلالات الإصلاح والتطوير في المؤسسة العسكرية البريطانية

12/10/2024

صرح وزير الدفاع البريطاني “جون هايلي” خلال مؤتمر حزب العمال في سبتمبر الماضي عن خطته الجديدة لإجراء بعض الإصلاحات في المؤسسة العسكرية البريطانية، بما تشتمل عليه من إعادة النظر في نمط التجنيد وتحسين ظروف الأفراد في الخدمة، وذلك لمواكبة التحديات التي تشهدها القارة الأوروبية، وفي ضوء التـأكيد على التزام حزب العمال بالحفاظ على الأمن القومي والإقليمي[1].

مجالات الإصلاحات والتطوير:

شملت الإصلاحات المخطط تنفيذها العديد من المجالات، بما فيها إعادة النظر في سياسات التجنيد، فقد تم إلغاء العديد من السياسات التي تمنع المواطنين من الالتحاق بالخدمة العسكرية، وكذلك تم وضع إجراءات جديدة يتم بموجبها قبول أو رفض الطلبات المقدمة للانضمام إلى الجيش، ففي غضون العقد الماضي تقدم العديد من المواطنين البريطانيين للانضمام إلى الخدمة العسكرية ولكنهم أحجموا عن إكمال إجراءات الانضمام نظرًا لتباطؤ العملية.

كما تتضمن الإصلاحات التخطيط لزيادة الإنفاق الدفاعي بمعدل 2.5% وهو أعلى مستوى قد تصل إليه المنظومة الدفاعية البريطانية منذ عام2010، مع التأكيد على استمرار رؤية حزب العمال في دعم القوات المسلحة وقدامى المحاربين على حد سواء، وتحسين البنية التحتية العسكرية، وضمان حصول جميع الأفراد على أجر المعيشة الوطني على الأقل، كما أُعلن عن استحداث “مسار سيبراني” مباشر جديد للمساعدة في تعزيز المرونة السيبرانية للمنظومة الدفاعية البريطانية، مع تشجيع مختلف المتخصصين والمبرمجين في المجال السيبراني للتقدم للانضمام للمؤسسة العسكرية.

وتأتي تلك الإصلاحات الجديدة متماشية مع ما أعلنته الحكومة البريطانية مؤخرًا عن إجراء مراجعة في استراتيجيتها الدفاعية استجابة للتطورات الجيوستراتيجية الحالية والتي تمثلت في استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، والعمل على احتواء الصعود الصيني، وتذبذب الموقف الأمريكي الحالي تجاه أوروبا خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، على أن يتولى قيادة هذه المراجعة الأمين العام السابق لحلف الناتو اللورد “جورج روبرتسون” بالتشاور مع عدد من الخبراء العسكريين ومسئولين وموظفين من حلف الناتو، وتشتمل هذه المراجعة على تطبيق سياسة “الناتو أولًا” للتأكيد على أولوية الأمن الأوروبي الأطلنطي، وتعزيز القدرات الدفاعية البريطانية بما تتضمنه من أولويات التسليح وسياسات التجنيد[2].

التهديدات والمخاطر:

تواجه بريطانيا العديد من التهديدات الأمنية التي تفرض على الحكومة البريطانية الجديدة سرعة التحرك لإجراء إصلاحات عسكرية، ويأتي على رأسها تزايد النفوذ الروسي في عمق القارة الأوروبية، فمع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، واتساع نطاق الصراع والانخراط الأوروبي في دعم كييف، فقد هددت روسيا بتحويل العواصم الأوروبية كافة إلى أهداف عسكرية عقب بعض الإجراءات التي اتخذتها بريطانيا والولايات المتحدة، بما في ذلك نشر صواريخ توماهاوك الأمريكية بعيدة المدى في ألمانيا، وتعزيز واشنطن علاقاتها الدبلوماسية مع دول البلقان من خلال إنشاء مبعوث خاص لها في تلك الدول.

فضلًا عن تنامي ظاهرة الإرهاب، فقد عاد تنظيم داعش إلى صدارة المشهد الأمني في أوروبا معتمدًا على أساليب وأنماط جديدة، وبروز تخوفات من إمكانية إقدام التنظيم الإرهابي على استخدام الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية في هجماته، وكذا تنامي اعتماده على هجمات الذئاب المنفردة التي تتسم بالعشوائية ويصعب توقعها أو رصدها وتركيزها على الأهداف الرخوة، كذلك، فقد ارتفعت معدلات تدفق المهاجرين وطالبي اللجوء عبر الحدود الأوروبية، وأدت السياسات التي اتبعتها بعض الدول للتصدي للأزمة، إلى اضطرابات اقتصادية ولوجيستية في منطقة شنغن، حيث أعلنت ألمانيا عن خطط لتشديد الرقابة على حدودها البرية، كما قامت فرنسا بتنفيذ عمليات التفتيش والمراقبة على الحدود مع دول شنغن معللةً ذلك بالتحديات التي يواجهها نظام اللجوء لديها والتهديدات الإرهابية المتزايدة، بينما مددت إيطاليا عمليات التفتيش مع سلوفينيا بسبب تدفق اللاجئين من أوكرانيا.

تحديات عسكرية:

جاءت مخططات الإصلاح العسكري في ظل تصاعد التحديات التي تواجه المؤسسة العسكرية البريطانية، حيث يتسم الجيش البريطاني بصغر عدده، الذي يقتصر على 76 ألف فرد في الخدمة، حيث يفتقد الجيش البريطاني إلى الكثافة والمرونة، وذلك على الرغم من احتلال بريطانيا المركز السادس على مستوى العالم في الانفاق الدفاعي، ويأتي التبرير لذلك بأن الموقع الجغرافي لبريطانيا لا يجعلها بحاجة إلى عدد كبير من القوات البرية المماثلة لشركائها الأوروبيين مثل ألمانيا وبولندا (181ألف جندي و187ألف جندي على الترتيب)، كما أن الهيكل العسكري للجيش البريطاني مصمم على افتراض أن الصراعات الحديثة ستكون قصيرة الأمد، مع ذلك، فقد دحضت الحرب الروسية الأوكرانية مثل هذه الرؤى، وأثبتت إمكانية اتساع أمد الصراع لسنوات عديدة وعلى عدة جبهات[3].

يُضاف إلى ذلك غياب الاستعداد النفسي للشباب، فقد كشفت نتائج استطلاع رأي أجرته مؤسسة “YouGov” عن عدم جاهزية المواطنين للخدمة الوطنية، فلا يزال المجتمع البريطاني لا يهتم كثيرًا بالانخراط في سياسات الأمن القومي، نظرًا لغياب الوعي والإدراك بحجم التهديدات التي تواجه بريطانيا وهشاشة موقفها الدفاعي، بخلاف الموقف لدى نظرائها الأوروبيين الذين ينتهجون مقاربات مختلفة، فمثلًا تتبع كل من السويد وفنلندا استراتيجية “الدفاع الشامل” الذي يدمج المدنيين في جهود الأمن القومي، وكذلك فقد قامت النرويج بتوسيع نطاق التجنيد ليشمل الذكور والإناث[4].

كما تنامت ظاهرة “الباب الدوار” التي تشير إلى خروج بعض المسئولين في وزارة الدفاع من مناصبهم للعمل في شركات صناعة الأسلحة التي أصبحت تمارس دورًا أساسيًا في عملية صناع القرار، مثل شركتي “بي إيه إي سيستمز” و”لوكهيد مارتن”، ثم يعود هؤلاء المسئولين إلى وزارة الدفاع كممثلين عن شركاتهم، وذلك لضمان عدم الإضرار بمصالح هذه الشركات التي تعمل بالأساس على تعظيم ربحها[5].

فيما ظهرت انتقادات بشأن تقادم برامج التدريب العسكري للجنود البريطانيين، مما يؤثر على جاهزية واستعداد الجيش البريطاني، من حيث استخدام تكتيكات تقليدية لا تناسب البيئة الأوروبية المتوترة، على الرغم من أن بريطانيا تعد أحد أبرز أطراف المواجهة ضد روسيا نظرًا لحجم الدعم الذي تقدمه لكييف، ولا يقتصر التقادم على برامج التدريب العسكري فقط، ولكن أيضًا على بعض أصولها العسكرية وقدراتها، ولجوئها إلى استيراد بعض المعدات والأسلحة من الخارج لسد الفجوة في الطلب التي لا يستطيع التصنيع المحلي تلبيتها[6].

وختامًا، تفرض التطورات التي تشهدها القارة الأوروبية العديد من التحديات على صانع القرار البريطاني لإجراء بعض التعديلات على سياساته الدفاعية بحيث تستطيع لندن مواكبة الأنماط غير التقليدية للتهديدات الأمنية، ولا تقتصر الإصلاحات العسكرية على نظم التسلح وأنماط التجنيد فقط، ولكنها امتدت إلى محاولات دفع المجتمع البريطاني للانخراط في المنظومة العسكرية ككل، واستيعاب حجم التهديدات الأمنية المستحدثة، فعلى الرغم من تواجد بريطانيا في حلف الناتو، فإنها تعد في شبه عزلة عسكرية عن أوروبا لعدة أسباب تكتيكية واستراتيجية (كونها جزيرة)، لذلك فقد ركزت على قدراتها العسكرية في المجال البحري والجوي فحسب وذلك من جانب، وعدم انخراطها في منظومة الاتحاد الأوروبي بعمق على الأرض وذلك من جانب آخر.

وتدفع هذه العوامل في مجملها ببريطانيا إلى تحويل وتطوير سياساتها وتخطيطها العسكري بشكل شامل، مع الوضع في الاعتبار نوايا حلف الناتو (والتي لم تتكشف تفاصيلها بوضوح حتى الآن) للتدخل العسكري في الحرب الأوكرانية في محاولة لإنهائها.


[1] George Allison, “Government announce huge changes to armed forces recruitment”, UK Defense Journal. 23 September 2024. Available at https://ukdefencejournal.org.uk/government-announce-huge-changes-to-armed-forces-recruitment/

[2] Nick Chaffey, “What we need from the Strategic Defense Review: We must adapt to the realities of an unstable, volatile era”, New Statesman, 23 September 2024. Available at https://www.newstatesman.com/spotlight/2024/09/what-we-need-from-the-strategic-defence-review

[3] لوسي دينير، “هل التجنيد الإجباري خيار أوروبا الأمثل للاستعداد لحرب عالمية ثالثة؟”، اندبندنت عربية. 17 مايو 2024. متاح على https://shorturl.at/9RpGt

[4] Rupert Charles De Mauley, “The failure of British and Nato deterrence After Russia’s illegal invasion of Ukraine, complacency in defence is no longer an option”, Prospect Magazine. 26 September 2023. Available at https://www.prospectmagazine.co.uk/world/europe/ukraine/68022/ukraine-war-wake-up-call-britain-army-defence

[5]  أيوب الريمي، “تقرير يعري العلاقات الوطيدة بين صناعة الأسلحة وصناع القرار ببريطانيا”، الجزيرة. 22 سبتمبر 2024. متاح على https://shorturl.at/oBMXc

[6] Joe saballa, “UK Military Training Outdated by 10 Years: Senior Official”, Defense Post. 25 July 2024. Available at https://thedefensepost.com/2024/07/25/uk-military-training-outdated/

الناتو والولايات المتحدة
مسارات التغيير في العلاقات العسكرية الأمريكية – الأوروبية
USAID
المستقبل المنظور للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)
Sudan Crisis
مسارات واتجاهات الأزمة السودانية
Latin america ch-us
الولايات المتحدة والتحركات الصينية في أمريكا اللاتينية
Scroll to Top