شهدت الساحة السياسية في كوريا الجنوبية مؤخرًا حالة من عدم الاستقرار السياسي وذلك عقب تصويت الجمعية الوطنية (البرلمان) لصالح عزل الرئيس “يون سوك يول” بتاريخ 14 ديسمبر الجاري نتيجة لفرضه الأحكام العرفية (حالة الطوارئ) في الثالث من ديسمبر مبررًا ذلك التحرك بهدف “القضاء على القوات الموالية لكوريا الشمالية، والحفاظ على الحرية والنظام الدستوري”، متهمًا المعارضة بالمشاركة في أنشطة مناهضة للدولة.
أوضاع مضطربة:
اتسمت الأوضاع السياسية في كوريا الجنوبية بعدم الاستقرار منذ تولي الرئيس يون سوك يول منصبه عام ٢٠٢٢، ويرجع ذلك لعدة أسباب، أبرزها: حادث “ايتوان” الذي راح ضحيته 159 شخصًا، بسبب حالة التدافع خلال أحد الاحتفالات في أكتوبر 2022، وتوجيه اتهامات بالتقصير من جانب الدولة في حماية المشاركين في الاحتفال. وقد تصاعد الرفض الشعبي تجاهه مع نهاية عام ٢٠٢٢ بعد مزاعم تورط زوجته في واقعة تلقيها حقيبة باهظة الثمن بما يُخالف القوانين المعمول بها في كوريا الجنوبية، إلا أن القضاء برأها لاحقًا من تلك التهمة، فضلًا عن اتهامها بالتورط في قضية تلاعب بأسعار الأسهم، قبل تولي يون الحكم.
كما شهدت العلاقة بين الرئيس والمعارضة خلافات مستمرة منذ توليه الحكم ووصلت إلى ذروتها مع رفض المعارضة مشروع موازنة الحكومة المقترح لعام ٢٠٢٥، ومررت المعارضة خطة موازنة مخفضة بشكل كبير، أثرت على حصيلة صندوق الاحتياطي الحكومي وميزانيات الأنشطة لمكتب الرئيس والنيابة العامة والشرطة ووكالة التدقيق الحكومية، وهو المقترح الذي صوتت لصالحه الجمعية الوطنية بعد اندلاع أزمة الأحكام العرفية ودون موافقة الوزرات الحكومية.
يرتبط بما سبق ميل يون، إلى تبني سياسة التهديد والمواجهة مع جارته الشمالية على خلاف الرؤساء السابقين، مما فتح الباب أمام توترات متواصلة بين الكوريتين.
تطورات مفصلية:
أعقب قرار الرئيس بفرض الأحكام العرفية احتجاجات شعبية واسعة اعتراضًا على تطبيقه، وطالب المتظاهرون بعزل الرئيس، فيما استطاع نحو 190 نائبًا – من أصل 300 – الدخول إلى مقر الجمعية الوطنية (البرلمان)، وصوتوا لصالح إلغاء قرار تطبيق الأحكام العرفية، وهو ما أقره الرئيس بعد ساعات، كخطوة لامتصاص حالة التوتر السياسي القائمة بين الرئيس والبرلمان وأداة لكسب الوقت وترتيب الأوراق.
حاول نواب المعارضة والذي يشغلون 192 مقعدًا من أصل 300 مقعدًا، عقد جلسة برلمانية أولى لتمرير مقترح عزل الرئيس، إلا أن انسحاب أعضاء الحزب الحاكم (حزب سلطة الشعب) من الجلسة أوقف إجراءات عملية العزل، لعدم اكتمال النصاب القانوني، وقد تزامن ذلك مع محاولات لعزل وزير العدل ورئيس الشرطة الوطنية – والذي قدم استقالته لاحقا – لدورهما في فرض الأحكام العرفية.
ومع محاولات المعارضة تمرير مشروع عزل الرئيس مرة أخرى استطاعت بالفعل إجراء جلسة أخرى بتاريخ 14 ديسمبر، ونجحت في حشد الأغلبية لصالح المشروع، حيث أيد مشروع القرار ٢٠٤ نائبًا، بينما رفضه ٨٥ نائبًا، وبُطلان ٨ أصوات، وامتناع ٣ نواب آخرين عن التصويت.
ومن الواضح أن هذه النتيجة جاءت بسبب التحول في توجه عدد من أعضاء الحزب الحاكم وتأييدهم عزل الرئيس، وهو ما يمكن تفسيره على أنه أقرب إلى المناورة السياسية لامتصاص حالة الغضب الشعبي، والحيلولة دون فقد أعداد أكبر من مؤيدي الحزب والرئيس، كما قد يرجع انضمام 12 نائبًا فقط من الحزب الحاكم لصالح تأييد قرار العزل وإبطال 8 نواب أصواتهم وامتناع 3 آخرين عن التصويت إلى حالة من التحسب والحذر من احتمالية عدم تأييد المحكمة الدستورية قرار العزل وهو الإجراء اللازم لتنفيذ القرار.
جدير بالذكر أنه قد صدر قرار اعتقال وزير الدفاع “كيم يونغ هيون” لتورطه في أزمة تطبيق الأحكام العرفية وذلك عقب تقدمه بطلب استقالة وافق عليها الرئيس، كما فُتح تحقيقًا مع الرئيس بتهمة التمرّد، تلاها إعلان وزارة العدل منع الرئيس من السفر، مع مداهمة الشرطة لمقرات ومؤسسات تنفيذية للبحث عن أدلة، كما أنه في أعقاب تصويت الجمعية الوطنية لصالح عزل الرئيس، فقد انتقلت صلاحيات الرئاسة إلى رئيس الوزراء “هان دوك سو” مؤقتًا لحين نظر المحكمة الدستورية في قرار العزل، أو تأييده وإجراء انتخابات رئاسية جديدة.
سيناريوهات مطروحة:
إن مستقبل الأوضاع السياسية في كوريا الجنوبية قد يشهد عددًا من السيناريوهات، فقد يتخذ الرئيس يون قرارًا بالتنحي عن حكم البلاد قبل تأييد المحكمة الدستورية لقرار عزله، خاصةً مع تصاعد الرفض الشعبي له، وتأييد الرأي العام والعديد من المؤسسات الكورية المعنية وأبرزها الجمعية الوطنية لعزله، لكن إصرار الرئيس على التمسك بالحكم، وهو ما ظهر في خطابه الذي ألقاه في 14 ديسمبر بعد قرار الجمعية الوطنية بعزله والذي أشار فيه إلى استعداده للنضال للمحافظة على منصبه.
على جانبٍ آخر، هناك احتمالية أن تؤيد المحكمة الدستورية قرار عزل الرئيس، حيث يستلزم قرار العزل لتطبيقه فعليًا استصدار قرار مماثل من المحكمة الدستورية، ولكن يتطلب تأييد المحكمة أن يوافق عليه ستة قضاة على الأقل من أصل تسعة، وذلك بحضور سبعة على الأقل لاكتمال النصاب القانوني، في حين يوجد حاليًا ستة قضاة فقط نظرًا لتقاعد الثلاثة الآخرين مما يجعل القرار صعب التنفيذ واقعيًا، لحين تعيين قضاة جدد، مع العلم بأن الحزبين الحاكم والمعارض على خلاف بشأن كيفية تنفيذ هذا الأمر، وما إذا كان من صلاحيات رئيس الوزراء تعيين هؤلاء القضاة، وبالتالي فإن هذه الخطوة تشكل عاملًا مهمًا لسرعة تأييد أو رفض قرار العزل.
وفي حال أيدت المحكمة الدستورية قرار العزل، فمن المرجح أن نشهد حالة من تداول السلطة بأن تصبح المعارضة في مقاعد الحكم بعد الدفع برئيس الحزب الديمقراطي المعارض “لي جاي ميونغ” للترشح لمنصب الرئيس، وذلك لما حققته المعارضة من شعبية كبيرة عقب أزمة الأحكام العرفية، فضلًا عن أنه سبق وشارك رئيس الحزب في أخر انتخابات رئاسية عام ٢٠٢٢ أمام الرئيس يون وخسر بفارق ضئيل جدًا مما يشير إلى امتلاكه قاعدة جماهيرية بالفعل.
بينما تتضاءل فرص نجاح الحزب الحاكم في حال إجراء انتخابات جديدة، خاصةً مع تراجع شعبية الحزب – على الرغم من موقفه الحالي المؤيد لعزل الرئيس – حيث أظهرت نتائج استطلاع أجرته وكالة “ريال متر” في يومي 12 و13 ديسمبر عن حصول الحزب الديمقراطي المعارض على نسبة تأييد 52.4% وهي من أعلى نسب التأييد التي حظي بها خلال فترة الحكومة الحالية، في حين حصل حزب سلطة الشعب على نسب تأييد 25.7%[1]، يُضاف إلى ذلك تراجع التماسك داخل حزب سلطة الشعب، حيث تنحى رئيسه “هان دونغ-هون” في 16 ديسمبر، ليخلفه مؤقتًا زعيم الكتلة البرلمانية للحزب “كوون سيونغ-دونغ”.
[1] “استطلاع: الفرق بين نسبتي تأييد الحزبين الحاكم والمعارض الرئيسي يصل إلى أعلى مستوى”، وكالة يونهاب للأنباء. 16 ديسمبر 2024. متاح على https://ar.yna.co.kr/view/AAR20241216001400885?section=politics/index